اجرى رئيس مجلس النواب اسامة النجيفي لقاءا مع قناة الحرة تم بثه الاسبوع الماضي. واثارت ردود النجيفي زوبعة سياسية كبرى في البلد، اخذت بالبعض الى حد المطالبة بإزاحته من رئاسة البرلمان. وكان النجيفي يجيب على اسئلة محددة وجهها إليه محاوره النبيه، الزميل حسين جرادي، الذي استدرجه الى الاجابة عن سؤال واضح وصريح عمّا يشعر به العرب السنّة هذه الايام في العراق كون النجيفي من زعاماتهم البارزين.
وقد تم تأويل كلام النجيفي وتضخيمه، واُخذ بعض ما قاله من خارج سياق المقابلة الى تصورات ابعد. وخرج علينا النائب عن دولة القانون علي الشلاة (من كتلة رئيس مجلس الوزراء نوري المالكي) وطالب بإقالة النجيفي عن منصبه. وخرج ايضا نائب آخر من الكتلة نفسها، ياسين مجيد، الذي ادار سابقاً المكتب الاعلامي لنوري المالكي، ليكشف بأن 52 نائبا قد وقّعوا عريضة تطالب باستجواب النجيفي تحت قبة البرلمان.
وقبل الخوض في ما يروم اليه نواب كتلة دولة القانون وحزب الدعوة من هذه المناورات التكتيكية، علينا مطالعة ما قاله النجيفي بحذافيره، بعيداً عن التأويل والاستنباط والتهويل. وجاء شيء من ذلك في الخبر المنشور على موقع راديو سوا قبل بضعة ايام (وتجدون في قسم الفيديو من هذه المدونة المقطع المعني بهذه التصريحات):
وقال النجيفي رداً على سؤال عن تقييمه لأوضاع السنّة حالياً في العراق إن "الانطباع الذي لديّ من خلال الزيارات واللقاءات إنهم يشعرون بالإحباط الشديد وبأنهم مواطنون درجة ثانية وغير مشاركين حقيقة في السلطة، وهذا أمر خطير يجب أن يُعالج بحكمة وبسرعة قبل أن تتطور الأمور إلى التفكير بنوع من الانفصال أو الإجراءات التي تضمن الحقوق. على بغداد أن تنتبه إلى أنها يجب أن تكون عادلة مع الجميع". ولدى استيضاحه ما إذا كان يقصد فعلاً أن عدم معالجة المسألة سيؤدي إلى تفكير السنّة بخيار الانفصال أجاب "نعم. مشروع الأقاليم يدور بقوة في المناطق السنّية وهذه خطوة يمكن أن تعطي نوعاً من الاستقلالية للكيانات، ونخشى إذا لم تتم إدارة الأمور بمستوى عال من المسؤولية أن يتفكك البلد لاحقاً".
وعن أسباب ما يصفه بـ"الإحباط السنّي" وهم مشاركون في الحكم قال إنّ "هناك خرقاً كبيراً في التوازن نتيجة سياسات طائفية ومذهبية"، لافتاً إلى أن محافظة الموصل "تأخذ أقلّ من حقّها" قياساً بالمحافظات الأخرى (الموصل للديها 11 بالمئة من السكان لكن حصتها من الميزانية هي اقل من واحد بالمئة). وقال إن رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي "مطّلع على الخلل في التوازن ويجب أن يعالجه. هناك وزارات قد خلت من السنّة وبعض المؤسسات المهمة أصبح الرقم فيها من 2 إلى 3 في المائة" من السنّة. وأضاف: "يجب أن يكون الجميع موجودين في القرار السياسي والاقتصادي والأمني، وهذا غائب في العراق. هناك تعمّد لأن يكون غائباً وثمة لعب على الوقت. نريد توزيع السلطات بموجب نتائج الانتخابات".
واتهم النجيفي الحكومة بالسعي إلى "زيادة المركزية وسحب الصلاحيات من المحافظات وهذا مخالف للدستور ولقانون المحافظات، وهناك نوع من العسكرة للمجتمع ومحاولة فرض الحكم العسكري على بعض المحافظات بما يتجاوز القانون. اللامركزية أساسية للنجاح في ظل فشل الوزارات في تنفيذ المشاريع وأعتقد أن اللامركزية هي الحل".
