دأبت الحكومات المتعاقبة على تعليق فشل المنظومة التربوية في أعناق رجال ونساء التعليم واتخذت نتيجة لذلك مجموعة من التدابير والقوانين العقابية والتوبيخية كلما اشتد الخناق على المسؤولين وكثرت الإشارة إليهم بالبنان وتوالت التقارير الصادمة والتصنيفات المخزية التي تنفطر لها القلوب والأكباد ،وكانت آخر حلقة في مسلسل تقريع رجال ونساء التعليم منعهم من متابعة الدراسة الجامعية بذريعة محاربة الغياب وتجنيب خزينة الدولة مغرم تعويضات الترقية المحتملة ،وهو ما يعيد إلى الذاكرة سنة 1965 والمذكرة الصادرة آنذاك عن الديوان الملكي والتي قضت بكبح جماح التزايد المعتبر لعدد المتمدرسين تحت إكراه الأعباء المالية التي تفوق قدرة خزينة الدولة وحسب المذكرة دائما " لأن الثقافة العليا حلية للفكر ولا نرى موجبا لنشرها في الوقت الراهن" (انظر لحسن مادي مطبعة النجاح-البيضاء –ط 1 ص-68).
بنفس المنطق ينظر المسؤولون اليوم إلى متابعة الدراسة الجامعية من قبل رجال ونساء التعليم فاعتبروها ترفا فكريا وثقافة عليا لا دور لها ولا موجب يستدعيها لأن المهم هو الحضور إلى حجرة الدرس ،والمفارقة العجيبة والتحول الخطير هو تراجع الدولة عن البحث عن الحلول الكفيلة بمعالجة معضلة الخبرة والكفاية المهنية التي خصصت لها الدولة مدة مديدة منذ نهاية الستينات، بعد تصفية التركة الاستعمارية وإحداث المدرسة المغربية المعربة معتمدة مخططات خماسية (68-72)-(73-77) وثلاثية (78-80) ومجموعة من التدابير ( الدروس بالمراسلة – العروض – المراقبة والتفتيش – إحداث مركز وطني لتحسين مستوى المدرسين ...) . ثم انصب اهتمامها على مسألة التكوين المستمر الذي غدا قضية جوهرية في نهاية التسعينات فأكدت حكومة التناوب والميثاق الوطني للتربية والتكوين على ضرورة التكوين المستمر والمستديم لتطوير الكفاءة واستكمال تأهيل الأطر في بحث مستمر عن الجودة ، ولكن أليست الدراسة الجامعية أجدى وأجلى مظهر للتكوين المستمر والمستديم ؟
غير أن أهل الحل والعقد في بلادنا وزماننا أبوا إلا أن يدوروا منهكين في دوائر متاخمة للحلول الناجعة وأن يتلصصوا على ما يعتمل في الصدور، فحولوا حق رجال ونساء التعليم في التعلم واكتساب المعرفة إلى باطل لتبرير فعلهم الشنيع الذي يخالف مقتضيات الدستور وحق الانسان في المعرفة . وامعانا في امتهان كرامة أفراد أسرة التعليم والظن بهم ظن السوء استمرت الإجراءات المجحفة والظالمة التي تبعث على الخوف والريبة والتوجس ابتداء بالأجرة الزهيدة وإجراءات الرقابة المهينة كالخط الأخضر للتبليغ عن الغياب والمعاقبة بالويل والثبور والاقتطاع من الأجور، وتأكيدا على دونية أفراد أسرة التعليم يثاب البرلماني على غيابه بالتعويضات السخية في إسراف وفي غير تقتير تحفيزا له على الحضور إلى قبة مزودة بأقصى وسائل الراحة فلا يجد معها زوارها قدرة على مقاومة الاسترخاء ، أما المنتسب إلى أسرة التعليم فيعاقب بأقصى العقوبات إذا لم يقض كل ساعات الجحيم التي يصطلي بنارها في مقر عمله الذي يفتقر في أغلب الأحوال إلى أدنى شروط السلامة .
كما لا تكاد تكف الجهات المسؤولة عن التلويح في كل مناسبة باتهام أسرة التعليم بالتقصير في أداء مهامها ورسالتها وهي تهمة أصبحت على قدر كبير من البلى والتحجر، وقد ساهم في إثخان أسرة التعليم بالجراح انخراط النقابات في المؤامرة ،وقد قال أبو جعفر المنصور يوصي ابنه المهدي "من أحب الحمد أحسن السيرة " وهو ما لم تفعله النقابات كما لم تفعله الحكومة التي تشرك أسرة التعليم في المغرم من خلال إجبارها على ملء صندوق التقاعد الذي أضحى أفرغ من فؤاد أم موسى دون أن تجرأ على متابعة من أفرغه من العفاريت والتماسيح التي تسعى بين الصناديق بمختلف ألوانها سلبا ونهبا وكأن الحكومة لا تحيط بتفاصيل النهب علما، وبالمقابل تحرم رجال ونساء التعليم من أي مغنم وإن كان معنويا كالحق في متابعة الدراسة واستكمال التحصيل العلمي .
حال رجال ونساء التعليم هذه تمثل أشد مظاهر الفشل الاجتماعي والانحطاط الحضاري إلى جانب هوان أسرة التعليم على المجتمع وذلها بين باقي الفئات وإذلالها من قبل الدولة ، والعكس بالعكس فالدول المتحضرة تقيم لأسرة التعليم اعتبارا كبيرا ففي اليابان مثلا يتمتع رجل التعليم بحصانة الدبلوماسي وراتب الوزير وامتيازات مادية مهنية ترفيهية ومعنوية وله مكانة اعتبارية تلي مكانة الإمبراطور وكذلك الحال في باقي الدول المتحضرة .
فأي أرض تقلنا وأي سماء تظلنا وقد تأكد الدليل ولم يوجد لمخالفته سبيل على ضعف قوة أسرة التعليم وقلة حيلتها وهوانها على مسؤولينا، ولكن قديما قال الطرطوشي في "سراج الملوك" ص(197) " لم أزل أسمع الناس يقولون أعمالكم عمالكم كما أنتم يولى عليكم ..." فالواقع المادي المزري والوضع الاعتباري المتردي والوضع النفسي المأزوم والنصيب من هراوات أو اقتطاعات الحكومة المعلوم ناجم دون شك عن ترهل جسد أسرة التعليم وتفكك أوصاله وقابلية هذه الفئة للظلم والاستصغار وقبولهم بهذا الحيف والإجحاف المتعاظم ، مما شجع الحكومة الحالية على أن تجلب بخيلها ورجلها على هذه الفئة وغيرها وتسلبهم الحقوق المكتسبة فهل يا ترى يجرؤ رجال ونساء التعليم على التفكير في الإضراب في وجود مقصلة الاقتطاع المسلطة على رقابهم؟ وهل تحركهم السوابق النضالية والضيم الشديد الذي حاق بهم للاحتجاج ؟ أم أنهم سيكتفون بالتبتل في محراب الشجب والتنديد والاستنكار والأسى تعبيرا عن عجزهم و فشلهم وذهاب ريحهم ؟.