من يعتقد ان رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي ، يفتقر الى الدهاء فهو واهم ، وأذا كان الرجل يقتقر الى صفات الزعيم الكاريزمي من جاذبية و حضور طاغ و سحر شخصي وتأثير ايجابي على الآخرين فأنه يتمتع من دون شك بدهاء في مجال حبك خيوط الدسلئس وشق الصفوف وخلط الأوراق وألهاء الناس بالأزمات المفتعلة المتتالية .
واذا كان العراقيون مختلفين في كل شيء الا أنهم مجمعون اليوم على فشل حكومة المالكي وأستشراء الفساد فيها وتبديد ثروات العراق من دون تحقيق أي انجازا يذكر ، بل على النقيض من ذلك ،نجد أن الأوضاع العامة في العراق في الوقت الراهن ، أسوأ بكثير من عام 2006 حين تولى المالكي الحكم لأول مرة . ولعل أبلغ دليل على هذا الفشل تكبد حزب المالكي هزيمة نكراء في أنتخابات المجالس المحلية الأخيرة التي جرت في العام 2013 ، حيث فقد هيمنته على العديد من الحكومات المحلية في وسط وجنوب البلاد . وقد شهد بذلك شاهد من أهلها ، فقد بعث أنصار حزب الدعوة الأسلامية في خارج البلاد ، عقب تلك الأنتخابات برسالة الي زعيم الحزب يعبرون فيها عن خيبة أملهم لعدم حصول الحزب سوى على ( 13) مقعدا ، وجاء ترتيب حزب الدعوة في ذيل قائمة ( التحالف الوطني ) .
ولما كان الرجل لا يؤمن بالتداول السلمي للسلطة ولا يفكر بالتخلي عنها ومتمسكاً بها وعاشقا لها ومتمتعا - هو وحاشيته والمقربون منه - بمغانمها ومباهجها وسطوتها ، مهما كانت الظروف ، ويتبع سياسة تصفية من يعارض سياساته الهوجاء ، التي قادت البلاد الى حافة الهاوية . وبما أن الأغلبية الساحقة من العراقيين ، بشتى أنتماءاتهم القومية والدينية والمذهبية لم تعد تصدق وعوده :، بعد ان سقطت ديماغوجيته المكشوفة تحت أقدام المتظاهرين والمتظاهرات في يوم 25 شباط 2011، بسبب ذلك كله ، لم يتبق أمام المالكي سوى اللجؤ الى وضع مكائد وفق سيناريوهات معقدة ومتعددة الصفحات ، تؤمن له الفوز بولاية ثالثة ولو أدي ذلك الى أزهاق أرواح آلاف الناس الأبرياء من رجال ونساء وأطفال . وأهمها ( سيناريو الأنبار ).
الذي حيكت خيوطها بمهارة ومكر ودهاء .
لتوضيح ابعاد هذا السيناريو لا بد ان نرجع قليلا الى الوراء وتحديدا الى اليوم الذي اتفق فيه المالكي مع شيوخ ووجهاء الأنبار على رفع الخيام من ساحة الأعتصام في الرمادي .
في مساء ذلك اليوم تم تنفيذ هذا الأتفاق بكل بهدؤ ، تفاخر به المالكي نفسه حين صرح أن رفع خيام الأعتصام تم من دون أراقة نقطة دم واحدة .
وكان من الممكن ان تعود الأمور الى طبيعتها في الأنبار ويعم الأمن والأستقرار فيها لو التزم المالكي بتنفيذ الفقرات الأخرى من الأتفاق المذكور وأهمها تلبية المطالب الدستورية للمعتصمين ,وليس دفنها في أضابير اللجان ، كما فعل طوال عام كامل. ولكن الرجل لا يستطيع الحكم في أجواء الأمن والأستقرار من دون الهاء الشعب عن معاناته اليومية .