لاحظوا، النجيفي يقول بأن الاحباط السني (...وهو سئل بشكل مباشر عن مشاعر السنّة) الناتج عن شعورهم بالإقصاء عن الوظائف والموارد، قد، وهو ركز على "قد" الافتراضية، يؤدي الى انعزال السنّة في تشكيلات ادارية دستورية مثل الاقاليم كحل لهذا الغبن الآتي من بغداد العاصمة والمركز.
اسامة النجيفي عبد العزيز محمد النجيفي ليس متطرفاً ولا بعثياً، فجده واباه كانوا نواباً في العهد الملكي عن محافظة الموصل، وهو خريج فرع الكهرباء وعمل في وزارة الكهرباء لسنين عديدة الى ان تفرغ في منتصف التسعينات لإدارة مزارع عائلته. وكان من اوائل الشخصيات السنّية التي اشتركت في العملية السياسية، وتبوء منصب وزير الصناعة والمعادن في حكومة الجعفري عام 2005، ولم يكن مشمولا بإجراءات اجتثاث البعث، واذكر هذا الامر جيدا لأنني كنت من فتح تحقيقا عليه في هيئة اجتثاث البعث عام 2004.
جماعة المالكي، مثل السادة الشلاة ومجيد، لديهم غاية واضحة من التقريع بالنجيفي. فهم لا يرغبون بوجود رئيس برلمان قوي يتمتع بنفوذ معنوي وسياسي يواكب حجم القوة الممنوحة دستوريا لرئاسة مجلس النواب. وهذا يأتي كجزء من مخططهم المكشوف لتقوية منصب رئيس الوزراء على حساب الرئاسات الاخرى، وتعزيز مكانة "رجلهم القوي" السيد نوري المالكي، الذي بات همه الاول والاخير هو الاستحواذ على اكبر قسط من السلطة، خلافا لروحية الدستور والقانون.
ولكن هناك بُعد ايديولوجي مهم لـ "فزعة" حزب الدعوة وذودهم المزعوم عن وحدة العراق. فحزب الدعوة هو حزب مركزي، وقد اتخذ موقفاً عدائيا تجاه اللا مركزية والفدرالية من اول ايام اقرارها من قبل قوى المعارضة العراقية في التسعينات كحل لمعضلة الحكم المتسلّط في العراق. وفي التاريخ الذي شهدناه، نجد ثلاثة احزاب ايديولوجية تقف بشكل متحزب ضد اللا مركزية، وهي احزاب الدعوة والبعث والشيوعي. فهي احزاب مركزية في عضويتها وتركيبتها الخيطية والخلوية، وهي مركزية لأنها تؤمن بأن لها وحدها الرؤية والحل الاوحد لمشاكل البلد. وهي ايضا اقصائية في جوهرها لمفهوم الشراكة، وان اضطروا في حقبات متفاوتة ان يشاركوا غيرهم بالحكم على مضض لظرف سياسي معين.
ولكن الغريزة المركزية تظهر في تصرفاتهم وتكتيكاتهم بشكل ارادي وغير ارادي، وها نحن نرى كيف يروم المالكي الى الاستحواذ على السلطة لمفرده، لأنه تأطر سياسيا منذ نعومة اظافره على ذلك.
والمركزية لها انصارها وما زالت، لأنها ترفع شماعة وحدة البلد، والتي هي امتداد لشماعات وحدة العرب، ووحدة الإسلام، ووحدة الطبقة الكادحة، بالرغم من ان المركزية الايديولوجية تسببت بكل مآسي العراق على مضي اعوامه التسعين. فالمركزية فجرّت ردّة فعل لدى الاكراد، الذين ثاروا عليها منذ عشرينات القرن الماضي. والمركزية وضعت نظام فصل طائفي غَبِن الشيعة وجعلهم مواطنين من الدرجة الثانية، بالضبط كما يشعر السنّة اليوم. والمركزية جعلت من السلطة كبش يتقاذفه من كان سباقاً الى احتلال الاذاعة واصدار الـ "بيان رقم واحد".
وانصار المركزية يقولون ايضاً بأنها الحل الاداري الامثل لمشاكل البلد، ولكن المركزية هي من ولدّت البيروقراطية المترهلة التي يعاني منها العراق والتي تقف كأكبر حجر عثرة امام نهوضه الاقتصادي.
