تكمن عظمة الثورات الشعبية عبر التاريخ في قيمية منطلقاتها وأهدافها. هناك ثورات كثيرة في التاريخ البشري قامت بوجه الظلم والطغيان، لكن ومن بين تلك الثورات امتازت ثورة الإمام الحسينE بأنها في أعلى درجات الالتزام القيمي، فقد كانت ثورة قيمية مبدئية في المقام الأول.
فالحسينE لم يتحرك من أجل مكسب شخصي، أو منصب قيادي، أو مصلحة لمنطقة أو طائفة، إنما تحرك من أجل القيم، ومن أجل الله تعالى، هذا ما كان يصرح بهE في كل مفصل من مفاصل ثورته، وعند كل منعطف من منعطفات مسيرته، فقد قالE منذ بداية تحركه عند خروجه من المدينة: «إني لم أخرج أشرًا ولا بطرًا، ولا مفسدًا ولا ظالمًا، إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر»( كشف الغمة، ٢/241). وقال في كلمة أخرى يوم عاشوراء: «ألا ترون إلى الحق لا يعمل به وأن الباطل لا ينتهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله محقًّا، فإني لا أرى الموت إلا سعادة، ولا الحياة مع الظالمين إلا برما»( تحف العقول، ص 176).
لقد كان الإمام الحسين يستحضر حتى اللحظات الأخيرة من حياته حينما وقع من على ظهر جواده، المنطلقات التي نهض من أجلها، فقد قالE وهو يهوي إلى الأرض بعد أن أصابه السهم المثلث «بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله»( بحار الأنوار، ج ٤٥، ص ٥٣). إذًا فهي ثورة قيمية في منطلقاتها وأهدافها، والأهم من ذلك أنها قيمية في حراكها وفي ممارسة قادتها وأبطالها.
الغاية لا تبرر الوسيلة
حيث ينبغي أن تكون تفاصيل التحرك الاجتماعي متفقة مع الهدف والقيم. نحن لا نؤمن بأن الغاية تبرر الوسيلة، فقد يتحرك العاملون من منطلق صحيح، وتكون أهدافهم مشروعة، لكن الخشية تقع في سبل ومآلات هذا التحرك فيما لو حاد يمينًا أو شمالًا. فعادة ما يتسم أي تحرك ومواجهة ثورية بحالة استنفار لمشاعر الغضب والاندفاع عند الإنسان، وهذا ما ينذر بإمكانية صدور ممارسات من الإنسان الثائر مجانبة للإطار القيمي الذي انطلق على قاعدته، وكما ورد عنهمB: «لا يطاع الله من حيث يعصى» (وقاية الاذهان، ص394) فالهدف الطاهر النبيل يجب أن تكون وسائله طاهرة نبيلة.
الحماس والانفعال قد يحرف المسار
وتكمن الصعوبة الكبرى لدى العاملين في الساحة حينما تسيطر عليهم مشاعر الثورة والغضب. فالإنسان العامل يقف هنا أمام تحدٍّ كبير، ينذر بغياب الهدف النبيل في تحركه، وحضور الحالة الذاتية في مقابل ذلك. فأصل التحرك كان من أجل هدف صحيح ومصلحة عامة، ولكن في أثناء التحرك يواجه موقفًا فينحرف به نحو أهداف شخصية، وانتقام للذات. حينئذٍ لا يعود التحرك منسجمًا مع القيم المبدئية التي يريدها وأنطلق على أساسها.
لا ينبغي للعاملين أن يندفعوا بحماس فيقعوا في تصرفات انتقامية، انطلاقًا من دوافع شخصية كانت أم فئوية أم طائفية. ونشير هنا إلى المثال الرائع الذي ضربه أمير المؤمنين علي بن أبي طالبE في غزوة الخندق حينما برز لعمرو بن عبد ود فصرعه وتربع على صدره ليجهز عليه، ولكن تفاجأ الجيش بابتعاد علي عن عمرو وكأنه يفوت الفرصة السانحة، ثم عاد بعد ذلك ليقتله. ولما سئلE قال: «قد كان شتم أمي، وتفل في وجهي، فخشيت أن أضربه لحظ نفسي، فتركته حتى سكن ما بي، ثم قتلته في الله»( مستدرك الوسائل، ج ١٨، ص ٢٨). يجب أن يراعي العاملون هذا الأمر، فلا ينبغي الاندفاع بحماس قد يوقعهم في تصرفات انتقامية لذواتهم، أو لمصالح فئوية أو طائفية خارج منطلقاتهم القيمية.
