كثيرة هي المفاجآت التي صادفت الوضع السياسي في العراق منذ احتلاله العام 2003 وحتى الآن. وانعكست تلك على جميع قطاعات الدولة والمجتمع. وإذا كانت التحدّيات التي واجهته معروفة بخطوطها العامة، فإن تفاصيلها ومنعرجاتها لا تزال ملتبسة وهي تحفر أخاديد جديدة في الوضع العراقي، الذي يواجه الكثير من المستجدّات والمتغيّرات كل يوم، بل كل ساعة.
لقد كانت التحدّيات الأساسية تنصب بشكل كبير على إنهاء الاحتلال، الذي اضطرّ لاحقاً للانسحاب، بعد أن حاول فرض اتفاقية أمنية على العراق في العام 2008 لكن هذه انتهى مفعولها في العام 2011ولم تتمكّن القوات الأمريكية من البقاء في العراق دون غطاء قانوني بعد الخسائر المادية والمعنوية التي تعرّضت لها، وخصوصاً في الجانب البشري، يضاف إليه الأزمة المالية والاقتصادية التي ضربت الولايات المتحدة بالصميم، وهو ما عبّر عنه الرئيس باراك أوباما حين قرّر الانسحاب، على الرغم من رغبة أطراف عراقية كثيرة تجديد الاتفاقية أو توقيع اتفاقية جديدة تسمح للقوات الأمريكية البقاء في العراق .
ومع ذلك لا يمكن القول إن الولايات المتحدة غادرت العراق دون وجود نفوذ لها فيه، فهي تنسّق مع الحكومة الاتحادية وبشكل خاص مع إقليم كردستان، بل إنها نظّمت عمليات عسكرية مشتركة معه ضد داعش، كان آخرها عملية إنزال مع فرقة كوماندوز كردية لتحرير نحو 70 من السجناء قرب منطقة الحويجة (محافظة كركوك)، وذلك دون علم الحكومة الاتحادية.
وبموجب اتفاقية الإطار الستراتيجي التي لا تزال نافذة، فإن البلدين يتعاونان في المجالات المختلفة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتعليمية والصحية وغيرها. ومثل هذه الاتفاقية تم توقيعها في ظرف كان العراق تحت الاحتلال، ولذلك جاءت غير متكافئة، حيث أبرمت بين طرفين أحدهما قوي والآخر ضعيف، والأول محتل والثاني محتلة أراضيه، أي أن أحد عيوب الرضا الأساسية تشوبها وهي عدم التكافؤ والمساواة، وحسب اتفاقية فيينا لعام 1969 حول قانون المعاهدات، فإنها لا تنسجم مع القواعد العامة للقانون الدولي، وخصوصاً في إطار الاتفاقيات الدولية.
ووجدت واشنطن فرصة جديدة للحضور في الساحة العراقية بعد احتلال داعش الموصل وتمدّدها إلى نحو ثلث الأراضي العراقية، فعادت لبناء قواعد عسكرية وتدريب الجيش العراقي وقوات البيشمركة وقوات خاصة، بل والتأثير على القرار العسكري والسياسي العراقي، إضافة إلى أن سفارتها لا تزال أكبر سفارة في العالم، ويوجد فيها عدّة آلاف من الموظفين، وبعضهم بصفة خبراء عسكريين أو مدربين أو غير ذلك.
وإذا كان هذا أحد الألغام التي تواجه المستقبل العراقي، فإن لغما آخر لا يقل أهمية إن لم يزيد عليه، ونعني به النفوذ الإيراني الواسع، سواء العلاقة مع الحكومة الاتحادية وبعض القوى الكردية، أو من خلال العلاقة مع القوى الإسلامية، وقسم من هذه الأخيرة لا تخفي سرّاً حين تصرّح أن ولاءها لولاية الفقيه، وهذا لا يعني سوى خضوعها للسياسة الإيرانية، إضافة إلى إعلان بعض القوى عن تحالفها مع إيران باعتبارها عمقاً ستراتيجياً، سواء كان مذهبياً أو سياسياً.
وفي حين تحاول الشيعية السياسية تجميع نفسها في إطار الحشد الشعبي، لا تزال السنّية السياسية المشاركة في العملية السياسية أو خارجها تبحث عن طريق لتعزيز نفوذها لمواجهة الشيعية السياسية، سواء بالتحالف مع دول إقليمية أو الدعوة للإقليم السنّي أو بطلب من الولايات المتحدة تعديل ميزان القوى الداخلي، لوضع حد للتهميش والعزل الذي تعاني منه تحت ذرائع مختلفة.
وإذا كانت فكرة الأقاليم لا تروق للسنّية السياسية سابقاً وعارضتها بشدّة، بل إن بعضها امتنع من التصويت على الدستور وقاطع العملية السياسية بسببها، فإنها اليوم مطلباً لبعض القوى، لاعتقادهم أنها يمكن أن تكون مواجهة للشيعية السياسية ومنع تدخّلها بشؤون أقاليمهم أو مناطقهم، خصوصاً بعد تجربة الحشد الشعبي، التي ينظرون إليها بسلبية كبيرة. وهذا ما ترغب به واشنطن، سواءً طبقاً لمشروع جو بايدن لعام 2007 أو غيره من مشاريع التشطير، وقد ترغب به إيران لإقرار نفوذها في الجزء الشيعي من العراق، لاسيّما من جنوب بغداد وحتى البصرة .
وتعود أسباب مثل تلك التوجّهات الرائجة إلى تفشي الطائفية السياسية وانخفاض منسوب المواطنة وضعف الشعور بالمسؤولية، خصوصاً بالإنحيازات الضيقة والمصالح الأنانية، المذهبية والإثنية والعشائرية والجهوية والسياسية والعائلية وغير ذلك .
الطائفية السياسية هي أحد أضلاع مثلت الألغام ذو الثلاثة أضلاع، فالضلع الثاني هو الإرهاب والعنف المتواصلين منذ 13 عاماً وإلى الآن، دون أن تتمكّن الحكومات بسياساتها الخاطئة وبسبب نظام المحاصصة الطائفية والإثنية من وضع حد لها، أما الضلع الثالث فهو الفساد المالي والإداري الذي ضرب العراق مثل زلزال وهو الوجه الآخر للإرهاب والطائفية، الذي يأكل في أساسات الدولة العراقية.
هذه هي الألغام الأساسية التي تواجه المستقبل العراقي، يضاف إليها التداخلات الإقليمية والدولية، ابتداءً من واشنطن ومروراً بموسكو وطهران، ومحطتي أنقرة والخليج، ودون إيجاد حلول لها وتوفّر إرادة سياسية موحدة وتوافق وطني عام ومصالحة وطنية حقيقية، فإن البلاد ستصل آجلاً أم عاجلاً، إلى انعدام الوزن. وتصنّف الدولة العراقية بأنها دولة فاشلة طبقاً لمواصفات منظمة الشفافية العالمية، بل إنها أخذت تتّجه شيئاً فشيئاً إلى التآكل والتفكّك، وأصبح العراق كياناً هشاً ومعرّضاً للتقسيم، خصوصاً إذا استمرّ تدهور الخدمات مثل الكهرباء والماء والصحة والتعليم، وكذلك الفساد الذي أخذ ينهش في جسد الدولة العراقية.
وحتى لو تم القضاء على داعش، فإن مشكلة الدولة العراقية ستكون أكثر استعصاءً بحكم انتشار الميليشيات وضياع هيبة الدولة والتدخّل المباشر وغير المباشر.
مقالات اخرى للكاتب