لي موقف واضح من اللا مركزية فأنا مناصر لها، لأنها احدى الضمانات الكفيلة بعدم عودة العراق الى زمن "الرجل القوي" والقائد الاوحد، في تصوري. واراها ايضا ترفع الحيف والغبن، شمالا وجنوبا، شرقا وغربا، وقد وضحّت ذلك في مقالة سابقة عنوانها، ورابطها، "لم لا تطالب البصرة بـ 40 بالمئة من وارداتها". ولمن يريد ان يطلع اكثر على آرائي ولفهمي للا مركزية مراجعتها.
ولكن، قبل ان اختم، اود ان اراجع وثيقة تاريخية مهمة، الا وهي مطالبة جماعة من اهالي البصرة باللا مركزية عام 1921، حينما كان الانكليز يعملون على تشكيل هذا الكيان الجديد الذي اسمه العراق. وهي وثيقة من 23 نقطة نشرها، مشكورا، الاستاذ حميد احمد حمدان التميمي، معاون مدير مركز دراسات الخليج العربي في جامعة البصرة، في كتابه الموسوم "البصرة في عهد الاحتلال البريطاني 1914-1921″ (مطبعة الارشاد-بغداد، الصفحات 635-640، تجدونها في قسم الوثائق من هذه المدونة "امارة وتجارة"). والمؤلف كان يكتب في اجواء قومية ومركزية، وهي بداية صعود صدام حسين الى سدة الحكم، والتي سنحت له المركزية ان يقرر، نيابة عن شعب كامل، الهجوم على ايران، وايغال البلد في حرب مدمرة دامت ثماني سنوات، دمرت في خلالها البصرة واسترجعت لنا المثل القائل "...من بعد خراب البصرة".
قدم اربعة آلاف وخمسمائة رجل من اهالي البصرة عريضة يوم 13 حزيران 1921 الى المندوب السامي البريطاني، حاكم العراق آنذاك، يطالبون بتثبيت اللا مركزية في ادارة العراق، وقدموا تصورات مهمة لذلك ورؤيتهم لشكلها، وسأسرد بعضها واترك القارئ، وخصوصا القارئ البصري، ليستخلص منها ما كان سيكون عليه حال البصرة اليوم لو طبقت هذه المبادئ.
النقطة السادسة: ومن المعلوم جيدا الميزات الخاصة بالبصرة كانت سببا في تباينها منذ اعوام عديدة عن الاراضي العراقية الواقعة في شمالها وهي التي سيطلق عليها فيما بعد اسم العراق...وقد كان من دوام الاختلاط بالشعوب الاجنبية تأثير على اهالي البصرة ذهب بهم الاعتقاد بأن تقدمهم سيكون مخالفا في نوعه وسرعته لتقدم العراق.
النقطة السابعة: ...اهالي البصرة لكونهم الفئة الاقلية بين سكان العراق ستكون بحكم الاضطرار حركاتهم بنفس النسبة وفي ذات الاتجاه كباقي اهالي العراق وبطبيعة الحال يرون وارداتهم تصرف على المشاريع التي لا يستفيدون منها شيئا بحيث يصيبهم حيف عظيم وليس من المنجد او حول على منعه.
(هذا الكلام قبل اكتشاف النفط في البصرة!)
النقطة العاشرة: ولا يرغب اهالي البصرة في شيء غير الخير لأهالي العراق ولا شيء احب اليهم من ان يسيروا واياهم جنبا الى جنب على اسلوب تعود منه الفائدة على الفريقين وعلى العالم عموما ولكنهم يعتقدون بأنه لا يمكن الوصول الى هذه النتيجة الا بمنح البصرة استقلالا سياسيا منفصلا.
(اي انهم كانوا يطالبون بإقليم خاص بهم قبل تسعون عاماُ!)
النقطة الثانية عشر: ورجاؤنا هو ان تصير مقاطعة البصرة مقاطعة منفصلة تحت اشراف امير العراق او اي حاكم ينتخبه اهالي العراق وتكون هذه الرابطة بين البصرة والعراق وحدة يطلق عليها اسم ولايتي العراق والبصرة المتحدتين.
النقطة الثالثة عشر: ويكون للبصرة مجلس تشريعي منتخب خاص بها ويكون لهذا المجلس السلطة التامة في التشريع المختص بالشؤون المحلية المحضة ولحاكم الولايتين المتحدتين الحق في رفض او طلب تعديل اي تشريع يمس بمصالح اهل العراق.
(هنا سبقوا قانون المحافظات الغير منتظمة بإقليم بمسافة التسعين عاما ايضا!)