الانضباط الأخلاقي
أما الوجه الآخر للتحدّي الذي يواجه الثائرين في التزام القيم هو أن يقوم الثائر بتصرفات مخالفة للأخلاق النبيلة. فقد يقع الثائرون في تصرفات خارجة عن النبل نتيجة الاندفاع الزائد والحماس غير المنضبط، وهذا خطأ كبير، فالإنسان المؤمن المبدئي حتى وهو في المعركة، وأثناء مواجهة الأعداء، عليه أن يراعي جانبه الخلقي المبدئي، هذا ما يعلمنا إياه الإسلام وهذا ما تحكيه سيرة أهل البيتB وما سجلته سيرة الإمام عليE وثورة الحسين بوضوح وجلاء. فالإمام عليE كان بإمكانه أن يحقق الكثير من الانتصارات على مناوئيه لو تجاوز المبادئ والأخلاق، كما كان يشير عليه آخرون في كثير من الأحيان، ولكنه كان يرد عليهم باستمرار «أَ تَأْمُرُونِّي أَنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بِالْجَوْرِ فِيمَنْ وُلِّيتُ عَلَيْهِ وَ اللَّهِ لَا أَطُورُ بِهِ مَا سَمَرَ سَمِيرٌ وَ مَا أَمَّ نَجْمٌ فِي السَّمَاءِ نَجْمًا»(نهج البلاغة خطبة 126) ، فقد كانت قيمة النصر عند علي بن أبي طالب هي رضا الله تعالى ولا شي غير ذلك. وورد عنه E القول: «مَا ظَفِرَ مَنْ ظَفِرَ الْإِثْمُ بِهِ»( نهج البلاغة. حكمة 327) ، وورد عن رسول اللهA: «إن لجهنم بابًا لا يدخلها إلا من شفى غيظه بمعصية الله تعالى»(. تنبيه الخواطر، ج١، ص ١٢١)، فمثل هذا المرء لا يقبل الله منه حتى لو كانت أهدافه محقة، فالأصل لدى العاملين أن يكونوا ملتزمين، تحت أي ظرف، بالقيم النبيلة التي قاموا من أجل تحقيقها.
رعاية الحرمات والحقوق
إن من أعظم الخطايا أن ينجر الثائرون لتنفيس غضبهم بما ينتهي لهلاك النفوس المعصومة الدم أو الاعتداء على حرمات وحقوق الآخرين. وقد ورد عن سيد الفصحاء والمتكلمين عليE كلمة تهزّ الضمير حين قال: «إِنَّ مِنْ عَزَائِمِ اللَّهِ فِي الذِّكْرِ الْحَكِيمِ ـ يعني المبادئ الثابتة التي لا تهاون فيها ـ الَّتِي عَلَيْهَا يُثِيبُ وَ يُعَاقِبُ وَ لَهَا يَرْضَى وَ يَسْخَطُ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ عَبْدًا وَ إِنْ أَجْهَدَ نَفْسَهُ وَ أَخْلَصَ فِعْلَهُ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الدُّنْيَا لَاقِيًا رَبَّهُ بِخَصْلَةٍ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا أَنْ يُشْرِكَ بِاللَّهِ فِيمَا افْتَرَضَ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَتِهِ أَوْ يَشْفِيَ غَيْظَهُ بِهَلَاكِ نَفْسٍ»( نهج البلاغة. خطبة 153) ، وورد عن الإمام الصادقE: «المؤمن الذي إذا غضب لم يخرجه غضبه من حق، وإذا رضي لم يدخله رضاه في باطل»( الكافي، ج2، ص233، حديث11). فلا مبرر مطلقًا لحالة الغضب والانفعال التي يمكن أن تقود إلى إيذاء أو قتل الطرف الآخر، دون تثبت ودون وجه حق، فالناس محاسبون يوم القيامة عن كل قطرة دم سفكت بغير وجه حق، وحينها لا ينفع أي تبرير، ولاتَ حين مناص.
