عشر سنوات مرّت على احتلال العراق، وعلى الرغم من الانسحاب الأمريكي من العراق في أواخر العام 2011 فإن ذيوله وتأثيراته مستمرة، لا سيما وأن اتفاقية الاطار الاستراتيجي التي تم التوقيع عليها في العام 2008 لا تزال نافذة المفعول وهي غير محدّدة بزمن، ومع انتهاء مفعول الاتفاقية الأمنية التي ثار الجدل طويلاً حولها، ولا سيما رغبة بعض الأوساط في توقيع اتفاقية جديدة على مقاسها، لكن أوضاعاً وظروفاً تتعلق بالعراق وأخرى بالولايات المتحدة حالت دون ذلك، واضطرّت واشنطن إلى الانسحاب، حتى دون رغبة بعض حلفائها العراقيين.
إن اتفاقية الإطار الاستراتيجي وإن كانت أكثر نعومة، لكنها الأكثر خطورة، إذ أنها تكبّل العراق وترهق كاهله، وتجعله من الناحية الفعلية تحت الوصاية الأمريكية، حتى وإن كان الحديث في إطار " الصداقة والتعاون" سياسياً واقتصادياً وثقافياً وغير ذلك، كما نصّت عليه، بحيث لا يمكن تجاوز نفوذ واشنطن " الفعلي".
ثلاث عوامل أدت إلى الانسحاب الأمريكي من العراق:
العامل الأول– المقاومة السلمية- المدنية التي واجهتها الولايات المتحدة والتي لم تكن تتصورها، إضافة إلى المقاومة المسلحة، وقد سبّبت لها خسائر مادية ومعنوية كبيرة، ليس أقلّها الأرقام الرسمية، حيث خسرت نحو 4800 قتيل و26 ألف جريح وأكثر من تريليون دولار حتى نهاية العام 2008، وقد وصل الرقم إلى نحو ضعفين، كما أشارت تقارير أمريكية ودولية مؤخراً.
والعامل الثاني- ضغط الرأي العام الأميركي والأوروبي والغربي، عموماً بخصوص لا أخلاقية الغزو، سيما بعد الفضائح الكثيرة التي رافقته، ناهيكم عن كونه لم يحظ بترخيص من الأمم المتحدة أو المجتمع الدولي، الأمر الذي وضع أكثر من علامة استفهام حوله، خصوصاً بعد الخسائر التي تعرّضت لها واشنطن في العراق.
والعامل الثالث- الأزمة المالية والاقتصادية العالمية التي اجتاحت الولايات المتحدة، وضربتها بالصميم وادّت إلى انهيار مصارف كبرى وشركات تأمين عملاقة، وهي لم تعد قادرة على استمرار احتلالها الذي كلّقها أثماناً باهظة.
بعد عشر سنوات تندلع احتجاجات واسعة في العراق تهدد العملية السياسية برمتها، بل تجعلها على الحافة، خصوصاً وأن المحاصصة المذهبية والإثنية، والارهاب والعنف والفساد المالي والإداري لا تزال تطبع المشهد السياسي، على الرغم من تحسّن الوضع الأمني قياساً بالعام 2006، لكن اختراقات مستمرة ظلّت تداهمه لدرجة لا يمكن معها الإطمئنان أو الثقة إلى استقرار الوضع الأمني الذي هو جزء من استقرار الوضع السياسي، وثمة أسباب دفعت للاحتجاجات الحالية، خصوصاً في ظل شعور أوساط معينة من المحافظات الغربية والشمالية التي يقطنها السنّة بالإقصاء والتهميش.
لعل السبب الأول هو عدم إتمام المصالحة السياسية الوطنية، خصوصاً وأن الكثير من القوى لا تنظر إليها باعتبارها مسألة راهنية وحاسمة في التطور السياسي الحالي والمستقبلي، ناهيكم عن أنه لا توجد بيئة صالحة للشروع بها وتحقيقها، وإذا كان المقصود هو أن تلقي بعض الجماعات المسلحة السلاح وتنتقل من تصنيف الارهابيين إلى تصنيف الأصدقاء، فيما إذا تعاونت مع التيار السائد في الحكومة، فتلك لن تؤسس لمصالحة حقيقية، لأن هذه القوى سرعان ما تعود إلى العنف وحمل السلاح، إنْ لم تحصل على امتيازات وشروط، وهي تريدها مستمرة ومتواصلة، في حين يقتضي إلقائها السلاح، التوجّه إلى العمل المدني والخدمة الوظيفية المدنية، دون أية اشتراطات الاّ حكم القانون.
