لكل عصرٍ اصطلاحاته، ولكلِّ زمنٍ تعبيراته، كذلك لكلٍّ جيل سحنته ولكلِّ فترةٍ أزماتها المجتمعية. في أيام نظام صدام مثلا شاع اصطلاح "العراق العظيم" الذي هو مرادفٌ بالمقلوب لاصطلاح "العراق الضعيف". ففي الوقت الذي شاع فيه الوصف، كنا متأكدين، في دواخلنا، أن البلد بات الأكثر هشاشةٍ بين دول المنطقة، ديناره عبارة عن ورقة تذوب في الجيب، وخبزته تخلط بنوى التمر. مع هذا كنا نردد، من فرط ما تكررت العبارة على مسامعنا، أنه "العراق العظيم"، والطريف أننا نقول ذلك بينما نستقتل للخروج منه زرافاتٍ ووحدانا. بل كان بعضنا مستعدا للهرب منه إلى الصومال لو تسنى له ذلك.
تذكرت هذا المصطلح وأنا ألحظ شيوع مفردة جديدة على ألسنة المثقفين هذه الأيام قد تشير لأزمة شبيهة. إنها مفردة "العراقية" التي تحولت في الدلالة من كونها تشير للنسبة إلى كونها صفة حميدة قد يتسم بها الفرد. ترى فضائية ما تلتقي فنانا وتسأله عن تقييمه لزميل له فيقول - تعجبني فيه عراقيته، ثم تنظر لبرنامج يتوجه لمثقفٍ آخر سائلا عمن يفضل من الكتاب فيشير لأحدهم مبررا ذلك أنه يكتب بـ"عراقية صميمة". فما المقصود بهذه الصفة ولماذا تشيع اليوم؟ هل هي ظاهرة تشترك بها كل الشعوب أم اننا انفردنا بها مع بعض العرب؟ هل سمعتم يوما بفرنسي يوصف بـ"الفرنسية" أو أميركي بـ"الأمريكية"بطريقة تشبه إشارتنا؟
لأقل في البدء إن المقصود بالمفردة، حسب سياقنا العراقي، ليس حبّ العراق كما أفهم، إنما توفر المرء على شعور راسخ بهويته الوطنية يتعاضد مع وعي بهذه الهوية وأفقها وما قد يعارضها أو يفتت من نسيجها. لكأنك حين تصف شخصا ما بأنّ فيه "عراقية"، فإنك تنفي بشكل مضمر كلّ ما يناقض هذا الإنتماء. لعلّ المعني هنا مشاعر الانتماء لجهة أو عرق أو عشيرة أو طائفة، والمحصلة إنك ستكون وطنيا بقدر ما تتوفر على الـ"عراقية"، وهذا يقود بالضرورة إلى تنحية كل انتماء فرعي مناقض.
المأزق يكمن هنا تحديدا، أعني الافتراض البدهي أن الانتماءات لابد أن تتعارض، وعليه يتوجب تحييد أحدها لصالح الآخر. وبما أن العراق هو "الأصل"، لذا علينا إطراء تغلّبه على "الفرع"، بافتراض أنّ هذا الفرع يوجد دائما على شكل مكونات ثاوية في العمق كالخلايا السرطانية النائمة، وهي خلايا مهمتها نخر الهوية الوطنية وليس إغناءها. ثمة بالأحرى هجاءٌ مضمر لهذه الأورام الخبيثة وتدبّر لها على إنها في تعارضٍ جوهري مع "العراقية" الحميدة، وهذا برأيي تبسيط مخل بطبيعة الهوية الوطنية التي يفترض أن تناقض فكرة الإقصاء لا أن ترسخها.
ليس هذا كل شيء، فمقابل الفهم الظاهري الذي طرحته لشيوع مفردة "العراقية"، ثمة ما يذكرني شخصيا بعبارة "العراق العظيم"، إذ لو كانت هويتنا الوطنية قوية وفاعلة، لما احتجنا سيكولوجيا لتكرار صفة تدلّ عليها وتمييز أفرادٍ بحيازتها. لكأننا نشعر داخليا بهشاشتها فنعمد إلى الإفراط بالإشارة لها لغويا ورمزيا، والأمر قد يشبه هنا إجراء عملية تنفس اصطناعي لرئة لا تتنفس، أو حتى تعريض قلب متوقف لصدماتٍ كهربائية.
نعم، مثلما وصفنا العراق بـ"العظيم" مع إنه من أضعف البلدان، كذلك نتوسم في أنفسنا سمة "العراقية" رغم أن الأحداث تثبت يوما بعد آخر أن هناك، في الجوهر العميق، تغليبا للهويات الفرعية وإنعاشا متواصلا لها، وربما العلة في الضعف والقوة، ضعف الهوية الوطنية، من جهة، وقوة الانتماءات الفرعية، من أخرى، هو فهمنا الخاطئ لكليهما، والدليل هو مديحنا اللغوي لـ"العراقية"، المتضمن نسقا مضمرا يهجو كل انتماء فرعي.. فتأمل!
مقالات اخرى للكاتب