( حركوص )
ولد صاحبنا حركوص ( حرقوص ) بعد معاناة طويلة لابويه دامت لاكثر من عشرين سنة زواج وهم بانتظار الولد ( الذكر ) .
وبعد سبعة ولاداة اناث لهما فرّج الله عنهما بولادة الذكر , و هو الولد الاول والاخير لديهما , اذ لم يلدوا بعده بشيئ حيث توفى ابواه الواحد تلو الآخر.
سمّي صاحبنا هذا بـ ( حركوص ) خوفاً عليه من الحاسدين .
و الحركوص ( الحرقوص ) عبارة عن نوع من البعوض يشبه البق او البرغوث , و
عادة العربان عندنا في العراق ( بعدها اكتشفت انها عادة تكاد ان تكون
عالميّة , كما في اليونان و في هولندة وبلجيكا اضافة لدول اوروبا الشرقيّة ,
و بالاخص في مجتمعاتها البدوية و الفلاّحيّة ) عادتهم انهم يطلبون الولد
الذكر , و لا يكادون يطلبون من الله الانثى .
و لهذا عندما يرزقهم الله تعالى بالولد الذكر يسمونه بتسمّيات تحقيريّة تحطّ
من قدر اسمه خوفاً من اصابته بالعين الحاسدة ( خلافاً لقول رسول الله محمد –
ص - : من حقّ الولد على ابيه ان يحسن اختيار والدته و اختيار اسمه .
فلذلك نجد عندنا تسميات شائعة للذكور المنجبين بعد عدّة ولادات اناث مثل :
زبالة , جلّوب , جرو , جريو , خنس , مطشّر , معاوية , سفيان , طكعان , جربوع
, ..... الخ.
امّا من كان منهم كثير الاولاد الذكور وعنده خصوم او مستهدف من قبل الآخرين
فتغلب التسمية على اولاده الذكور باسماء مثل : جفّات , هدّاد , صدّام ,عرّاك ,
طعّان , مهاوش...... او اسماء حيوانات جارحة مثل : صكر , ضبع , سبع , ذيب او
ذياب , حنش .... الخ .
بعكس ذلك لا نجد اسماء تحقيرية للبنات ( الاناث ) بل نجد اسماء تفخيميّة مثل
: محاسن , علاهن , تسواهن .... الخ .
و قسم من الاناث اللائي اتين بكثرة الى الدنيا و بعد طول انتظار الى الولد
الذكر الذي لم يأتي بعد تسمى بتسميات مثل : نهاية , كفاية , ييزي , بسّي
....الخ ايحاءً و تفاءلاً بانتهاء ولادات البنات .
و بالطبع تغلب هذه التسميات بشقيها ( الاناث او الذكور ) في مجتمعات البدو
و الارياف و تكون قليلة منها في المدن و تنحصر سواء كانت في الريف او
المدينة في المحرومين من كثرة الاولاد الذكور وفي كثيري الاناث .
( مع اني لاحظت ايضاً مسميات في اوروبا للاولاد مشابهه لما عليه عندنا نحن
العرب مثل : مستر دوك و تعني الكلب , او بلاك و تعني اللون الاسود , وولف
ويعني الذئب , واسم فوكس و يعني الثعلب .... الخ , وهذه التسميات ايضاً تكثر
في المجتمعات الفلاحية التي تطلب الولد الذكر , و ايضاً سبب هذه التسميات
يرجع الى الخوف على ذكورها من العين الحاسدة.
نعود لصاحبنا حركوص :
ومن هو حركوص ؟
هذا التعيس الاسم !!! التعيس الحظ !!!
و لكنّ يمتلك قلباً طيباً و رقّة و حنواً!!!
فمع اننا ابناء الشعب العراقي بصورة عامّة , و ابناء المجتمع البغدادي بصورة
خاصّة تنعدم فينا النعرات العرقية و الطائفية و القومية , الا اننا ابناء
السوق التجاري في باب الاغا من باب المزاح و الملاطفة حينما كنا نسأل حركوص
هذا عن مذهبه : هل هو شيعي ام سني ؟
كان يجيبنا على الفور : يتخسون اثنينهم , انا دليمي و بيتي في الدجيل !
وترجمة مقولته : انه يقصد : ليخسأ كلّ من يفرّق بين الشيعة و السنّة من اي طرف
كان , فهو دليمي , والمعروف عن عشائر الدليم انها يغلب عليها مذهب التسنّن ,
في حين يغلب على اهالي الدجيل مذهب التشيّع , فهو الاثنين معاً .
كان حركوص يمتهن مهنة الحمالة.
