الحبّ ... تلك الكلمة السّماويّة الطّاهرة الرّقيقة والّتي كانت أوّل عاطفةٍ عرفها قلب الإنسان الأوّل،فكانت هبةً إلهيّة منحها الله لبني آدم ، فتفجّرت في قلوبنا ينابيع عسلٍ وجداول خمرٍ وأنهار نشوةٍ مُسكّرةٍ تفيضُ بالرّوح إلى عوالم السّحر و الجمال و الرّوعة و الفتنة ، حتّى تصل بالإنسان إلى بحور الهيام ، ويا ويل الإنسان إن وصل إليها ،فبعدها لا يجد الهناء إلّا بقرب المحبوبة والطّرب لا يحلو إلّا بهمساتها والسّعادة تتجسّد في لمسات كفّها والنّشوة تكتمل عند الغرق بعينيها ،فيضمحلّ جسد هذا البشريّ ويذوبُ كما تذوب الثّلوج ، فيظلّ قلباً و روحاً و يبقى معنىً و إحساسا ... فيغدو مع كلّ صباحٍ يُترجمُ للنّاس حديث النّسيم للأغصان ، ويشرح لهم مغازلة الطّيور للأزهار، ويسير مع الأصائل ، فيقرأ لهم آيات الشّمس المنبسطة فوق صفحة الخمائل والغدران ، ويردّد مع العنادل والبلابل أنغام الحبّ والجمال ، فيسكرُ النّاس بخمر عشقه ، ويطيرُ بهم بألحان قلبه ولسانه.
وأمام محراب الحبّ يتراءى لنا كثيرٌ من الشّعراء والأدباء الّذين جعلوا القلمَ أداةً للتّعبير عن سحره وسلبه القلوب والألباب،فاستفاضوا من بحر الهوى حِبراً له ، وجعلوا من أوراق الياسمين صفحاتٍ تُكْتب عليها خلجات النّفوس الّتي حلَّ بها وابل الحبّ و آلامه ، فصوّروا العاطفة أروع تصويرٍ وأصدقه وخلّدوا همسات العشّاق بين أريج صفحاتهم ، ومن بينهم شاعرٌ لمع في الأدبِ كما يلمع البدر في السّماء، مرهف الحسّ رفيع الأدبِ ، فائق الشّاعريّة ، إنّه الشّاعر "أحمد الخاني" أحد شعراء الأكراد وعلمائهم ، الّذي خلّد ملحمة حبٍّ في روايته " ممو زين"،يصوّر فيها قلوباً كواها الحبّ المستعر وسحقها الكيد والحقد ، وقلوباً بريئة طاهرة طهارة المزن في السّحاب أذابها الشّقاء واعتصرتها يد الظّلم كما تعتصر الوردة النّاعمة في كفّ غليظة.
تُشبهُ قصة ممو زين روميو و جولييت في مسرحية شكسبير فهما يلتقيان في كرنفال أيضاً وينتهيان عشقاً حتى الموت. وهناك تشابه كبير مع قصة إغريقية رواها المؤرخ اليوناني شارس ميتلي، تتحدّثُ عن شقيقين تملأ صورهما جدران معابد وبيوت آسيا، وهما هيستابيس وزارايادرس ابنا أدونيس و إفروديت، الأول حكم بلاد ميديا والثاني حكم شمال بحر الخزر. وكان للملك هومارتيس الذي يحكم بلاد مارتان ابنة اسمها أواديتس، حلمت بزاياردس و أحبّتهُ كما حلم بها و أحبّها، لكن الأب لم يوافق على طلبه ابنته الحسناء لرغبته تزويجها أحد أفراد عائلته لضمان العرش في سلالته. تقول الأسطورة إنّ العاشق قطع المسافات مع أخيه لخطبتها و إخراجها من البلاط وسط دهشة الجميع. الصفات متشابهة بين شخصية مم وزاريادرس وبين زينة واواديتس وبين الأمير عز الدين و هوماريتس وبين بانكين وقائد العربة إلاّ أنّ الحكاية الكردية توسّع الحكاية الأمّ الإغريقية. الحكايات و الأساطير تهاجر مثل الطيور كما يشير الباحث فاضل الربيعي في كتابه"أبطال بلا تاريخ"الذي أورد أمثلة كثيرة على هجرة الأساطير وأظهر أنّ أسطورة قصر الخورنق و جزاء سنمار مأخوذة عن أسطورة المعماري تروفونيوس وأنّ أسطورة زرقاء اليمامة مأخوذة عن أسطورة العرافة اليونانية العمياء كاسندر.