الثورة المتميّزة
إن الميزة العليا لثورة الإمام الحسينE تكمن في قيميتها في كل التفاصيل والجزئيات. فلو بقي الحسينEفي مكة وورط بني أمية بقتله في المسجد الحرام لكانت الجريمة أبشع، والمردود السلبي على السلطة أكبر، ولكنه خرج من مكة؛ ذلك لأنهE لم يكن يحكمه هوس الصراع مع بني أمية والرغبة في توريطهم، وقد عوتب على ذلك، فقال: «والله لان أقتل خارجًا منها بشبر أحب إليَّ من أن أقتل داخلًا منها بشبر»(تاريخ الطبري، ج4، ص289). كانت الأولوية بالنسبة للإمام هي الحفاظ على حرمة بيت الله الحرام، ولم يكن همه تسجيل الأهداف ضد خصومه على حساب حرمة البيت العتيق.
وعلى ذات المنوال حين واجه الإمام الحسين جيش الحر بن يزيد الرياحي، المكون من ألف فارس وقد كانوا منهكين من العطش، وكان بإمكانه مقاتلتهم، وبذلك قد يردع من يأتي بعدهم ويكسب الغنائم منهم، وهذا ما اقترحه عليه بعض أصحابه، فقال زهير: إن قتال هؤلاء أهون من قتال من يأتينا من بعدهم، لكن الحسينE بقي ملتزمًا قيمه، فقال: ما كنت لأبُدّأهم بقتال، ثم التفت إلى أصحابه وقال: اسقوا القوم ورشفوا الخيل ترشيفًا.
وعلاوة على ما سبق، تجلّى اهتمام الإمامE بالتزام القيم الاخلاقية في التفاصيل الجزئية، حين قدم شمر بن ذي الجوشن وكانت له خؤولة مع إخوة الحسين من أم البنين، وقف بإزاء مخيم الحسين، وقال: أين بنو أختنا؟ لكن العباس وأخوته استنكروا أن يجيبوه أو يردوا هتافه، ولكن الحسين التفت إلى العباس وإخوته فقال: «أجيبوه وإن كان فاسقًا فإنه بعض أخوالكم»( اللهوف في قتلى الطفوف، ص ٥٤)، علما بأنه لم يكن من أخوالهم المباشرين إلا من حيث انتساب أمهم لقبيلته.
وفي سياق الأمثلة ذاتها؛ روي أن الإمام الحسين أمر مناديًا في ليلة العاشر من المحرم بألّا يقاتل معه رجل وعليه دين، فكان يرىE أن أولوية أداء الدين مقدمة على القتال بين يديه، فالإمام لم يرد أن يدخل في هذه الثورة المباركة من الشهداء من كان عليه دَين ثم يقتل، فيقال عنه إنما فعل ذلك هروبًا من دائنيه. كانEيريد أن يكون أولئك الأصحاب على درجة عالية من النقاء، حتى يستحقوا أن تزورهم الأجيال طوال الزمن بالزيارة المشهورة «السلام عليكم يا أنصار الله، السلام عليكم يا أنصار رسول الله، السلام عليكم يا أنصار أمير المؤمنين، السلام عليكم يا أنصار فاطمة الزهراء، السلام عليكم يا أنصار أبي محمّد الحسن المجتبى، السلام عليكم يا أنصار أبي عبد الله الحسين..». هذا هو الحسين وهذا سرّ خلوده وخلود نهضته المباركة.
فما أحرانا ونحن نستحضر سيرة وثورة أبي عبداللهE، أن نستحضر معها قيمها ومبادئها التي نهض من أجلها، وأن يكون هدفنا في كل حركة وعمل ليس الانتقام للذات والتنفيس عن الغضب والاحتقان وإنما رضا لله سبحانه وتعالى.
مقالات اخرى للكاتب