و لهذا السبب تحديدا ، شرع بعد رفع الخيام وعلى الفور ، بتطبيق الصفحة الثانية من السيناريو المشؤوم . ففي ساعة متأخرة من تلك الليلة هاجمت قوة من ( سوات ) بكل ما تيسر لها من اسلحة خفيفة ومتوسطة منزل النائب أحمد العلواني ، ونحن لا نناقش هنا حيثيات هذا الهجوم وكون العلواني نائب يتمتع بالحصانة البرلمانية ولا مدى صحة التهم الموجهة اليه ، فهذا شأن القضاء – ان كان في العراق قضاء مستقل - ولكننا نتحدث عن التوقيت الدقيق لهذا الهجوم ، الذي أدي الى غضب عارم لأهالي الأنبار و الى تردي الوضع الأمني ، وتنصل المالكي من تنفيذ بقية بنود الأتفاق بين الطرفين وهذا ما كان يريده المالكي تحديدا ، لأتخاذ ذلك مبررا للتنصل من تنفيذ بقية بنود الأتفاق وكسر شوكة العشائر وعموم سكان محافظة الأنبار .لأنه لم يكن بوسعه مهاجمة ساحة الأعتصام بقوة السلاح أمام أنظار العالم .
وبدأت الصفحة الثالثة من السيناريو ، حين أنسحب الجيش من مدن الأنبار ، مما فسح المجال لتسلل عناصر تنظيم ( داعش ) اليها
أما الصفحة الرابعة وهي أخطرها ، فأنه يهدف الى أفراغ مدينتي الرمادي والفلوجة من السكان عن طريق القصف العشوائي للأحياء السكنية فيهما و وأجبار عشرات الآلاف من العوائل على النزوح الى مناطق أكثر أمناً . وما يصاحب ذلك من مآسي أنسانية وتداعيات سياسية .
ولا ندري مدي دقة المعلومات عن سيطرة ( داعش ) على مدينة الفلوجة وجزء من مدينة الرمادي . ففي الوقت الذي كان فيه الجيش يحارب ( داعش ) في وادي حوران أي على بعد مئات الكيلومترات من مدينتي الرمادي والفلوجة، فأن سيناريو المالكي هو الذي أتاح لعناصر ( داعش ) بالدخول الى المدينتين .
هذا السيناريو يحقق هدف المالكي الأهم والأكبروهو تأجيل الأنتخابات البرلمانية في محافظة الأنبار أو أجراؤها في ظروف لا تسمح بالمشاركة الكثيفة فيها وتفويت الفرصة على سكان الأنبار في أختيار ممثليهم الحقيقيين للدورة البرلمانية القادمة ، ويتيح للمالكي اجتناب ما حدث في الأنتخابات التشريعية السابقة في عام 2010 ،عندما أصيب بصدمة كبيرة بعد فوز القائمة العراقية ب( 91 ) مقعدا وتفوقها على قائمة التحالف الوطني .ولم يكن بوسع المالكي البقاء في الحكم لولاية ثانية لولا أمرين اثنين ، أولهما ، صدور قرار غريب وعجيب من ( القضاء ) - الخاضع لهيمنته والذي يفسر بنود الدستور حسب أهواء الحاكم ومصلحته - يقول القرار ان الائتلاف الفائز في الأنتخابات هو الائتلاف الذي الذي يتشكل بعد الأنتخابات لا قبلها وهو أمر لا سابقة له ، ليس في العراق ولكن في العالم بأسره . وثانيهما أتفاقية أربيل ، الذي تنصل منها المالكي في الجلسة الأولي للبرلمان .
وعودة الى صلب موضوعنا نقول أن صفحات هذا السيناريو لم تنته بعد ، وستكشف الأيام القادمة ما تبقى منها ، وهي كلها تهدف الى تحقيق هدف المالكي الرئيسي وهو سحق القوى المعارضة لنهجه الدكتاتوري وتصفيتها الواحدة بعد الأخرى واعادة المساسل الكارثي لدكتاتورية صدام ، على نحو آخر لا يختلف من حيث الجوهر عنها وأن اصطبغ هذه المرة بصبغة أخرى حسب مقتضى الحال .
مقالات اخرى للكاتب