(ممو زين) قصة شعرية يُطلقُ عليها بعض الأدباء والباحثين ملحمة مم و زين، كتبها باللغة الكردية في القرن السابع عشر الشاعر أحمد الخاني، وتقع القصة في 2659 بيتًا ثنائي القافية.
ويسمّى هذا الشكل في الآداب الشرقية بالمثنوي، ووزنه العروضي هو:
مفعول مفاعلن فعولن.
واستعمل هذا الوزن كثيرًا في مثنويات العشق، ومن جملة ذلك منظومة ليلى والمجنون للشاعر النظامي. تتألّف القصّة من مُقدّمة أو ما يسمّى بالديباجة، ثم فصول قصّة حُبّ تتّسمُ بشاعريّة فياضة و مواقف رائعة في التضحية و الشهامة لكن تنتهي نهاية مأساوية مؤثرة.
و لقصّة (ممو زين) أساس تاريخي وقعت أحداثها في إمارة (بوتان) بمنطقة حكاري في كردستان (تركيا الحالية)، وقد جرت القصة على ألسن العامة ونظّمها شعراء شعبيّون في قوالب فولكلورية خالطين الواقع بالخيال والتاريخ بالأسطورة، يتغنّى بها مُطربون أصحاب خبرة في الغناء والرواية جيلاً بعد جيل في المضائف وفي المحلات العامة. والقصة الفولكورية تعرف بـ(مم الآلاني) وقد ذاعت في أرجاء المناطق الكردية، وجذبت إليها أنظار الأدباء المحليين والأجانب، وتُرجمت إلى لغات عدّة واهتم بها مستشرقون، فقد طبعها ونشرها ألبرت سونسين سنة 1887م في بطرسبورغ ونشرها سنة 1890م باللغة الألمانية، ونشرها لي كوك في ألمانيا سنة 1903م، ونشرت في أربع طبعات متتالية من سنة 1897م إلى سنة 1904م باللغة الأرمينية، ونشرها أوسكارمان في كتابه (التحفة المظفرية) سنة 1906م، كما ترجمت إلى اللغات الروسية والفرنسية والرومانية، ولم يتخلف الأدباء العرب عن إتحاف القراء بنبذة من هذه القصّة الشعبية، فنذكر في هذا المجال عبد المسيح وزير (في مجلة الرسالة والرواية ـ 448 لسنة 1942م ـ القاهرة) وصاغ الشاعر السوري أحمد سليمان الأحمد ملخصًا للقصة باللغة العربية.
قصّة ممو زين:
تنبعث أحداث هذه القصّة من قصر أمير جزيرة بوطان " الأمير زين الدّين " ، الّذي لم يكن ذا كفاءةٍ عالية وحسب ، بل كان يتمتّع بغنى واسع ومظهر كبير من القوّة والسّلطان والهيبة والإجلال في سائر أنحاء كردستان و إمارتها ، إضافة إلى المحبّة و الإعجاب من قلوب أمّته وسائر طبقات شعبه ، أمّا قصره الّذي كان آية من آيات الفنّ والإبداع والبذخ في التّصميم والتّشييد ، فكان يميس بعشراتٍ من الغلمان وأجمل الجواري والفتيات اللّواتي تزدن على رحابه جوّاً سحريّاً يشعّ بالفتنة والجمال ، غير أنّ الآية الكبرى للجمال في ذلك القصر لم تكن منبعثة عن أيّ واحدةٍ من تلك الجواري والحسان ،إنّما كانت سرّاً لدرّتين شقيقتين كانتا مثلاً أعلى للجمال ونموذجاً كاملاً للفتنة و السّحر الإلهي و إبداع الخلّاق العجيب ، و هاتان الغادتان هما شقيقتا الأمير زين الدّين . كان اسم الكبرى " ستي " وكانت بين البياض النّاصع والسّمرة الفاتنة ، وقد أفرغ الجمال في كلّ جارحةٍ من جسمها على حدة ، ثمّ أفرغ بمقدار ذلك كلّه على مجموع جسمها وشكلها ، فعادت شيئاً أبرع من السّحر و أبلغ من الفتنة ، وأمّا الصّغرى واسمها " زين " كانت هي وحدها البرهان الدّال على أنّ اليد الإلهيّة قادرة على خلق الجمال و الفتنة في مظهرٍ أبدع من أختها و أسمى ، فكانت هيفاء بضّة ذات قوامٍ رائعٍ وبياضٍ ناصع مزدهر فيه حمرة اللّهب ، ذات عينين دعجاوين تتجلّى فيهما كلّ آيات الفتك واللّطف الّذي يثخن الألباب فتكاً و يغمر العقل سكراً .