وبسبب الصراعات السياسية بين الكتل القائمة، فإن هذه المجموعات أحياناً تنتقل من هذا التحالف إلى خصمه بحكم الامتيازات التي تحصل عليها أو التي توعد بها، وبعضها يلتجئ أحياناً إلى بعض دول الجوار لمساعدته، لأسباب ومبررات لا تبدو في الكثير من الأحيان مقبولة.
أما إذا كان المقصود بالمصالحة حزب البعث الحاكم سابقاً فهو مستهدف بحكم قانون الاجتثاث، وقانون المساءلة والعدالة لاحقاً، كما أنه هو الآخر حين كان في السلطة أراد أن يجتث الآخرين بإصدار قرار بإعدام أعضاء حزب الدعوة بأثر رجعي يوم 31 آذار (مارس) 1980 وفعل الشيء نفسه بالنسبة للحزب الشيوعي حين حدد موعداً (العام 1980) للقضاء عليه، وانتهك حقوق الكرد وشن حروباً عدوانية ضدهم. إن حزب البعث نفسه لا يؤمن بالمصالحة ومثله مثل الحكومة العراقية، كل يريد اجتثاث الآخر ويتهم خصمه بشتى التهم.
قد يكون مناسباً الحديث عن العدالة الانتقالية، التي تعني كشف الحقيقة كاملة عما جرى ولماذا جرى؟ ومن ثم المساءلة للمرتكبين في الماضي والحاضر، وفيما بعد وترافقاً مع ذلك تعويض الضحايا وجبر الضرر، وأخيراً إصلاح الأنظمة القانونية والقضائية والأمنية لكي لا يتم تكرار ما حصل.
للأسف الشديد فإن مبادئ العزل والإقصاء والتهميش والإلغاء ظلّت مهيمنة على عقلية الحكّام، بل الأكثر من ذلك حين يتحوّل الاجتثاث إلى سلاح يُرفع بوجه كل من يرفض العملية السياسية أحياناً، وهو سلاح مزدوج، فلغرض التطويع والترويض، يتم غضّ النظر عن الارتكابات السابقة، إذا أعلن الولاء للحاضر، بمسوّغ "التوبة"، والعكس صحيح فإن الأفكار تحارب ويتم السعي لتحريمها، في حين يظل المرتكبون بمعزل عن المساءلة والعقاب.
ولكي لا تتحوّل المسألة إلى ثأر وكيدية وانتقام، فلا بد من إلغاء القانون، أما المرتكبون فيمكن احالتهم للقضاء، وأخذهم بالتسامح ووفقاً لمعايير العدالة الانتقالية، لكي يتم استعادة المجتمع لوحدته والمصالحة مع نفسه. ومن المفارقات أن ينتقل مثلاً أحد الذين تم رفضهم لشمولهم بقانون الاجتثاث إلى نائب لرئيس الوزراء بعد صفقة سياسية، وهكذا الأمر بالنسبة لعدد من الموظفين الكبار والعسكريين من الضباط، الذين تم تعيينهم وكالة في حين أنهم مشمولون بقانون الاجتثاث.
وحتى الآن لم تتبلور رؤية لطائف عراقية وإن كان " إسقاط" الارتكابات، أمرٌ يقرره القضاء، وليس اتفاقيات سياسية، الاّ أن أي اتفاق سياسي يمكن أن يحلحل القضية القانونية، ولاشك أن وراء كل مشكلة قانونية إشكالية سياسية، وهذه هي الأساس. وإذا كان لإيران أو غيرها تأثير في العراق، فإن الأمر يتعلق بدرجة وعي وقدرة الفرقاء في التوصل إلى ما هو مشترك، لكن الإرادة السياسية لا تزال قاصرة، ونزعات احتكار العمل قائمة، ورغبة البعض في عودة الماضي مستمرة، والاحتكام إلى صندوق الاقتراع وفقاً لقواعد جديدة للعبة السياسية لازال غائباً.