فكان كلّ رأسماله عبارة عن عباءة سميكة من الخيش مرقّعة ولكنها متينة و قويّة
, فكان يفرشها على الارض و يضع فيها الحمل المراد نقله , ثم يعقد طرفيها
ليحملها الى حيث يريد صاحبها لقاء اجور بسيطة.
و في بعض الاحيان كنّا نكلّفه نحن ابناء سوق باب الاغا ببيع بعض البضائع
الكاسدة لدينا ( الستوك ) ونسميها (عظم ) , فيقوم بدلالتها , فاذا كانت من
الحدادية يذهب بها الى الحدادين في منطقة السباع في الرصافة , واذا كانت من
النجاريّة ذهب بها الى السوق الجديد بالكرخ , او الى باقي محلات النجارة او
الحدادة .
كان يصرّف هذه البضائع الكاسدة الى جانب حمالته فيتقاضى عليها عمولة (دلاليّة
) ايضاً .
ورغم حسن معاملته و طيب اخلاقه مع الناس الا انه لم يكن يثق باحد الاّ
بشريكه ( خضيّر ) الذي يتقاسم معه الربح كلّ يوم سواء بالحمالية او الدلالية
, وان مرض احدهما او تغيّب عن السوق لقضاء بعض الامور الخاصّة فحقّه محفوض ,
اذ كانت شراكتهما التكافلية عبارة عن ضمان اجتماعي لهما .
و لسبب انعدام ثقة حركوص بالناس ما عدى شريكه خضيّر , كان دائماً يردّد كلمته
الشهيرة والتي اصبحت معروفة لدينا : ( مامش خيّر الاّ خضيّر ) !
و تمضي الايام .... و يمضي الزمن على هذا التلاحم بين حركوص و شريكه خضيّر ,
فهما اكثر من اخوين تقاسما الحياة بحلوها و مرّها .
الى ان حدثت مذبحة الدجيل الشهيدة , على اثر تصدّي ابناءها للطاغية صدّام ,
فتصدّى لابناء هذه المدينة البطلة اخيه ( النغل ) برزان ليحرق فيها الاخضر و
اليابس و لتستشهد مدينة الدجيل البطله .
و برغم ان خضيّر شريك حركوص كان ينتمي الى الطائفة الشيعية بعكس شريكه حركوص
الذي ولد من ابوين سنيين, الا ان خضيّر اصطفّ الى جانب حزب البعث القذر ضدّ
البلدة الشهيدة , وهنا حدثت الطامّة الكبرى و قصمت القشّة ظهر البعير , و
تفرّق الشريكين .
و بعد ان كان حركوص ينادي : مامش خيّر الاّ خضيّر .
اخذ دائماً يردّد القول الجديد فيقول : حتّى خضيّر موش خيّر ... حتّى خضيّر موش خيّر .
( اي حتّى هذا خضيّر و هو الشخص الوحيد الذي وثقت فيه اتّضح لي بعد تمحيصه انه
لا يستحق ثقتي ولا يستحق ان ائتمنه على صداقتي و رفقتي .
( حته خضيّر موش خيّر ) .
ٍبعد ذلك اختفى حركوص من السوق ولم نعد نراه او نسمع عنه ,
ولم يجرؤ احد منّا ان يذهب الى مدينة الدجيل المنكوبة ليسأل عمّا حلّ به , حيث
كانت محاصرة بكلاب البعث المتوحّشة , غير انّا وصلنا خبر سوقه الى المعتقل ,
ثمّ سرت شائعة بعد ذلك تقول : انّ السلطات البعثية التي كانت جاثمة على صدر
العراقيين آنذاك قد خيّرته بين تسفيره الى ايران حيث يوجد امامه الخميني ,
او الحاقه بالخونه الذين تعرّضوا لحياة السيد الرئيس صدام حفظه الله و رعاه.
و لكنه ( اي حركوص ) فضّل الموت على الغربة حيث لا يعرف احداً في ايران , كان
ذلك آخر ما سمعناه عن حركوص حسب ما رواه و روج له وكلاء الامن و المخابرات
الصدّاميّة المندسّين في السوق .
فسلام عليه يوم ولد و يوم استشهد و يوم يبعث حيّاً .
و ألآن عزيزي القارئ الكريم :
بعد ان شاهدت يوم امس لقطات تلفزيونية مصوّرة ظهر فيها اخو الشهيد السعيد
عثمان العبيدي ( الاعظمي ) رحمه الله وهو يصف حادثة النخوة و الغيرة و
الشهامة العراقية الاصيلة التي امتاز بها الشهيد عثمان ( رض ) و هو يتفانى
بانقاذ ستّة غرقى من حادثة جسر الائمة في الكاظميّة ثم ليستشهد هو غرقاً وهو
يهم بانقاذ الغريق السابع.
