أن تأريخ الحضارة الاسلامية ومنذ بداية نشر الدعوة والى اليوم، كان للعلماء الفضل في تنشئة المجتمع ومحاصرة بؤر التوتر وتحصين الفرد والجماعة من الانزلاق في مهاوي الفتن، وهؤلاء هم علماء الأمة الحقيقيون والذين يمكن وصفهم بـ " ورثة الأنبياء"، وهم العلماء الربّانيون الذين يراد لهم ومنهم قيادة الأمة وتوحيد أبنائها ونشر السلام والأمان في ربوع البلدان التي يقطنونها.
وقد كان للعلماء الحقيقيين دورا كبيرا في توحيد المجتمع على الرغم من الانتماءات القومية المتعددة لأفراده، وكذلك تعدد المدارس والمذاهب الفقهية أيضاً، فقد كان وجودهم يشكل صمام الأمان للمجتمع، فضلا عن الاعتراف المتبادل بفضل وعلم نظرائهما من العلماء تاركين التناحر والتنافر خلف ظهورهما، ولا شك ان مثل هذا التعايش والأنسجام للنخب كان قد إنعكس بالنتيجة على عامة المجتمع، بغض النظر عن الاختلافات التي رافقت وجود المجتمعات.
أن الاختلاف هو من السنن الكونية التي تسهم في الاثراء المعرفي للأمم، فقد كان وما زال الاختلاف قائما في الأديان والمعتقدات والمذاهب والآراء والملل والنِحل تبعا للحكمة الالهية البالغة والنافذة ، حيث يقول تعالى في كتابه الكريم " وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ، وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ"..(هود 118). وقد أكّد الإسلام أيضا على أن الإكراه لايتفق مع الإيمان، كما في قوله تعالى "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ"..(البقرة 256).. فوضوح الدلائل وجلاء البراهين كافية لتكوين بيّنة صريحة عن حقيقة النجاة أو الهلاك.
أما اليوم، وفي زمن الفتن المتلاحقة، فقد فشل معظم العلماء فشلاً ذريعا في مقاومة الفتن، بل أسهم الكثير منهم في تغذيتها من خلال الدفع بالشباب في متاهات العنف والكراهية ومجاهيل التطرف الأعمى تحت لواء الإرهاب، وقد تحوّل دور الكثير منهم من صمّامات أمان في المجتمع الى صواعق انفجار تمسك بأطرافها أيدي حًكّام الضلالة وسلاطين السوء أو أطراف خارجية مشبوهة تمتلك امكانية التأزيم والتفجير في الزمان والمكان الذي يخدم مصالحها واستراتيجياتها المرسومة سلفاً.
لقد أصبح معظم علماء الدين شركاء في سفك الدماء في البلدان العربية والاسلامية ودول العالم الأخرى،إلا ما ندر، وبشكل تسافل فيه الخطاب الاعلامي والديني لهؤلاء حتى أصبح فيه الإسلام في واد، والمسلمون في واد آخر. فقد كثرت الرؤى وتباينت الآراء في قضايا حسّاسة ومصيرية حتى بات التهوّر والهرج سيداً الموقف، وقد سُخّرت وللأسف واردات الذهب الأسود في بعض دول الخليج لتغذية الصراعات في المنطقة وتحويل مواطن الاختلاف بين المسلمين الى خلافات جذرية حادّة مدعاة الى تورط البعض بدم البعض الآخر، وكما هو الحال في العراق وعلى وجه الخصوص نشاطات داعش الإرهابية المدعومة من تلك الدول، والتي لم يسلم منها حتى الأطفال، حيث أدخلوهم في آتون الإرهاب من خلال تعليمهم الذبح من الوريد الى الوريد.
وقد رأينا كيف دفع ويدفع علماء السوء ومشايخ التكفير وسياسيو الفتنة اليوم الوضع العراقي بهذا الإتجاه، فقد أصبح الدم العراقي رخيصا وفقا لفتاوى القرضاوي وعلماء الوهابية التي أريد لها أن تتحوّل من نظام حُكم وراثي أو غطاء سياسي رديف الى مذهب ديني لإثارة الفتن وإحباط التجارب الديمقراطية في المنطقة.
وأي كانت سلوكيات هؤلاء المشايخ وسلاطينهم ومع خذلانهم للإسلام، ألا اننا نرى الإقبال عليه اليوم في الغرب يزداد بوتائر متصاعدة حتى بات مثل هذا الحال مؤرقا للأطراف الأخرى. ولن يضر الدين شيئا فإن ارتقى المسلمون الى المستوى الحضاري والقيم الانسانية للإسلام فسوف ينالوا احترام العالم لهم، أما إن انحطّ المشايخ والسلاطين الى مستوى البهائم أو أضلّ سبيلا، فذلك لن يضر الإسلام شيئاً، لأن للدين ربُ يحميه.
مقالات اخرى للكاتب