ويلعب العامل الخارجي الدولي والإقليمي دوراً كبيراً في العراق، الذي هو نصف لواشنطن ، حتى بعد الانسحاب الأمريكي من العراق، لكن نصفه الآخر لطهران، ولا يعني ذلك أن خط الساسة العراقيين يسير باتجاه منطقة الصفر أو "الزون" الفاصل بينهما، فهما متداخلان ومتشابكان، ويحاول بعض الساسة اللعب في منطقة الوسط، أي منزلة بين المنزلتين، وهو ما سعى إليها نوري المالكي رئيس الوزراء ولا يزال حتى الآن.
في آخر زيارة لواشنطن (أواخر العام 2011) أبلغ الرئيس أوباما رئيس الوزراء العراقي المالكي، بأن واشنطن ستدعمه، ولعل ذلك ما كان قد قررته الولايات المتحدة سابقاً عند دعمها له للعودة إلى رئاسة الوزراء، لأنها لم تكن ترغب في فرض من تريده(د. إياد علاوي) لأن فشل الأخير سيعتبر فشلاً لها، في حين أن فشل المالكي لا تتحمله، وقد أدركت واشنطن دور ونفوذ طهران، فهي لن تدع علاوي في السلطة، وإذا بقي فيها فستجد له ما ينغّص عليه كثيراً وفي نهاية المطاف سيفشل، كما أن إيران ارتضت بالمالكي وإنْ كانت تريد من هو أقرب إليها، لكنها فكّرت أنه سوف لا يلعب بحديقتها الخلفية، في حين أن واشنطن قدّرت أنها يمكن أن تدفع المالكي لمشاغلة إيران أو ممانعتها، وكلا الأمرين كانا على درجة من المعقولية والبرغماتية، الإيرانية والأمريكية.
من الخطأ القول أن السنّة حكموا العراق، واليوم جاء دور الشيعة، وهو خطأ آخر، ولعلّ من حكم باسم هذه الفئة أو تلك وباسم العرب أو غيرهم لم يكونوا سوى حكّام حاولوا تسخير كل شيء بما فيها الطوائف والقوميات وحتى الأديان، لخدمة مصالحهم، واستخدموا مختلف الأساليب للبقاء في السلطة. لذلك فإنك ستظلم السنّة مرتين في الأولى، عندما تقول أنهم حكموا العراق، وفي الثانية عندما تريدهم أن يدفعوا ثمناً لذنب لم يرتكبوه، كما أنك تظلم الشيعة اليوم، عندما تقول أنهم يحكمون العراق، وهم الأكثر معاناة، حتى وإن تمتع بالامتيازات شيعة الحكم، وهم فريق سياسي، لا يمثلون الطائفة ولا يعبّرون عن تطلعاتها، التي هي تطلّعات غالبية العراقيين في الأمن والكرامة والحرية واستعادة هيبة الدولة وتحسين الوضع المعاشي بإعادة الخدمات الصحية والتعليمية والمواصلات وتأمين الحصول على عمل مناسب وتأمين الضمان الاجتماعي والتقاعد والقضاء على البطالة وغير ذلك من جوانب الرفاه الاجتماعي.
لعل أكثر ما يهدد العراق هو خطر التقسيم فعلياً، وقد جاء اليوم لوضع المشاريع الكثيرة الخاصة بالتقسيم والتي بقي بعضها الأدراج موضوع التطبيق، انطلاقاً من مشروع برنارد لويس القاضي بتحويل المنطقة إلى 41 إمارة أو دوقية أو كانتون، إضافة إلى مشروع بريجنسكي مستشار الأمن القومي الأسبق في كتابه "أمريكا والعصر التكنوتروني"، والقاضي إلى تحويل المنطقة إلى أقليات عربية، شيعية، سنّية، كردية، مسيحية، درزية، علوية....الخ حيث ستكون إسرائيل فيها الأقلية المتميّزة، تكنولوجياً وعلمياً وثقافياً وتنموياً، فضلاً عن كونها محظية الغرب، أو ما قال كيسنجر بشأن تقسيم المنطقة: علينا خلق إمارة أمام كل بئر نفط.
