لاتوجد في التاريخ مدينة أمتلكت من اسرار وجودها وشبابها مثل مدينة بغداد ، كل المدن تعيش تلك الدورة التسجيلية للحياة ، ولادة ثم نمو بعدها شباب وازدهار ثم كبر وشيخوخة فعجز فنهاية ، المدن لاتموت بل يسكنها الموتى إن تعذرت الحياة .
بغداد وحدها إستثناء بالروح وفتنة الشباب الدائم ومحاكاة العصور المتنوعة بما يوازيها من إبداع وحضارات ، احيانا تدير وجهها صوب الماضي لتطمئن " بن زريق البغدادي" على أمانته فيها ،
( أستودع الله في بغداد لي قمرا .... في الكرخ من فلك الأزرار مطلعه )
لم تكن بغداد الأسوء للعيش ، إنما طغى بها السيئون ففاضت بالدم والعنف والفقر والمجاعة والغرباء وبقايا ظلال هولاكو ، لكنها بخلاف المدن تختزل أحد أهم شروط الطبيعية فتحفظ في عمق روحها أسرار الأحداث وصور القتلة ، كما تحفظ جذور إنطلاقها من جديد ...هكذا يرسم الموقف مصطفى جمال الدين .
( بغداد مهما أشتبكت عليك الأعصر ......إلا ذوت ووريق عودة أخضر )
وكم أخلصت للجمال في مجده وصدقه كلمات الأخوين رحباني في عصرنا الحديث ، حين أبرزت بعض خصائص بغداد بكونها مدينة للشعراء وصور المجد وعبق الزمان وثرائه ؛
بغداد والشعراء والصور ذهب الزمان وضوعه العطر
يا ألف ليلة يامكملة الأعراس يغسل وجهك القمر
بغداد الضوء والعطر والنارنج والنخيل ودجلة وروائح تاريخ نديّة ،إيقاعات موسيقى لاتنتهي يتنقل في هديها بشر حالمون، يمطرون حلاوة ونقاء في إيقاعات جمال يتبدى ويتبغدد في منحى للترف الباذخ الصاعد من ضفاف الأعظمية الى شواطئ الجادرية .
بغداد الراهن تظهر الأسوء للعيش في تقرير شركة " ميرسر " وللسنة السادسة وفق تاريخ الخراب العبعوبي وحكومة الفساد والتزوير واللصوص الذين أذلوّا بغداد وجعلوا يومها بكاء ً ، ولم تكن مفاجأة أن تذل أم الدنيا في زمن الدخلاء والجهلاء والأميين ، ذاكرة بغداد لن تمحى عنها صور الإبتذال والإهانة والخراب والخرافة التي أوجدها العثمانيون والصفيون إبان تعاقب إحتلالهم لها ، لكنهم رحلوا وبقيت بغداد تعانق المجد مابقي الليل والنهار ..تلك منائر موسى بن جعفر الكاظم وهنا مرقد النعمان الإمام الأعظم ، يتقاسمان الأمانة في حراسة بغداد مع أفواج المتصوفة والقديسين والفلاسفة والشعراء وأهل الشرف والأخلاق .
مقياس البغادة يختلف عن "ميرسر" فهي لم تزل حاضنة القلب وجنته ..والأجمل في كل الدنيا ..سيغسلها المطر ويعود الأمير نزار قباني يحتمي بثيابها الزاهية .
بغداد ..جئتك كالسفينة متعبا ً
أخفي جراحاتي وراء ثيابي
ورميت رأسي فوق صدر أميرتي
وتلاقت الشفتان بعد غيابي
مقالات اخرى للكاتب