وتشاء الأقدار أن تلتقي هاتان الغادتان بصاحبَي مفتاح قلبهما وأسراره ، وهما "تاج الدّين " و " ممو" ، شابّان صديقان
كالأخوة ، جميلين كالبدر ، أقوياء كالأسود ، أميرين من أمراء الجزيرة ، لكلّ منهما باعٌ طويلٌ في خدمة الأمير زين الدّين ، فيتعلّق هوى ستي بروح تاج الدّين وقلب زين بكيان ممو .
وتمضي أيّام هؤلاء العشّاق كمن يمشي على الجمر، مستمسكين بالصّبر المرّ كالعلقم، محاولين إخماد نيران الشّوق المستعرة في جسدهم والّتي تكاد أن تفتك بهم، منتظرين الأمل الّذي لم يزدهم إلّا ذوباناً ودموعاً أحرقت خدودهم كما يحترق العشب اليابس ،ولكن لا بدّ للخالق أن يستجيب وللأقدار أن تحنو وللأيّام أن تطيب، فليس بعد اللّيل إلّا النّهار والظّلام إلّا النّور والهجر إلّا الوصال والمآتم إلّا الأعراس والمآسي إلّا الأفراح والبؤس إلّا النّعيم ، فتجري سنن هذا الكون في القصّة بزواج ستي من تاج الدّين بعد أن بلغ بهما الشّوق أشدّه واستعرت ناره في ضلوعهما ولاع الفؤاد فيهما كالفراش إذ ينثر روحه على أذيال اللّهب، زفاف جميلٍِ ورائعٍ جداً يفوق الوصف، اكتملت سعادتهما، ولكن سعادة زين و ممو توقفت وتحولت إلى شقاء وهم بعد أن بدأ بكر الكاذب المنافق حاجب الأمير زين الدين بتلفيق الأكاذيب والقصص حولهما.
فقرر الأخ أن يحرمها من الزواج حتى لو كان ممو آخر الرجال في الأرض.
بقي الحبيبان في لظى من نار صبرهما وحرمانهما ، يقضي كلٌّ منهما اللّيالي والأيّام في صومعة انفراده لا يبصران أيّ مؤنسٍ ولا ينتهي إلى سمعهما صوت أيّ راحم ، وأنّى للتّجمّل والهدوء أن يجد وسيلة إلى القلب إن لم تجد الهموم صاحباً يخفّف من آلامها والزّفرات مواسياً يبرد حرّها . أنّى لهذين العاشقين أن يذوقا طعم الحياة في بعادهما ، وأنّى لهم هناء عيشٍ و قرارة جفنٍ و جفاف دمعٍ إن لم يكحّلا العين باللّقاء والوصال ؟.