وكان فولر من مؤسسة راند الأمريكية القريبة من المخابرات المركزية الأمريكية قد طرح سؤالاً في العام 1992، هل يبقى العراق موحّداً في العام 2002؟ وذلك بعد ترويج لكيانيات عراقية، شيعية ، سنية، كردية، وبعد عمل طويل ومنظّم للعديد من مراكز الأبحاث، وخصوصاً خلال الحرب العراقية- الإيرانية:
وعند وقوع العراق تحت الاحتلال في العام 2003 نشط جو بايدن، نائب الرئيس الأمريكي الحالي ولا سيّما في العام 2007 بالحصول على موافقة الكونغرس حول تقسيم العراق إلى ثلاث كيانات ووضع نقاط تفتيش وسيطرة وحدود فاصلة للعبور وهوّيات أشبه بجوازات سفر وقد فاتح العديد من أعضاء مجلس الأمن، لا سيما الدئمي العضوية للحصول على تأييدهم لمشروع التقسيم.
ولعلّ ما يجري في الأنبار اليوم وفي نحو 5 محافظات هي: صلاح الدين والموصل وديالى وكركوك وأجزاء من بغداد، من حركة احتجاج يمكن أن كون نواة جديدة لكيانية عراقية لو تكرّست، ستقارب شكلاً من أشكال الكونفدرالية مثلما هو الوضع الكردي حالياً، خصوصاً وأن مفهوم الفيدرالية وسقفها وحدودها لا يزال ملتبساً من الناحية النظرية في الدستور، إضافة إلى النواحي العملية. ولا يمكن مع مرور الأيام، إعادة القديم إلى قدمه، فيما إذا تمكّن أمراء الطوائف من الحصول على امتيازات ومكاسب ، وفي هذا يصبح الأمر الواقع واقعاً.
التقسيم لا يتم دفعة واحدة، ولعلّ جميع اللاعبين السياسيين، ولاسيما الدوليين لا يريدونه حالياً، فدول الجوار الإقليمي بما فيها إيران وتركيا وسوريا والمملكة العربية السعودية والأردن، والدول الكبرى، وخصوصاً الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لا تؤيده، بل تخشى من انعكاساته السلبية على دول المنطقة، وإن كان بعضهم وعلى رأسهم " إسرائيل" يميل إليه سواءً جاء صارخاً أو على نحو تدريجي وبطيء بحيث يصبح الأمر الواقع واقعاً.
كان جو بايدن نائب الرئيس الأمريكي الحالي قد طرح مشروع الفيدرالية الثلاثية، وحسب مفهومه فهي أقرب إلى الكونفدرالية، بل أكثر من ذلك هي دوقيات أو كانتونات، حيث يتم وضع جك بوينت (CHECK POINT) على حدود بعضها البعض، وتنظيم هويات (أقرب إلى باسبورات) وتشكيل قوة مسلحة تبلغ نحو 300 ألف جندي تفصل بين الحدود ويتم توزيع الموارد وفقاً لنظام خاص ووضع ميزانية لتنفيذ المشروع تصل إلى مليار دولار، والحجة هي وضع حدّ للصراع بين السنّة والشيعة والعرب والكرد وإنهاء التوتّر الطائفي والإثني.
ولعلّ ذلك ليس سوى مقدمة للتقسيم كان بايدن قد طرحها وروّج لها واتصل بأعضاء في مجلس الأمن الدولي لتأمين تأييدها واستصدر قراراً من الكونغرس لذلك في العام 2007، لكنه بعد أن أصبح نائباً للرئيس وانشغل بالملف العراقي وزار بغداد زيارات مكوكية لأكثر من أربع مرّات، وجد القضية أعقد وأصعب بكثير مما تصوّره خياله أو مما وضعه على الورق.
باستثناء فيدرالية إقليم كردستان، وهي جزء من اشكالية تاريخية لم تتحقق حتى الآن فيدراليات أخرى في البصرة أو للجنوب أو فيدراليات لصلاح الدين أو الأنبار أو ديالى أو فيدرالية للسنّة، كما طرح رئيس البرلمان العراقي الحالي أسامة النجيفي في تصريح له من واشنطن نهاية العام المنصرم 2011 وذلك بمبرر التهميش وعدم المشاركة..
