ان فرضية تغيير الواقع المتخلف في الوسط السياسي وإنهاء معالم الفساد الاداري والمالي بات من اهتمامات الجميع ممن يعتنقون مبدأ المواطنة النقية للدولة العراقية. ولعل اكثر الجهات المعنية في اطار المسئولية القانونية بهذا التغيير الجوهري هي السلطة التنفيذية متمثلة برئيس الحكومة حيث يستمد سلطاته كما منحها الدستور لعام 2005 في نص المادة 74 باعتباره المسئول التنفيذي الاول عن السياسة العامة للدولة . ولانجاز اي برنامج اصلاحي فانه يتوجب ايضا على السلطتين التشريعية والقضائية تنفيذ التزاماتهما الدستورية بأمانه وصدق ، وتسهيل وضع برنامج الاصلاح موضع التنفيذ تبعا لمقومات مضمونه وما يحتاج اليها من الاليات الموضوعية الملائمة .
ان واقع الحال للحكومة العراقية ينذر بظروف قاسية و حاسمة من الناحية الامنية حيث انها في حالة حرب شرسة ضد عدو مجهول الهوية البشرية، بالإضافة الى الظروف الاقتصادية والخدمية التي يصعب فيها التراخي او خلق الحجج المعرقلة لتصحيحها التي تتطلب ايجاد الحلول الملائمة لها وكما خطط لها المنهج الاصلاحي للسلطة بالإضافة لضرورة اعتماد قواعدها من اجل النهوض الشامل للوطن والمواطن.
ولكن كيف يحصل هذا الانجاز مع واقع تسود فيه معالم التخلف السياسي في (النوايا) والسلوك لبناء دولة متحضرة ومعها الافتقار للخبرات والمؤهلات العلمية لدى العاملين وأصحاب الشأن المنتفعين من حالة التدهور في مرافق الدولة ؟ فهل بات ضروريا تفعيل استقطاب المهارات والكفاءات الوطنية اينما وجدت للنهوض بواقع المؤسسات والهيئات التنفيذية عامة في كافة فروعها وتخصصاتها ؟ وتبعا لهذين الافتراضين ، ما مدى نجاح رئيس الوزراء في تحقيق منهج الاصلاح الحكومي ومجابهة هذين المتضادين في الاسباب والنتائج ؟
طبقا لما اعلن عنه المتحدث باسم الحكومة هو تشكيل لجنة من الاكاديميين والاستشاريين داخل مجلس الوزراء تتولى تقديم واختيار التكنوقراط لشغل المناصب الوزارية يهدف توفير القيادة المؤهلة باستقلالية ونزاهة لتنفيذ الاصلاح .
ومع ذلك ، لا زال اختيار الاسماء سيخضع لمزاج الكتل السياسية وتوافقانها في الترشيح و كذلك بالموافقة داخل البرلمان ، فمن المؤكد انها ستعمل على ان يكون نوع الاختيار هو الاقرب والأكثر ضمانا لتحقيق مآربها ومقاصدها ومنافعها . عند ذلك تبقى هذه الكتل السياسية دائما ماسكة لبوصلة مسار عمل الوزراء وتحت وصايتها . فأين هو اذا مبدأ استقلال رئيس الحكومة في انتقاء وزراءه ؟ ونكرر دائما بان من معايير نجاح عمله هو التمسك بمبدأ الاستقلالية التامة باختيار اشخاص وزارته ضمن المقاييس العلمية والمهنية اللازمة لأداء الواجبات ، لا ان يكون مكرها على هذا الاختيار. ثم ماذا قدمت التوافقات السياسية من نتائج ايجابية لبناء الدولة العراقية منذ 2003 ولحد الان طالما تدخلت في ترشيح الوزراء ؟ اليست هي مصدر انهيار نظام الحكم وتردي الخدمات وانهيار البنى التحتية وعدم تحديثها وسرقة المال العام وتفشي البطالة بين الشباب والقائمة تطول . بكل هذا الاخفاق تبقى هذه الكتل السياسية تتمسك ان يكون لها الكلمة الفصل والتدخل في اجراءات الاصلاح الحكومي ( وهي غير راغبة فعليا لها ) ومنها اختيار الوزراء التكنوقراط بصفات النزاهة والاستقلالية . والمراقب للوضع العام المتأزم هو ان تتنحى هذه الكتل جانبا لتنحصر مسئولية الاختيار لاعضاء الوزارة في شخص رئيس الوزراء لنرى النتائج ان كان قادرا على تنفيذ هذه الحركة الاصلاحية لغاية انتهاء الدورة الانتخابية . وعند ذلك لكل حادث حديث .
وكما تطرقنا في مقالة سابقة في تقييم موجبات الاصلاح الحكومي ... بان كفاءة الوزير ومؤهلاته العلمية والمهنية لوحدها قد لا تؤتي بثمارها كما يتوقع الجميع اذا ما كان يعمل ضمن منظومة متهرئة من علاقات وآليات العمل التنفيذية التي يتعامل بها وفي اطارها . لقد ترهلت مؤسسات الدولة سواء في بناها التحتية التي فقدت قدراتها وتخلفت بفعل الحصار الطويل الذي تعرضت اليه ، وافتقارها الى انظمة قانونية متطورة وخطط استثمار مستقبلية مهما كان تخصصها صناعية او خدمية او صحية او تعليمية هذا من جانب ومن جانب اخر هو ان التكنولوجيا الحديثة والمعلوماتية لم تدخل بشكل جدي لتسهيل خطط البناء والتنمية ومثال ذلك حالة النقل العام والمصارف الحكومية وغيرها .وهذا الواقع هو الذي يدفع باتجاه خصخصة كثير من المؤسسات الحكومية لإنقاذها تقنيا واداريا وماليا . والأكثر خطورة هو نشأة الخلايا المنتفعة في كل مؤسسات الدولة بسبب المحاصصة السياسية وتقسيم غنائم العقود . وهذه التكتلات هي بالضرورة تعارض وتعرقل من تطوير العاملين علميا ونزاهة ، او السماح باستثمار قدرات المهارات
وذوي الكفاءة والخبرة لتطوير اغراض المؤسسة وإزالة مصادر الاضرار بالمال العام وتنفيذ مشاريعها بالمواصفات الصحيحة وانجازها بأوقاتها ضمن نصوص العقد لكل منها دون تأخير.
