وزارة الأطفاء أم وزارة الكهرباء يقولون: أن التيار الكهربائي لم ينقطع في اليابان عن أي بقعة من بقاعها منذ ستينيات القرن الماضي وحتى يومنا هذا, فالحكومة اليابانية تحرص أشد الحرص على توفير الطاقة الكهربائية للجميع, لكنها تقطعها حصرياً عن السفارة العراقية احتراما للتقاليد والأعراف السائدة عندنا. . فمن عجائب الأمور وغرائب الدهور أننا في العراق نطفو فوق أكبر بحيرات البترول في كوكب الأرض, فترانا نصدر النفط الخام بكميات هائلة ثم نعيد استيراده بأضعاف قيمة التصدير, فنستورده مرة أخرى على شكل مشتقات ومنتجات نفطية لتشغيل المولدات الكهربائية الصغيرة والكبيرة, بعد أن أصبحنا نمتلك منها ما لم تمتلكه كل القارات مجتمعة, حتى صرنا خبراء في تشغيلها وإصلاح عطلاتها وصيانتها. . ونحن نمتلك أكبر حقول الغاز الطبيعي في المجموعة الشمسية, لكننا نتباهى بإطلاق كميات هائلة منه في أجوائنا المخنوقة بالملوثات, ثم نهرع للتعاقد مع دول الجوار لنستورد منها ما نحتاجه من غاز الميثان والبيوتان والبروبان وما فرضه علينا الزمان. . فالقطع المبرمج, والترشيد المنظم للطاقة, وملايين الدولارات المهدورة, والوعود المحلقة بأجنحة الديناصورات الطائرة, والأعذار الجاهزة لتبرير الإخفاقات المتكررة, والمواقف الزئبقية المتنصلة عن المسؤولية, والفشل الذريع في تنفيذ المشاريع هي الخصال التي انفردت بها وزارة الأطفاء, وهي السيناريوهات الثابتة, التي لم تتغير نصوصها منذ أعوام وأعوام, وعلى هالرنة وطحينچ ناعم. . . شاءت الأقدار أن يتحول الهاتف النقال بفضل وزارة الأطفاء من وسيلة للاتصال إلى وسيلة للإضاءة, وربما سيأتي اليوم الذي نسمع فيه بنداءات تنطلق من مكبرات الصوت تقول: حان الآن موعد إطفاء الكهرباء الوطنية حسب التوقيت الشرعي, وعلى هذا المنوال تفتحت قريحة الناس, وسخروا من تكرار انقطاع التيار الكهربائي بمجموعة من التعليقات الطريفة, التي تحصي فوائد الانقطاع والإطفاء المبرمج, قال لي أحدهم ذات يوم: أن انقطاع التيار يعزز صلة الرحم بين الأحباب والأصحاب, ويجمع الأسرة في مكان واحد حول شمعة واحدة. . مما لا ريب فيه أن الانقطاع العشوائي المتكرر للتيار الكهربائي يقرب العبد إلى ربه, ويجعله يحس بمعاناة الفقراء, ويستشعر ظلامتهم في الظلام الدامس, فيزداد إيمانه يقيناً, لأنه كلما انقطعت الكهرباء ترتفع الحناجر بترديد عبارة (استغفر الله العظيم, ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم), وتلهج ألسن الناس بعودتها فيقولون: (الحمد لله الواحد القهار). . ثم أن انقطاع الكهرباء, وتوقف المكيفات الهوائية يؤدي إلى ارتفاع معدلات الحرارة إلى المستوى الذي يذيب شحوم الأجسام المترهلة, وينشط الدورة الدموية, ويريح حاسة البصر بغياب الأنوار الساطعة, ويشجع الناس على شراء المنتجات المحلية, كالمراوح اليدوية (المهاف, أو المهفات: جمع مهفة), والشموع, وألواح الثلج, والآيس كريم, والمشروبات الغازية المنعشة, ويمنع الأطفال من مشاهدة المسلسلات الإباحية المدبلجة, ويشجع الناس على الخروج من البيت, والتفسح في الحدائق العامة. . ومن المفارقات العجيبة أن وزارة الأطفاء هي التي تبرعت هذا العام بإطلاق أقوى التصريحات الكهربائية الساخرة, حين قالت: أنها سوف تقطع التيار الكهربائي عن منازل المتخلفين عن تسديد القوائم والفواتير القديمة المترتبة عليهم. . ألا ترون أن الوزارة تتحدث معنا وكأننا جئنا من كوكب آخر, أو كأننا هبطنا على سطح العراق قبل بضعة أيام, ولم نكن نعلم أن الكهرباء هجرتنا وتمردت علينا, ولم نعد نراها إلا سويعات تأتي وتذهب, ثم تأتي لتغيب, ثم تختفي وتتلاشى في عز الصيف, حتى تعودنا على غيابها وانقطاعها. . أذكر أنها استقرت في قريتنا لمرة واحدة, ولم تنقطع لثلاثة أيام متوالية, فانقلبت حياتنا رأسا على عقب, ولم نعد نمارس برامجنا اليومية المعتادة, فاتصلنا بالعاملين بدائرة توزيع الطاقة الكهربائية, وطلبنا منهم التقيد والالتزام بتوقيتات إطفاء الكهرباء, وضرورة قطعها عن قريتنا حتى نستطيع العودة إلى حياتنا الطبيعية, وممارسة عيشتنا البدائية, الذي اعتدنا عليها منذ أعوام وأعوام, وهكذا صار انقطاع التيار الكهربائي في العراق من العادات والتقاليد والأعراف الوطنية السائدة, التي ينبغي مراعاتها والحفاظ عليها إكراما لوزارة الأطفاء.