كان الحراك السياسي في العاصمة العراقية بغداد خلال الاسبوع الفائت ملفتا ومثيرا في بعض جوانبه، لسبب بسيط تمثل في ان بعض ما تضمنه انطوى على صراحة ووضوح بدرجة اكبر من اي وقت مضىى، ناهيك عن الجدل والسجال الذي احدثه بين بعض الفرقاء ارتباطا بتقاطع المواقف والتوجهات واختلاف المشاريع والاجندات.
فبعد سلسلة من الانتقادات الحادة واللاذعة التي تعرضت لها وزارة الخارجية العراقية طيلة بضعة شهور من قبل اوساط ومحافل سياسية وشعبية مختلفة، بسبب عدم اتخاذها موقف قوي وحازم وصريح حيال تجاوزات واساءات السفير السعودي في العراق ثامر السبهان، اصدرت بيانا واضحا، اكدت فيه ان الاخير بات شخصا غير مرغوب فيه، وطالبت السلطات السعودية أستبداله بسفير اخر.
خطوة الخارجية العراقية الجريئة، حظيت بترحيب وارتياح مساحات واسعة من الجو السياسي والشعبي العام في العراق، في ذات الوقت الذي ابدت فيه قوى سياسية معينة، وتحديدا اتحاد القوى العراقية-ردود فعل غاضبة وسلبية، معتبرا ان ضغوطات خارجية ارغمت الحكومة العراقية على اتخاذ مثل هذا الموقف ضد سفير الرياض في بغداد.
اما الرياض فقد تعاطت بنوع من الهدوء مع المطلب الرسمي العراقي، رغم حملة انتقادات للعراق اطلقتها بعض وسائل الاعلام السعودية المقروءة والمرئية والالكترونية، لم يكن فيها شيء جديد خارج السياق الذي اعتدت عليه المنابر السياسية والاعلامية والدينية السعودية في تعاطيها مع الشأن السياسي العراقي.
رسميا لاحت اشارات سعودية بالتعاطي ايجابيا مع مطلب تغيير السفير السبهان، ولعل من بين ابرز الاشارات تسريب هوية الشخص المرشح ليحل محل السبهان، وهو عبد العزيز الشمروخي الشمري، الذي كان يشغل في السابق منصب الملحق العسكري في سفارة بلاده بالمانيا، ويبدو ان الرياض كانت متوقعة ومتحسبة لاستبدال السبهان، واختيارها لعبد العزيز الشمري -ان صح-فأنه يعكس قراءة من نوع خاص ذات بعد عشائري-قبلي، حيث ان هذا الاخير ينتمي الى قبيلة لها ثقل وحضور كبيرين في العراق، في الوسطين السني والشيعي على السواء، وهو مايعني امكانية التواصل مع الفضاء السياسي والاجتماعي العراقي بأطاره الواسع بمرونة اكبر وبعيدا عن التشنجات والاحتقانات التي رافقت وجود السبهان في العراق لمدة ثمانية شهور او اكثر، لكن يبقى الامر الاكثر اهمية من الالقاب والانتماءات القبلية والعشائرية، هو حقيقة التوجهات والسياسات السعودية حيال العراق، ومدى امكانية مراجعتها وتصحيح مساراتها الخاطئة، وتلك مهمة لايمكن لاي سفير ان يقوم الا بجزء صغير منها.
وبعيدا عن التفاصيل واستشراف المستقبل، فأن مجرد طلب العراق رسميا من السعودية استبدال اول سفير عينته في بغداد بعد قطيعة ربع قرن، يعد ضربة سياسية ودبلوماسية موجعة للرياض، ورسالة مفادها "ان السعودية لم تحسن التعامل مع العراق، حتى بعد ان قررت استئناف العلاقات الدبلوماسية معه، وجنحت الى توسيع جدار عدم الثقة، بدلا من مد جسورها، وتفكيك عقد الماضي.