بهذه الوقائع وحالة التخلف الانساني وانعدام روح المواطنة ، كيف يمكن النهوض بمقومات الاصلاح الحكومي ؟ فهي تعرقل اية خطوة في الاتجاه الصحيح .ولنا في هذا بعض الوقائع نذكر منها موضوع الامر الديواني المرقم 7238 في 12.5.2014 بتعيين الدكتور صلاح باقرالموسوي كوكيل وزارة النفط . والمعروف عنه في الكفاءة والمهنية والخبرة الطويلة في اختصاص تكنولوجيا الحقول النفطية والغازية والصناعات النفطية. إلا ان الامر الديواني المذكور اعلاه تم اغفاله من قبل الامانة العامة وعدم تنفيذه لحد الآن لعدم تحقق المنفعة الحزبية الضيقة بسبب المحاصصة لتقاسم السلطات والغنائم ، حيث انها تتقدم على المصلحة العامة في نظر الكتل السياسية الحاكمة. كيف سيتمكن السيد العبادي من مواجهة هذا الواقع ووضع الشخص الملائم في المكان الملائم تبعا لمعايير المؤهلات والخبرات وبالتالي تتحقق امكانية تطبيق اجراءات الاصلاح الفعلية ؟
ان هذا الواقع المتخلف في تجاهل الكفاءات العلمية والمهارات وذوي الخبرات وعدم تسهيل استقطابها كي تساهم في تغذية مؤسسات الدولة وتطويرها علميا وتقنيا ونزاهة ، كان من مقاصد الاحزاب الحاكمة في العملية السياسية ولحد يومنا هذا . ولقد دعونا الى ضرورة اعتماد هذه الشريحة منذ مؤتمر الكفاءات في كانون اول 2008 باستقطابها واستثمارها كمشروع وطني للنهوض ببناء الدولة العراقية العصرية سواء كانت عناصرها في داخل الوطن او في المهجر. وكان للسيد العبادي حينها حضور دائم لإغراض النقاش واستعراض الآراء .ولقد كانت لي شخصيا ورقة عمل بخلق نظام قانوني لهذا المشروع الوطني حيث يهدف الى استثمارا لمواهب و تحشد الطاقات المعرفية المهنية منها والعلمية التي تتمتع بها الكوادر والكفاءات العراقية وخاصة في المهجر.
ومفهوم استقطابها ( الكفاءات والمهارات والخبرات ) هو تعريف شامل لكل ما هو ممكن لتحقيق هذا المشروع . وافترضنا بان هذا الاستقطاب لا يعني بالضرورة التواجد الجغرافي للجميع في العراق وإنما العودة الافتراضية الغير مباشرة لمن هم في المهجر والتي تقود الى نتيجة مفادها ومحصلتها هوان تصب كافة الامكانات والجهود والخبرات في اغراضها ومقاصدها وفي اطار برنامج الدولة العراقية للنهوض والتطور. وقد يكون ذلك اكثر نفعا بالنسبة لكثيرين في استثمار عطاؤهم خارج الحدود الاقليمية للعراق في مراكز بحوث علمية ومختبريه ، اي
في جغرافية البلدان التي تقطنها هذه الكفاءات ، قريبة من عالم التكنولوجيا الحديثة ومنشأ الثورة المعلوماتية ، وكذلك الاطلاع على اجراءات بناء الدولة العصرية وقواعد العمل التي تحكمها ، فتكون مصدرا وطنيا مهما للمعلومات . وكذلك تأسيس مراكز استشارية ترفد وزارات الدولة بالدراسات والمشاريع في كل حقول المعرفة الخدمية او الصناعية وغيرها .
إلا ان من الاوليات حاليا في نهوض مستوى الاداء لمؤسسات الدولة هو العمل السريع لإعطاء ذوي الخبرة والمهارة والكفاءات العاملة والمتوفرة قاعدة الدور الريادي و منحها الدعم القانوني والإداري بتحمل مسئولية تنفيذ خطط الاصلاح الحكومي . كذلك الدعوة الجادة في البحث عن هذه المهارات واستقطابها كي تساهم فعليا في انجاز خطط الخدمات العامة ومشاريع البناء والتنمية . وبتوفيرها سنقدم الاليات المناسبة من العاملين المهنيين قلبا وقالبا لمؤازرة الوزراء التكنوقراط وتسهيل انجاز مهامهم ومشاريعهم . ومن المؤكد ضرورة اعطاء الاهمية القصوى للتعليم الصناعي والخدمي والتأهيل المهني في المدارس الثانوية وكذلك الجامعات العلمية بكافة اختصاصاتها لتوفير الطاقات والقدرات للنهوض والتطوير . يأمل الجميع مغادرة الغابة السوداء المعتمة ، ويكون هذا خاضعا للنوايا الحسنة للقادة في بناء الدولة العراقية المتحضرة ولشعب متحضر.
مقالات اخرى للكاتب