كنت أتابع لقاء تلفزيونيا في إحدى القنوات المصرية مع عدد من مديري ثلاثة من كبريات المستشفيات المصرية التي تقدم العلاج المجاني لمرضى السرطان والقلب والكبد، بما في ذلك إجراء العمليات الكبرى المعقدة. منهم علمت أن هذه المستشفيات قد أنشئت بالكامل بتبرعات المصريين، وما زالت إدامتها ذات الكلفة العالية تتم بفضل هذه التبرعات. ومنهم عرفت أيضا أن ثمانين بالمائة من الأموال جاء من بسطاء المصريين وفقرائهم، على مستوى جنيه وخمسة جنيهات أو عشرة، ولا يشكل إسهام رجال الأعمال والشركات إلا نسبة عشرين بالمائة منها. أذهلتني هذه النسب لكنها فسرت لي أيضا أن خروج عشرات الملايين من المصريين إلى الشوارع والميادين لإسقاط حكم الإخوان لم يأت من فراغ إنما كان ثمرة حس جماعي فريد بالمواطنة والتكافل والتلاحم المجتمعي.
في الدول الريعية عموما، ومنها العراق الذي يعتمد اقتصاده بالكامل على النفط، يتضاءل دور المجتمع المدني لتصبح الدولة، بقيادة الحكومة، هي الجهة صاحبة المال والسطوة والنفوذ. إنها الجهة الوحيدة التي تملك توفير فرص العمل، وتحت يدها أراضي العراق توزعها على من تشاء، وهي التي تعلم الأبناء وتوفر العلاج للمرضى وتوزع الماء والكهرباء وتحرس الأمن وتسجن المجرمين، وهي التي تصنع القوانين وتحكم بين المتخاصمين. إنها باختصار تقوم مقام (ولي الأمر) الذي يسوس الكل.
لعل هذا يفسر جانبا من ذلك اللغز الانتخابي المحير عندما يعمد العراقيون، مرة تلو المرة، إلى إعادة انتخاب سياسيين سبق أن خبروا فسادهم وجهلهم واستهتارهم بمهمتهم التي انتخبوا من أجلها. إنهم ببساطة ينتخبون الحكومة، الجهة صاحبة المال والسطوة الممسكة برقابهم والمتحكمة بمصائرهم. أما الوصول إلى مستوى إدراك أننا نحن الذين نصنع الحكومة لا العكس فإنه سيحتاج إلى وعي مجتمعي لا ننتظر من أصحاب السطوة والنفوذ أن ينشروه بيننا، إنما هو من مهمات المجتمع المدني.
لم نعرف في العراق ثقافة العمل المدني، إذ أن قسوة الأنظمة المتعاقبة ضيقت الخناق على النشاط المدني أو أفرغته من محتواه لأنه يبقى الجبهة الموازية لسطوة الدولة التي تحد من تحكمها المطلق بمصائر البشر، حاضرهم ومستقبلهم.
بعد 2003، تكونت آلاف الجمعيات والمنظمات، بلغ تعدادها أكثر من ستة آلاف، لكنها خرجت في معظمها من جلباب الدكتاتورية الذي علم من أراد أن يتعلم كيف ينتهز الفرص ويتربح منها، وكيف يفرغ منظمات المجتمع المدني من محتواها فيحيلها إلى هياكل فارغة. ولم يتبق في اليد سوى عدد محدود منها ظل فاعلا وسط طوفان هائل من سطوة الحكومة وإفشالها لأي نشاط يمكن أن يهدد سيطرتها الكاملة على كل مفاصل الحياة.
لكن، ولأن المثل القائل رب ضارة نافعة ما زال ساري المفعول، تخرج من ركام الحرب والاحتراب والخوف والتهجير نبتة بدأت تمد جذورها الغضة في الأرض العراقية. إنها تلك المجموعات التي تكونت لإغاثة المهجرين وتقديم المساعدة لهم، وكثير منها يعف عن التفرقة بين مهجر من هذه الجهة أو تلك. قد يكون ما تقدمه من مساعدات قليلا قياسا إلى الاحتياجات الهائلة لعشرات الملايين من المنكوبين بديارهم وأرزاقهم والمهددين بالموت لأسباب شتى، لكن المغزى يكمن في العمل التطوعي الجماعي الذي يلم الصفوف المتفرقة ويضمد الجراح التي خلفها في النفوس مناخ الكراهية والعنف. ومن هنا ينبغي أن تكون البداية.
داروا هذه النبتة الغضة لعلها، إن تواصلت، سوف تصنع لنا مجتمعا مدنيا فاعلا.
مقالات اخرى للكاتب