جاشت بي الذكريات لاسهر معها حتّى الصباح متصوّراً انّ الله سبحانه و تعالى قد
عوّض حركوص عن شريكه و رفيقه الخائن خضّير برفيق جديد له في الجنّة , الا و هو
الشهيد البطل عثمان العبيدي رحمه الله .
قضيت ليلة امس متأمّلاً منظر الصبي الشهيد ذي الثمان سنوات ( محمد عزيز طعمة
الموسوي ) وهو ما زال في الصف الرابع الابتدائي ولم يبلغ الحلم بعد ملبياً
نداء امامه موسى الكاظم ( ع ) الذي قضى في سجن الطاغية الرشيد , اذ جمعت
بين شهادة امامه الكاظم ( ع ) و بين عائلة هذا الطفل الشهادة و المظلو مية
, اذ انحدر هذا الطفل من عائلة لها من الشهداء و المعتقلين والمظلومين في
زمن صدام و حزبه حزب البعث الماسوني العفن فخرج ليلبي النداء غير آبه
بمخاطر الطريق المحفوفة بالارهابيين و الالغام , متسلّحاً بالقرآن الكريم
الذي وضعه بيين طيّات ملابسه ( لانّه كان على يقين بانّه سوف يسقط ) فخاف على
كتاب الله ان يسقط معه ولهذا وضعه في صدره و اغلق عليه ازرار قميصه , و
ليخرجه مقدّم البرنامج فيما بعد استشهاده و ينشره على صدره الشريف .
فتصوّر اي روح ايمانيّة و ايّ تصميم يمتلك هذا الصبي ( الشهيد المظلوم ابن
الشهداء و المظلومين ) واي شعب جبّار انجب هذا الصبي :
( اذا بلغ الفطام لنا صبي ..... تخرّ له الجبابر ساجدينا )
اي شعب جبّار هذا الذي يمتلك مثل الشهيد حركوص و الشهيد عثمان و الشهيد
النجّار الاخرس الذي فجّر ثورة 1920 في قتله للعسكري الانجليزي في تظاهرات
الحيدرخانه ببغداد و الشهيد اعذافة الذي لف نفسه بسعف النخيل و سكب عليها
النفط رامياً بنفسه على خيول الغزاة في ثورة العشرين و هو يصيح ( كل حي
بالدنيه اعليه موته ) علماً ان النجار الاخرس و عذافة لا احد يعرف عن
عشيرتهما شيئاً سوى انهما ينتميان الى العراق و لاشيئ غير العراق .
هذا هو جهادنا الذي نفتخر به نحن ابناء العراق , لا جهاد القتلة و المرتزقة
الذين يفخّخون السيارات و يزرعون العبوات الناسفة التي تقتل الابرياء لصالح
حزب البعث الماسوني .
اي شعب هذا الذي انجب الصدرين العظيمين ؟ , اي شعب هذا الذي انجب الشيخ عبد
العزيز البدري و الشيخ ناظم العاصي و الشيخين البصريين عارف و عبد الجبار ؟
نعم عزيزي القارئ الكريم :
قضيت ليلة امس متأمّلاً ابواب الجنّة قد فتحت لاستقبال شهداء عراقنا الابرار !
و في نفس الوقت و في الجانب الآخر متأمّلاً نار جهنّم قد سعّرت لاستقبال
الارهابيين القتلة و البعثيين الصدّاميين و الى جانبهم الكثير من اصحاب
الاقطاعيّات الحوزويّة المسمات دينيّة و الدين منهم براء و منهم الذين يلقّبون
انفسهم بحجج الاسلام و آيات الله العظام المتاجرين بالدين والذين سمنت
اجسادهم و ثخنت رقابهم و ترهّلت كروشهم و تكدّست ارصدتهم الماليّة في البنوك
الاوروبيّة من اقوات شعبنا العراقي الغني بثروتة النفطية و الغني بثروته من
الحقوق الشرعيّة و لكنه ما زال مستضعفاً من قبل حزب البعث العفن و مرتزقة هذا
الحزب من القتلة و الارهابيين الى جانب الاحتلال الغاشم واصحاب الاقطاعيات
الدينيّة ( سواءً كانت سنيّة او شيعيّة ) و الذين يقول عنهم المرحوم حركوص (
يتخسون اثنينهم ) .
واخيراً : هنيئاً لشهداء شعبنا الابرار بحسن العاقبة ،
و هنيئاً لشعبنا الذي يمتلك هكذا رصيد من ابناءه الشهداء البررة و الذي حتماً
سينتصر ببركة استشهادهم . و دمتم لاخيكم
مقالات اخرى للكاتب