الفيدرالية الكردية هي امتداد لحقوق الكرد ومطالبهم (وقد اعترف دستور العام 1958 بشراكة العرب والكرد في الوطن العراقي. أما دستور العام 1970 فقد اعترف بأن الشعب العراقي مؤلف من قوميتين رئيسيتين هما العربية والكردية) وبعد الانسحاب الحكومي من إقليم كردستان في أواخر العام 1991 وإثر حرب الخليج وغزو الكويت، أعلنت الجبهة الكردستانية ملء الفراغ وأجريت انتخابات في العام 1992 بدعم دولي تكرّس بعد ذلك في منطقة الملاذ الآمن، لكن قتالاً اندلع بين الفريقين الكرديين: (الاتحاد الوطني الكردستاني (برئاسة جلال الطالباني) والحزب الديمقراطي الكردستاني( برئاسة مسعود البارزاني) شكّك في إمكانية استمرار الفيدرالية الكردية التي أعلنت من طرف واحد في 4 تشرين الأول (اكتوبر) 1992.
وعند إعلان الاتفاق بينهما 1998 وفيما بعد 1999-2000 تعززت إمكانية التقارب ولاحقاً توحيد الادارتين، وكان فريق الطالباني (السليمانية) قد تحالف مع طهران ضد (إربيل)، في حين تحالف فريق البارزاني ضد الطالباني حيث تدخل الجيش العراقي لصالحه لطرد غريمه من إربيل في 31 آب (اغسطس) 1996.
عندما أعلن قانون الأقاليم في دورة البرلمان التي سبقت هذه الدورة (2005-2008) تم تأجيل تطبيقه إلى 18 شهراً، وظلّ مؤجلاً حتى اليوم، وإن جرت محاولات لتفعيله من الفريق الذي رفضه، بل رفض الدستور بسبب احتوائه على الفيدرالية، وأعني بذلك محافظات صلاح الدين والأنبار وإلى حدود كبيرة الموصل وديالى، وكان كل من طارق الهاشمي نائب رئيس الجمهورية والحزب الاسلامي (سابقاً) وصالح المطلك بل جبهة التوافق بقضها وقضيضها ضد الفيدرالية، أما اليوم فقد انقسم بعضها وتوجّه إلى تأييدها لأسباب تقول أنها تتعلق بهيمنة رئيس الوزراء نوري المالكي على القرار والتحكّم بمصائر المحافظات التي تريد أن تتحوّل إلى أقاليم فيدرالية، ولعل ذلك ليس مبرراً كافياً لإعلان الفيدرالية، وهو نقص فادح في التوجّه الديمقراطي، وليس في قلب كل فيدرالية هناك مكان للديمقراطية، في حين أن كل نظام ديمقراطي يمكن أن يتحوّل إلى نظام فيدرالي وليس العكس.
للأسف أن الثقافة الحقوقية لا تزال شحيحة ومحدودة وكذلك الوعي القانوني، ولاسيما بالنظام الفيدرالي كنظام متطور، إذْ لا يزال البعض يخضع هذه المسألة الحساسة للمصالح السياسية الضيقة الآنية. وأحياناً يتم الحديث عن الدستور وهو حمّال أوجه فضلاً عن أن 50 مادة من مواده الأساسية لا تزال معلّقة تنتظر أن يصدر بشأنها قانون لكي تصبح نافذة، ولم يصدر هذا القانون على الرغم من انقضاء دورة برلمانية ونصف الدورة، كما أن الدستور لم يعدّل حسبما تم الاتفاق عليه، في انتخابات الدورة الأولى (أي بعد أربعة أشهر على انعقاد الدورة الأولى) ومضت اليوم نحو 7 سنوات على إبرام الدستور ولم يتحرك ولم يتم الحديث عن اللجنة الدستورية المكلفة بإعداد تعديلاته والتي أكدت منذ سنوات أنها غير قادرة على القيام بمهماتها بسبب الاختلافات السياسية بين الفرقاء.
وبخصوص الوضع الأمني فإنه لا يزال يراوح في مكانه وإن تحسّن قياساً لسنوات 2006 و2007 والخط البياني وإنْ كان في صعود، لكن هناك انتكاسات تحصل بين حين وآخر بسبب اختراقات وبسبب تفاقم الأزمة السياسية واستغلال أوساط مختلفة، لإثارة المزيد من الفتن، وهكذا يعود إلى الانتكاس، وسيظلّ الأمر على هذا الحال إنْ لم يتم ردّ الاعتبار للعقيدة الأمنية والعسكرية والتي تتلخص بالولاء للوطن وللمؤسسة، وليس للحزب أو لهذا الاتجاه السياسي أو الطائفي أو الديني أو ذاك.
