ربما مجلس العموم البريطاني والجمعية الوطنية الفرنسية والبرلمان الايطالي والعديد من مجالس تمثيل الأهالي في الديمقراطيات الغربية العريقة أعطتنا مفهوم يختلف تماما عما عرفناه من تعريفات للمعارضة وماهيتها وعلاقتها بالحاكمين أو بالرؤساء سواء كان نظامهم ملكيا أو جمهوريا، رئاسيا أم برلمانيا، تلك التي تشكلت لدينا هنا في بلدان الشرق الأوسط عموما على اثر قيام دول العشائر بعد اتفاقية الخبيثين سايكس وبيكو والتي وزعت قطع الأراضي على العشائر والقبائل دونما أي اهتمام برأي الشعوب ومكوناتها من الأعراق والأقوام والأديان فكانت بحق دول وأنظمة رثة متهرئة عبر تاريخها لم تنتج إلا التخلف والتطرف والتطاحن.
وفي مرحلة من مراحل التطور الانقلابي انبثقت مجموعة من دول الجمهوريات التي جملت أشكالها بأطروحات وشعارات يسارية لتواكب مودة تلك الفترة وخاصة حقبة الخمسينات والستينات، ومنها ولدت الجمهوريات المسخ ذات السلوك الوراثي في الحكم والجمهوري في الشكل، فقد طرحت أشكالا وأنواعا من نظريات الحكم تشبه إلى حد ما ( طبيخ المكادي أي المتسولين ) وخاصة ما تفتقت عنه أفكار وأحلام الزعيمين القذافي وصدام حسين وكبيريهما في التنظير عبدالناصر وميشيل عفلق واستحداثهما لأجيال من الديمقراطيات العربية واللجان الشعبية وما إلى ذلك من فذلكات واختراعات تخديرية لا وجود لها إلا في مخيلاتهما في تبرير وتكريس دكتاتورية الفرد والحزب أساسها إبادة أي فكر أو رأي معارض، مما أنتجت بنفس القوة والحدة ( معارضة ) عدائية أساسها أيضا إسقاط النظام واستبداله ببديل يفترض أن يكون ( ديمقراطيا )؟
ونعود اليوم إلى تجربتنا في العراق عموما وفي كوردستان خاصة حيث كان اختيار تداول السلطة ديمقراطيا هو الخيار الأول للقوى الفاعلة في الساحة السياسية والثورية في الأيام الأولى لانتصار الانتفاضة في آذار 1991م، وفي العراق بعد إسقاط النظام الدكتاتوري من قبل التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة واختيار الانتخابات وصناديق الاقتراع كوسيلة لتداول السلطة في البلاد تحت هيمنة مؤسسات دستورية في مقدمتها مجلس النواب والحكومة الاتحادية والسلطة القضائية، بافتراض اختلاف الآراء ووجهات النظر وعدم التفرد في السلطة واعتماد المشاركة الحقيقية والتوافق الوطني بما يحمي التجربة الحديثة ويدفعها إلى الأمام.
رغم هذا التحول المهم في البنية السياسية والياتها وإجراء دورتين انتخابيتين للبرلمان والحكومة، إلا أن بقايا تلك العقلية العدائية ما تزال تتركز في سلوك كثير ممن يدعي انه يمثل معارضة للحكومة أو البرلمان أو رئيسيهما كما يحصل الآن في التعاطي من قبل أقلية سياسية قياسا بما أنتجته آخر دورة انتخابية، حيث تحاول فرض إراداتها على الأغلبية وهي ما تزال مسجونة في ثقافة معاداة النظام وإسقاطه، وربما أيضا تطلعها إلى السلطة باستخدام ذات الأساليب الانقلابية القديمة متناسية تراكمات من التغيير عبر أكثر من عقدين من التجربة.
في كوردستان والعراق لا يمكن إسقاط نظام المؤسسات على طريقة ميدان التحرير في مصر أو غيرها من البلدان التي تتعرض للفوضى الخلاقة كما يسمونها، لأنها باختصار لم تكن وليدة انقلابات بل كانت نتيجة لاختيارات شعبية دستورية أتت بها شرعيتها الثورية التي امتدت لعشرات السنين في مقارعة النظم الدكتاتورية ومن ثم الشرعية الدستورية من خلال صناديق الاقتراع في انتخابات رضينا بها أم لم نرض َ كانت محط إعجاب المراقبين الدوليين والرأي العام عموما، وهي تمثل أرقى ما وصلنا إليه في هذه الحقبة من تاريخنا برغم وجود خلل هنا وهناك وتقصير لمسؤول أو مؤسسة، إلا انه ما تم تحقيقه خلال سنوات عديدة لم تحققه الدولة العراقية منذ تأسيسها وحتى سقوط نظامها السياسي في 2003م.
إن المعارضة الحقيقة هي تلك التي تولد من رحم معاناة الشعوب وحاجاتها في الرأي الآخر الذي يبني ولا يهدم ويؤشر على نواقص أية حكومة أو برلمان أو قضاء، بأساليب مدنية متحضرة تحترم وتقف تحت مظلة مصالح البلاد العليا وما حققته الحكومة والبرلمان من انجازات خلال دورة حكمها بإخلاص ومثابرة، لا أن تشوه كل الحقائق من اجل أغراض وأهداف لا علاقة لها بالبلاد ولا بالأهالي بل بنوازع شخصية ومواقف أنانية أساسها الهم الشخصي والتراكم النفسي الموروث من المعاداة وليس من المعارضة الوطنية الحقيقية.