ولا بدّ للشّرّ أن يكون له يدٌ في قصّة هذا الحبّ العظيم ، إذ يقع ممو ضحيّة فتنة ومكيدة وغدر ، فيزجّ في السّجن عاماً كاملاً كان كافياً لإطفاء شعلة هذين العاشقَين وإخمادهما عن الوجود جسداً وروحاً ،. ولكنّ مغزى القصّة كان يتجسّد في تلك السّنة الّتي تعلّم فيها ممو أن ينظر إلى الأعلى ليرى الله، ومن يرى الله لا يطيب له النّظر لغيره ولا يجد السّعادة إلّا في كنفه ولا يلقى الرّحمة إلّا من عطفه ولا يتذلّل إلّا لجلاله ، بعد أن سحقت جراحه وحرم مطلب قلبه ويئس من صبره ، فقد اهتدى إلى لطف الله واستمتع بهديه وأنس بنوره بعد أن فقد من الدّنيا كلّ أسبابها وآمالها ، وظلّ ممو في قعر ذاك السّجن المظلم راكعاً ساجداً لا يفتأ يناجي الله ويتعبّده ، يهبط على قلبه أنسٌ إلهيّ يحفّ به ويخفّف من آلامه وأحزانه ، فأخذت تعظم صلته بالله تعالى وتتعلّق آماله به وحده ، ومع كلّ محاولات الأصدقاء في إطلاق سراحه،ومع كلّ ما قام به تاج الدّين في محاولة استرضاء الأمير ونيل عطفه ، إلّا أنّ قلب الأمير الّذي أُشِْرب أكاذيب عن ممو وأخته زين لم يدرك غلطته ولم يندم على فعلته إلّا بعد أن فات الأوان ، فكان ممو يحتضر في ذاك الكهف المظلم يلفظ آخر أنفاسه ، فسارت إليه زين المضناة مع أختها ستي وبعضٌ من الأهل والخدم ، علّها تردّ الرّوح إليه وتدخل البشرى إلى قلبه ، ولكنّ الأجل قد حان ، وشاءت الأقدار أن تصعد روح ممو الطّاهرة وهو بين أحضان زين في ذاك الكهف المعتم .
أمّا زين، تلك الوردة الذّابلة قضت نحبها في النّهار التّالي وهي تبكي وتصيح على قبر ممو، تلطّخ وجهها بالتّراب الّذي لا زال رطباً وتعانقه . ودفنت كما أوصت أخاها إلى جانب حبيبها بعد أن حجبتها الدّنيا عنه حيّاً . فصعدت روح هذين العاشقين بعد أن أذيقا طعم كلّ علقمٍ عُرف في الدّنيا إلى خالقهما ، ليقدّم لهما بيد عدله كأس سعادتهما ويبارك لهما في ظلّ رحمته رحيق حبّهما ويسعدهما مجتمعين برؤية وجهه بعد أن تسامت عواطفهما عن الرّغبة البشريّة إلى أعلى مراتب الرّوحانيّة ، فكان آخر ما قاله ممو :
" واشوقاه ... واشوقاه يا مولاي إلى اليوم الموعود "
وهكذا حكم الدّهر ألّا يجتمع ذانك الحبيبان إلّا في ظلمات تلك الحفرة ، وأن يتوارى أخيراً ذانك الكوكبان في برجٍ واحد ، وتنتهي هذه القصّة وتطوى صفحاتها الّتي كانت مثالاً للأدب الرّفيع الّذي أشرقت فيه العاطفة الملتهبة والمأساة المؤثّرة والعفّة السّامية والوفاء النّادر ، لتصبح مرجعاً في الكتابات الوجدانيّة السّامية بما احتوت من تشابيه وصور ومعان كانت قمّة في بلاغتها و مثلاً بروعة معناها وصدق وصفها ومتانة سبكها وكمال طهرها وعفّة مغزاها .
يدفن الحبيبان معاً في التراب تنفيذا لوصية زين بعد أن رق قلب أخوها لحالها وقرر أن يزوجهما لكن بعد فوات الأوان ويُدفن تحت قدميهما بكر بعد أن قتله تاج الدين في ثورة غضب عارمة..!!
وهكذا نما هذا الحبُّ عظيم، الحبُّ الذي لم يُكتب له إلا الشقاء والتعاسة في الدنيا، حبٌّ وقفت الفتنة والكذب في وجهه كجدار ٍ لا يخترقه إلا الموت فأصبح أجمل قصة حب نبت في الأرض وأينع في السماء.