ويقتضي الأمر تطهير الجيش وقوى الأمن، لأنه تم تشكيلهما على عجالة وبصورة مرتجلة، خصوصاً بدمج ميليشيات وصحوات بالجيش وبقوى الأمن الداخلي، وظلّت الكثير من الانتسابات في ولاءاتها محسوبة على الجهات التي رشّحتها، ولهذا تظهر اختراقات صارخة في صفوفها. ولعل عزل نحو 60 ألف منتسب من وزارة الداخلية قبل فترة قصيرة دليل على اختراقات كبيرة لهذه المؤسسة الحيوية، لأن غالبيتهم وربما يوجد أضعافاً لهم لا زالوا على ولاءاتهم، مما يسهل التلاعب بتوجههم على حساب حماية الوطن والدولة وعلى حساب مصالح الشعب والمواطن فضلاً عن أن غالبيتهم الساحقة غير مؤهل مهنياً.
أما بخصوص مسألة الفيدرالية هناك مشكلة مستمرة بين بغداد واربيل، أو بين المركز والإقليم أو الحكومة الاتحادية والحكومة الاقليمية وتتمركز أهم نقاط الخلاف بين الحكومة الاتحادية (الفيدرالية) وبين حكومة إقليم كردستان (الحكومة الإقليمية) تتلخص بالصلاحيات التي يمنحهاالدستور للحكومة الإقليمية والخلاف حول تطبيقها، لاسيما المادة 120 من الدستور وبشكل خاص المادة 121 التي منحت للأقاليم صلاحيات تشريعية وتنفيذية وقضائية. وإذا كان الخلل في الدستور الذي حدد صلاحيات الحكومة الإتحادية وترك ما عداها للحكومة الإقليمية، فإن بغداد تريد استعادة بعض تلك الصلاحيات الممنوحة للاقليم لحسابها، مثلما يتعلق الأمر بالنفط والغاز، وهو أمرٌ ترفضه حكومة إقليم كردستان وتعتبره تجاوزاً على الدستور.
أما الخلاف الثاني فهو حول النفط، حيث حددت المادة 111 النفط والغاز باعتبارهما ملكاً للشعب، في حين أن المادة 112 اعتبرت ذلك في الحقول المستخرجة، أما الحقول غير المستخرجة فيتم استخراج النفط بإدارة من الإقليم بالتعاون مع الحكومة الإتحادية. وهو الأمر الذي أثار إشكالاً حول حق الإقليم في التوقيع على عقود نفط (شراكة) دون الرجوع إلى بغداد أو أخذ موافقها وقد هدّدت بغداد الشركات بعدم الاعتراف بتلك العقود وتحريم التعامل معها ولعل هذه المشكلة هي جوهر الخلاف الرئيسي اليوم.
أما المشكلة الثالثة فهي مصير كركوك التي أسماها جلال الطالباني "قدس الأقداس" وكذلك ذهب مسعود البارزاني إلى التمسك بها باعتبارها مسألة غير قابلة للتنازل وقد تم ترحيل هذه المشكلة من قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية (المادة 58) إلى المادة (140) للدستور الدائم على أن يتم معالجة أثار الحقبة الماضية (سياسات التهجير والتعريب) وتعويض المتضررين وإجراء استفتاء سكاني وبالنتيجة تقرير مصير كركوك والأمر يشمل ما سمّي بالمناطق المتنازع عليها.
وقد فشلت الأمم المتحدة عن طريق مبعوثها في إيجاد حلول توافق عليها الأطراف الثلاثة ولاسيما سكان كركوك: العرب والكرد والتركمان، أما الطرف الرابع فهو الآشوريون والكلدان، وفي حين يظهر العرب والتركمان تقارباً إلاّ أن هناك، من يحاول التلويح بحلول أخرى، من الطرفين، لكن المشكلة تزداد تعقيداً، وهي مشكلة رافقت إتفاقية (بيان 11 آذار/مارس 1970) بين الحكومة العراقية والحركة الكردية بزعامة الملاّ مصطفى البارزاني وبسببها اندلع القتال في العام 1974 وقد كانت كركوك العقدة المستعصية في جميع مفاوضات الكرد مع الحكومات العراقية، وحتى في أوساط المعارضة كان هناك بعض الإشكالات في شأنها.