النقطة السابعة عشر: ويكون للولايتين علم مشترك يرمز الى اتحادهما وتشترك الولايتان في تعيين نوابها السياسيين بالخارج ويعهد اليهم رعاية مصالح الولايتين معا وتكون الطوابع والنقود والاوراق المالية والمقاييس مشتركة بينهما ويقرر المجلس المشترك المذكور آنفا قيمها وعياراتها.
النقطة التاسعة عشر: وتوزع اموال الرسوم الجمركية المحصلة من ميناء البصرة على الولايتين بالنسبة التي يقررها المجلس المشترك.
النقطة العشرون: ويكون للبصرة قوة من رجال الشرطة وجيش خاصان بها ويشترك جيش البصرة مع جيش العراق في دفع الغارات الخارجية عن اي قسم من اقسام الولايتين المتحدتين وتدفع البصرة سنويا مقدارا نسبيا محدودا لاعالة جيش حكومة العراق ويكون هذا الجيش تحت امرة حاكم الولايتين.
(اي ان البصرة سيكون لها پشمرگة!)
المفارقة هي ان الرجال الذين قاموا بهذا الجهد وخطّوا العريضة وجمعوا عليها التواقيع كان اغلبهم من سنّة البصرة، الذين سفههم المؤلف بمصطلح "الطبقة الارستقراطية"، بمؤازرة من بعض التجار الشيعة والمسيحيين واليهود. في حين ان مصالح سنة البصرة، لو اخذناها بحساب طائفي بحت، كان يفترض بهم التوحّد مع المركز البغدادي لما يزيدهم ذلك من اعداد السنة في مجمل اعداد سكان العراق. والمفارقة الاخرى هي ان اغلب من وقف ضدهم مداعيا بالمركزية كانوا ايضا من سنّة البصرة، وهناك عوائل مثل بيت "الملاك" انقسمت على نفسها، بالتحالف مع بعض التجار والملاكين الشيعة. وقام مناصرو المركزية بالتهويل والتضخيم على العريضة، كأقرانهم اليوم في كتلة دولة القانون، ونعتوا انصار اللا مركزية بذيول الاستعمار الرامي الى تقسيم العراق.
ولكن الاستعمار، متمثلا بوزير المستعمرات آنذاك ونستون تشرشل، الذي خط بقلمه حدود العراق، وقف الى جانب المركزيين بقوة ودعمهم، وقطع الطريق على جماعة اللا مركزية. وكذلك قامت الشركات الاجنبية في البصرة بالعمل ضد مشروع اللا مركزية خوفا من ان ذلك سيزيد عليهم الضرائب والرسوم في تنقّل بضائعهم من البصرة الى بغداد.
ويجدر بنا الاشارة ان هذا السجال كان قائما في وقت لم يحسم فيه امر ولاية الموصل، مسقط رأس ومنبع آل النجيفي، من ضمها الى العراق، مع قوميتها الكردية الكبيرة، او اعادتها الى تركيا الوليدة التي كانت تطالب بها في المؤتمرات والمنتديات العالمية الرامية الى اعادة هيكلة الدولة العثمانية من بعد سقوطها في الحرب العالمية الاولى.
وتكررت المطالبة بلا مركزية البصرة ثلاثة مرات اخرى، حسب تدوين المؤلف، الذي استدل على ذلك من خلال الزوبعة الاعلامية التي كانت تثيرها الجرائد البغدادية ضد اللا مركزية في ايار 1922، وكانون الثاني 1924، وتشرين الاول 1928، وجاءت هذه الثالثة في تزامن مع صحوة الشيعة على الاغلاط السياسية الكبيرة التي ارتكبوها، بتوجيه من مراجعهم الدينية آنذاك، والتي جعلتهم خارج دائرة القرار، وبالتالي اشعرتهم بأنهم مواطنين من الدرجة الثانية لقلة تعييناتهم ولشحّة صرف موارد البلد في مناطقهم.
وها هو التاريخ يعيد نفسه، وان انقلبت البوصلة من الجنوب البصري الى الشمال المصلاوي، واصبح متطرفي الشيعة من حزب الدعوة هم من يهوّل ضد "الانعزاليين" السنّة، اذناب "بايدن" وليس تشرشل هذه المرة، طمعاً في المزيد من السلطة المركزية، وآحادية القرار.
فهل فعلا ارتكب النجيفي جرماً بأقواله لو صدق نواب دولة القانون؟ ام ان التاريخ ومصلحة البلد يقولان غير ذلك؟
مقالات اخرى للكاتب