المثقف هو صوت الامة وروحها الحية ، ومن البداهة ان يكون خارج فكر الطائفة ان لم يكن خارج منطق الدين ، ولااقصد بذلك تخليه عن فضاء حريته الشخصية وحقه في الانتماء لدين معين وتمذهبه على ضوء ذلك الانتماء ،ولكننا نفترض ان فضاء المثقف الفكري هو فضاء الانسانية غير المحدود الذي لايحبس نفسه في قبو الطائفة واغلال الدين المانعة للتفكير الحر الا اذا كان يعتقد بأن سفينته الطائفية هي الناجية وان مراكب الاخرين هي مجرد حطام قابل للغرق ، عندئذ سيخرج من دائرة المثقف ليدخل الى سراديب الدعاة مهما كان القناع الذي يرتديه ليبراليا او وطنيا او دينيا سافرا.
لقد شكلت دعوة مجموعة من المثقفين العراقيين للخروج من سفن الطوائف الى بر الانتماء الوطني الرحب خروجا جريئا على المقدس المألوف في سابقة قد تذكرنا بمانفستو 121 الذي وقعه سارتر مع 121 من مثقفي فرنسا للتنديد باحتلال فرنسا للجزائر في 6 سبتمبر من عام 1960حين لم يكن يجرأ احد على التضامن مع الجزائر ، مع اختلاف الموقف والتفصيل في الحالتين ، ولكن تلك الدعوة تثير في الواقع عدد من الاشكالات الاساسية التي سنعرج عليها بصورة مختصرة:
اولا : اشكالية المثقف العربي هو انه اساسا كائن مهمش مبحوح الصوت يكاد لايسمعه احد في محيطه الاجتماعي المتخلف،كما ان السلطة تحاول جاهدة ان تبقيه معزولا ومحاصرا في منطقة خارج التغطية (ان استعرنا هذا المصطلح من تقنية الاتصالات )، فعلاقة المثقف العربي مع السلطة علاقة ملتبسة ومخيفة احيانا، وتحاول السلطة سلوك امرين لمعالجة هذ الامر ، اما احتواء المثقف عبر الوظيفة وامتيازاتها او اسكاته من خلال سلب حريته او سلب حياته ان اقتضى الامر، ومع نسبة الامية التي تبلغ بين 35 الى 45% من عدد السكان في المنطقة العربية ، وارتفاع نسبة الفقر الى 83 % في اغلب دولها، وتجذر الانتماء الديني والطائفي للانسان العربي (كملاذ امن ووهمي احيانا من صعوبات الحياة الهائلة التي يواجها في محيطه) ، يجد المثقف نفسه يحرث في البحر ، فهو لايملك ميلشيات او مؤسسات اقتصادية اواعلامية مؤثرة تستطيع ان تحميه او تحقق له الكفاية الاقتصادية اوتستقطب تأييد الناس له ، وهكذا لانتوقع من المثقف العربي ان يفعل الكثير رغم ان ذلك لايعني الانكفاء امام هذا الحصار وكأنه قدر محتوم ، ويذكرنا نجاح الاعلامي المصري باسم يوسف بان المثقف قادر احيانا على نحت طريقه في الصخر.
ثانيا : كما نعرف ، ان الانتماء للطائفة ليس الاميراثا شخصيا ترثه من عائلتك وتاريخا تنتسب اليه رغما عنك ، وان تكون رافضيا او ناصبيا او نصرانيا كافرا حسب مصطلحات التطييف الشائعة ،ليس اختيارا تمارسه بل طابعا شخصيا يشمل حتى اسمك في الكثير من الاحيان ، فكثير من اسمائنا تكشف عن هويتنا الطائفية الموروثة وكان القتل الطائفي في بغداد خلال سنوات 2006-2007 يجري على ضوء الاسم الموجود في البطاقة الشخصية.
لم تعد الطائفة الوجه المذهبي المميز للانسان العربي فحسب بل هي حاضنةاجتماعية واقتصادية احيانا كما هو الحال في لبنان مثلا وهي العشيرة الكبرى التي يحتمي تحت سقفها ، والخروج من هذه الشرنقة الطائفية ليس مسموحا بالمرة فمادامت الطائفة ترى نفسها الممثل السامي للرب فستعتبر هذا المروق ، خروجا من الملة ، وان لم يجري قتل المارق بطريقة او باخرى فسيعيش معزولا ومقاطعا هو وعائلته موسوما بالخيانة ، الا ان قدر له ان يعيش في بلد اخر ومجتمع اخر لايمارس التمييز الطائفي وهي حالة نادرة عربيا.
وهكذا فالحل الممكن الان هو الخروج من الطائفة على صعيد الفكر ومايتصل به من ممارسة، اي مغادرة الفكر السياسي للطائفة ومايترشح عنه من احتدامات وصراعات تتسرب من اقبية التاريخ ، ويراد نفخ الحياة فيها وتجسيدها على مسرح الواقع الراهن بصورة او باخرى لخدمة امراء الطائفة وتكريس مصالحهم ، وهذا الخروج يجب ان يترجم في سلوك وتفكير الشخص تجاه الاديان والطوائف الاخرى من خلال الاحترام الحقيقي والمشاركة العملية والوجدانية مع ابناء الطوائف الاخرى وتعضيد هذا السلوك من قبل المثقف وتطويره دوما هو المعيار لمصداقية الخروج من اسر الطائفية الى رحاب المحبة الانسانية الرحبة.
ثالثا : ان الحل الحقيقي لمسألة الطائفية يكمن في قيام دولة مدنية عادلة قادرة على بلورة الهوية الوطنية الواحدة فهي السبيل لوضع الطائفة في مكانها الحقيقي وهوالمسجد او الكنيسة ، وبدون ذلك تبقى الحلول الجزئية جرعات مسكنة لاتداوي اوجاعا تاريخية مزمنة وسرعان ماينتهي مفعولهاعندما ينشب اي صراع طائفي ، ان المواطنة هي الطائفة الوحيدة الشاملة التي يمكن الانتساب اليها و هي البديل المستقبلي لطوائف الدين ويجب ان نسعى جميعا لهذا الهدف مهما طال الوقت ، لانه الحد الفاصل بين الحياة والخراب لشعوب هذه المنطقة .
مقالات اخرى للكاتب