وفي اعتقادي ليس المهم أن تكون كركوك في إقليم كردستان أو في إقليم مستقل أو في الاقليم العربي فيما إذا أصبح إقليماً أو حتى يمكن أن تنظم إلى إقليم أو تجتمع مع أقاليم مقاربة... أقول ليس المهم أين تكون، ولكن المهم أن وجودها في إطار العراق الموحد وأن تصان حقوق الإنسان فيها، وأن لا يجبر أحد من سكانها على الهجرة، الاّ طوعاً، مثلماً يمكن ولمن يريد أن يسكنها لاحقاً الانتقال طوعاً إليها، وعلى الفرقاء أن يتباروا في تقديم الخدمات لها، لكي يحصل كل منهم على ما يريد، وهو تأييد السكان، ولا بدّ من تعويض المتضررين بسبب التهجير وما لحق بهم وبهويتهم من انتقاص وانتهاك.
ولعل الحل الأكثر نموذجية وهو ما عرفته كركوك تاريخيا وهو التعايش والمشترك الانساني: القومي (العربي، الكردي، التركماني، الآشوري- السرياني وغيره) والديني (الإسلامي، المسيحي) والطائفي (الشيعي ، السنّي) وهي النموذج المصغّر للعراق.
وبخصوص البيشمركة فقد تم إدماجهم بالجيش العراقي، لكن قيادتهم تابعة للإقليم وليس للدولة الاتحادية، وهو اتفاق تم إبرامه في إطار الدستور كتحصيل حاصل، خصوصاً وقد كانت البيشمركة تمثل فصائل أنصارية للمقاومة ولحماية الإقليم وتكرّس وجودها واقعياً كنواة لجيش كردستاني، وإن كان استمرارها سيثير إشكاليات لاحقة، لاسيما إذا ما تفاقمت الأزمة واختلفت الرؤى، لا فيما يتعلق بالوضع الداخلي، بل حتى فيما يتعلق بالوضع الخارجي.
ولعل نظام الفيدراليات العالمي المطبق في نحو 25 بلد ونحو 40% من سكان الكرة الأرضية، يميل إلى اعتبار الجيش والقوات المسلّحة والعلاقات الدولية والعملة والخطط الاقتصادية الكبرى، كلّها بيد الحكومة الاتحادية، وفيما عدا ذلك بيد سلطات الإقليم من الصحة والتعليم والتجارة والاقتصاد والبلديات والبيئة والرياضة والسياحة والثقافة وكل ما يتعلق بإدارة الأقاليم واستقلالها، فهي من اختصاصات الإقليم الذي ينتخب برلماناً ويؤلف حكومة ويكون له بعض اختصاصات القضاء.
إن موضوع البيشمركة حساس، خصوصاً في ظل انعدام أو ضعف الثقة بين الطرفين وتنظر حكومة الإقليم بشيء من الشك أحياناً إلى بعض إجراءات الحكومة الاتحادية، ولأنه كان سابقاً جزء من تشكيلات مقاومة للجيش نفسه وللسلطات المركزية، فإن بقاءه بشكله الحالي يثير مشاكل مع الحكومة الاتحادية، وإخضاعه لها يثير مخاوف وقلق إدارة الإقليم الذي شهد تاريخه صراعاً عنيفاً، وكان للبيشمركة دورهم التاريخي في هذا الصراع، لاسيما في الدفاع عن الشعب الكردي، ولهذا فإن الأكراد لن يتخلّو عن السلاح.
أعتقد أنه من خلال تعزيز الثقة ونبذ استخدام السلاح وتحريم استخدام القوة وتأكيد التعددية والتنوّع واحترام الخصوصيات والهويّات الفرعية، يمكن الإسهام في إيجاد حلول دائمة لهذه المشكلة ولبقية المشاكل التي لا تزال عالقة، لاسيما إذا توفّرت بيئة للتوجه الديمقراطي تساعد في احترام حقوق الإنسان، بما فيها حقوق الشعب الكردي وحقه في تقرير مصيره!
وبقدر ما ينطبق الأمر على العلاقة بين الإقليم والمركز، فإنه في الوقت نفسه يمكن أن ينطبق على علاقة المركز مع المحافظات المحتجة، خصوصاً باستبعاد الحل العنفي أو الأمني أو العسكري، والتفتيش عن حلول سلمية تواصلية، والمهم في كل ذلك مدّ الجسور وترميم ما انقطع من علاقات أو تصدّع، والاّ فإن العراق يسير من كارثة إلى أخرى، وقد لا يبقى عراقاً.
مقالات اخرى للكاتب