حديث المواطن يحمل الكثير من الشجون ، وهو يرى حلمه قد تبدد، والتغيير الذي كان ينشده، أصبح سراباً.
كان يعيش بميزانية عامة ، لا تتجاوز الـ10 مليارات دولار، وهو اليوم يعيش بميزانية تجاوزت الـ 100 مليار دولار، ومع هذا الفارق الكبير، لم يتغير شيء في واقعه، بل ظلت معاناته المعيشية ذاتها تلاحقه.
كان الحصار القاسي يستهدفه بالصميم، وكانت مبررات تلك المرحلة معلقة بقرارات مجلس الأمن، حتى اصبحت العيون تتجه صوب نيويورك كلما جلس الأعضاء الـ"15" لمناقشة الحصار المفروض على العراق، وينهار كل شيء امامه عندما يصدر القرار بالتمديد.
ولما رفع الحصار بعد الغزو، تصور هذا المواطن ان اقتصاده سيعود كما كان في سبعينات القرن الماضي، وسينتعش ديناره من جديد ، وتعود "الخردة" المعدنية الى المعاملات التجارية في البيع والشراء.
كان العراق يبيع برميل النفط الخام في عام 2002 بسعر 23 دولاراً، فيما باعه في 2011 بـ 106 دولارات ، وهذا الفارق الكبير في السعر واكبه فارق كبير آخر في الإنتاج، حيث زاد من 1.4 مليون برميل في اليوم عام 2002 ، الى 201 مليون برميل في عام 2011.
وبإستثناء طبقة او نصف طبقة من المجتمع تغير واقعها الاقتصادي تبعاً لهذه المتغيرات، ربما لأسباب غير منطقية، أو لدواعي المرحلة التي اعطت فرصاً خاصة، وحجبت اخرى عن المجتمع، ظل الفقير على فقره، والمحروم على حرمانه، ولعلنا نستعير ذلك المثل المصري الذي يؤشر واقع الناس بين عهدين:"اللي اغتنى بعهد اياه عمره ما بيفتقر، واللي افتقر بعهد اياه ، عمره ما بيغتني."
لذلك، لم يعد المواطن يهتم بالأرقام التي تحصيها الحكومة، ولا ببراميل النفط التي تصدرها، ما دامت انها لم تستهدفه في معيشته ، ولا سكنه، ولا الخدمات التي يصبو اليها ، خصوصاً انه يرى تراجعاً في واقع البلاد في جميع المستويات ، واذا كان يصبر من أجل غاية يتطلع اليها، فان الغايات كلها مفقودة ، فلا أمن غذائي، ولا مجتمعي ، ولا استقرار ، ولا كرامة انسانية، ولا احترام لحقوقه، ولا التزام بمبدأ المساواة، ولا تكافؤ في فرص العمل ، بل اجتمع عليه الخوف والحرمان، والأدهي في هذا ، ان مصدر خوفه من جهة آمنة، ومصدر حرمانه من جهة غناه وثراء البلد.
وفي ظل غياب السياسة الإقتصادية ، تحول الإقتصاد العراقي، الى اقتصاد استهلاكي ، يستورد كل شيء من الخارج، بل انه يستورد لدعم اقتصاديات بعض دول الجوار على حساب انتاجه الوطني، وبالتالي أصبح النفط ، يشكل المورد الوحيد للعملة الصعبة، حيث يشكل 95% من واردات الميزانية، وبذلك ضيعنا قطاعات مهمة، كالزراعة والصناعة والسياحة، وكان الأمل يحدونا ان يسهم النفط في دعمها للنهوض بها من جديد، لكن الفكرة المسيطرة اليوم على راسمي السياسة الاقتصادية ، أن يزداد تصدير النفط الخام الى عشرة ملايين برميل في اليوم، ليزداد الاغنياء غنىً، وليزداد الفقراء فقراً.!
لقد حقق العراق بفضل الثروة النفطية موارد مالية كبيرة، إذ بلغ مجموع الإيرادات العامة 463.71 ترليون دينار، من 2004 لغاية 2011، الا انه لم يوفق في تسخير تلك الموارد بشكل كفوء في اشباع إحتياجات المواطن الاساسية، على وفق تقارير وزارة التخطيط، فيما كان وضعه ، عالمياً ، بين اربع دول لم تستطع اجهزتها الحكومية تلبية احتياجات مواطنيها، بحسب تقارير دولية.
مليارات، عرفها المواطن، وترليونات سمع بها حديثاً، ولا يزال يسأل : الترليون كم يبلغ؟، لكن بعيداً عن حساب الارقام، ماذا تحقق من منجز؟.. فقر ، وبطالة، واطفال شوارع، وبيوت من تنك، فيما لا عمران ، ولا تنمية، ولا خدمات، ولا أية بارقة أمل لالحاضر ولا مستقبل.
ما يطفو على السطح ، أجهزة أمنية ، وقوات تملأ الشوارع ، وسيطرات لا حصر لها ، وجدران كونكريتية، وبناء سجون سرية وعلنية ، بلا عناوين ولا نجوم، وصفقات تسليح مشوبة بالفساد، وتشكيلات جرارة تجاوز تعدادها المليون.
نعم، كنا وصرنا على حال واحد ، بل اسوأ ما كان، فمالذي تغير سوى المليارات زادت، وزاد معها الفقراء!.
مقالات اخرى للكاتب