في نفس الوقت فأن بغداد كانت بحاجة الى ان تكون واضحة وصريحة الى حد كبير، وتضع النقاط على الحروف، حتى لاتبدو وكانها مستسلمة وخاضعة للامر الواقع على علاته، وبكل ما يرتبه من تبعات واثار سلبية عليها.
وفي الجانب الاخر، فأن استقبال بغداد لوفد برلماني يمني، هو في الواقع كان وفدا حوثيا يمثل حركة انصار الله اكثر منه شيئا اخر، جاء ليعزز حقيقة الوضوح الاكثر في المواقف والتوجهات، فقد ترأس الوفد المتحدث الرسمي باسم حركة انصار الله محمد عبد السلام، وعضوية كل من مهدي المشاط مدير مكتب زعيم الحركة، وشقيق زعيم الحركة النائب البرلماني يحيى بدر الدين الحوثي، اضافة الى ممثلي الحركة في مشاورات السلام التي جرت مؤخرا في دولة الكويت.
وسواء كان تزامن زيارة الوفد الحوثي اليمني للعراق مع طلب استبدال السفير السعودي مقصودا او غير مقصود، فأن الحدثين وبما يحمل كل واحد منهما دلالات ومعان، شغلا الحيز الاكبر من الاهتمام-سلبا او ايجابا-وكان لابد لاي مراقب ومحلل ان يتوقف عندهما معا.
ولعله لايمكن بأي حال من الاحوال، تجاهل قراءة واقعية وموضوعية مفادها، انه مثلما ارادت بغداد ان توصل الى الرياض رسالة معينة حينما طلبت اخراج السبهان من العراق، فأنها حينما استقبلت وفد الحوثيين واحتفت به على الصعيدين الرسمي وغير الرسمي، ارادت ان توصل رسالة لاكثر من طرف توضح حقيقة موقفها من مجمل الازمة اليمنية، وتقول، ان الحل لايتحقق عسكريا كما راهنت الرياض، وانما سياسيا ودبلوماسيا كما دعا اصحاب الحكمة والعقل، وكما اثبتت الوقائع والاحداث خلال العامين المنصرمين، واكثر من ذلك ارادت بغداد ان تقول في رسالتها، انها على استعداد ان تلعب دورا في صياغة وبلورة الحل السياسي الدبلوماسي في اليمن.
والملفت ان ذات الاطراف والقوى والشخصيات التي اعترضت على طلب استبدال السفير السعودي، اعترضت على زيارة الوفد اليمني لبغداد، معتبرة انه يأتي في خانة الاصطفافات والتحالفات الطائفية، وهذه نظرة قاصرة وضيقة لانها تتجاهل وتقفز على الكثير من الحقائق الماثلة على الارض في عموم المشهد الاقليمي للمنطقة، لاسيما وان البحث عن الحلول والمعالجات العملية والواقعية، سواء للازمة اليمنية او السورية او البحرينية او ... يقتضي اشراك كل القوى والاطراف المعنية، وفي اطار ارضيات واسعة للحوار البناء. ومن اي زاوية تعاملنا مع الامر، فأن العراق لابد ان يكون حاضرا بقوة، لانه يمثل طرفا رئيسيا ومهما، ويمثل احد ابرز ساحات الحراك في المنطقة، وهوبمثابة الجبهة المتقدمة لمواجهة الارهاب الداعشي من جانب، ومن جانب فأنه يعيش في مرحلة انتقال وتحول سياسي بدأت منذ ثلاثة عشر عاما ومازالت مستمرة، ومن جانب اخر فأنه بحكم جملة عوامل وظروف موضوعية يمكن ان يكون حلقة وصل ومحطة تقريب بين الفرقاء الاقليمييين، لاختصار واختزال طرق ومسالك الحلول الطويلة والمتعثرة والشائكة، ولاشك ان وضوح المواقف والتوجهات، قد يبدو مزعجا وترافقه بعض المشكلات، بيد انه خيار لامناص منه عند بعض المراحل والمنعطفات.
مقالات اخرى للكاتب