الشاعر خارج النص... الشاعر عبد الكريم كاصد.. تأليف: عبدالقادر الجموسي
الثلاثاء, أيار 6, 2014
إضاءة:
"كن شاعرا في كل ما تفعله، مهما يكن بسيطا و قليل الشأن. كن شاعرا خارج النص قبل أن تكون شاعرا فيه. كن شاعرا في مأكلك و مشربك و سلوكك و حبك و ذهابك و إيابك و نومك. كن شاعرا على الدوام". فرناندو بيسوا
"أنا لست الشخص ذاته في كل تجربة..كل تجربة خلق لي و اكتشاف لم أفكر به من قبل. و الا ما فائدة عمل لا يبعث المتعة و الفرح... كل قصيدة هي فرح غامر..تجل لواقع جديد..لروح جديدة. الشعر فرح مطلق حتى لو كان حدادا..". عبد الكريم كاصد
مقـدمـة
سيرة الشاعر عبد الكريم كاصد:
ابتدأ الشاعر العربي عبد الكريم كاصد نشر قصائده الأولى منذ أواخر ستينيات القرن العشرين المنصرم. و صدرت أولى مجموعاته الشعرية الحقائب سنة 1975، لتليها النقر على أبواب الطفولة (1978)، الشاهدة (1981)، وردة البيكاجي (1983)، نزهة الآلام (1991)، سراباد (1997)، دقات لا يبلغها الضوء (1998)، قفا نبك (2002)، و زهيريات (2005).
ولد عبد الكريم كاصد في مدينة البصرة (العراق) سنة 1946. و حصل على ليسانس في الفلسفة من جامعة دمشق عام 1967، و ماجستير في الترجمة من جامعة وستمنستر بلندن1993، ثم بكالوريوس في الأدب الانجليزي من جامعة نورث لندن سنة 1995.
زاول التعليم كمدرس للغة العربية و علم النفس. كما اشتغل في الصحافة كمحرر ثقافي في مجلة "الثقافة اليمنية". غادر العراق هربا من ملاحقة السلطة له و للعديد من المثقفين العراقيين. عاش حياة ترحال و منفى أخذته عبر العديد من البلدان العربية و الأوروبية كاليمن و الجزائر وسوريا و لبنان و فرنسا و روسيا لتحط به الرحال بالمملكة المتحدة منذ أواخر التسعينات. يقيم حاليا بمدينة لندن مع طفليه زياد و سارة بعد رحيل زوجته حذام عام 2002.
ترجم الشاعر العديد من الدواوين الشعرية: كلمات لجاك بريفير (1981)، أناباز لسان جون بيرس(1987)، قصاصات ليانيس ريتسوس(1987)، ثم نكهة الجبل للشاعر الياباني سانتيوكا تانيدا (2006).
ألف عبد الكريم كاصد في القصة كما في المسرح حيث صدرت له المجموعة القصصية المجانين لا يتعبون (2004)، و عرضت له مسرحية شعرية بعنوان حكاية جندي في مسرح أولد فيك (Old Vic) الشهير بلندن خلال عام 2006. كما أنجز عملا تحقيقيا للأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي مصطفى عبد الله الذي عاش بمدينة القنيطرة بالمغرب.
ترجمت قصائده إلى اللغات الفرنسية و الإنجليزية و الدانماركية، كما وردت سيرته في معظم أنتولوجيات الشعر العربي خصوصا في "معجم الكتاب المعاصرين" و "معجم البابطين" و"أنتولوجيا الأدب العربي المهجري المعاصر" للدكتور لطفي حداد و من قبلها "أنتولوجيا الشعر العربي" لسلمى خضراء الجيوسي.
شارك في منتديات شعرية دولية بألمانيا و السويد و الدانمارك وبريطانيا. كما نشرت أعماله و ما تزال تنشر في أهم الدوريات و المجلات الأدبية والشعرية، أبرزها عربيا مجلة "الكرمل" التي يشرف عليها الشاعر العربي الكبير محمود درويش.
و اعترافا بعطائه الشعري المتواصل أقيمت دورة مهرجان المربد بالعراق باسمه سنة 2006. له قيد الطبع عمل سردي رحلي موسوم باتجاه الجنوب...شمالا، و مجموعة شعرية جديدة تحت عنوان "هجاء الحجر".
هـذا الحــوار:
في هذا الحوار الشامل و العميق، يفتح عبد الكريم كاصد بوابات محفله الشعري على مصراعيها ليلج بقارئه عوالم الذاكرة و الحلم و تناقضات الواقع و موقف المثقف منه. و بأريحية الشعراء المعهودة، و المفتقدة في آن، يكشف لنا عبد الكريم صنعة الشعر الخفية حتى ليجد فيه القارئ، و هو المحاور الافتراضي بامتياز، أسلوب الشاعر وطرائق اشتغاله على اللغة و المخيلة و كيفيات استلهامه للتراث الشعري الإنساني. كما يعرج الشاعر بنا إلى مختبره الفني حيث يقدم كشوفات وإفاضات مركزة لمعمارية قصائده ودواوينه وبلاغة عناوينها و رهافة صورها واستعاراتها وبلاغتها.
لقد أبدى الشاعر عبد الكريم كاصد وعيا حقيقيا بحرفته و بصنعة قصيدته مؤكدا مرة أخرى على أن الشعر ليس رطانة لغوية مجوفة، و إنما هو إبداع معزز بفكر منفتح و أسلوب حياة حامل لموقف من الشعر و من العالم معا.
العالم الشعري لدى عبد الكريم كاصد ليس نصا مغلقا، و إنما هو بناء مشرع على الحياة، وليس بنية مسيجة بمسوح اللغز العصي على الافتضاض، و إنما هو نص مفتوح على الحياة واللغة و الجمال و الفكر والإنسان في شرطه الوجودي الشامل.
في هذا الحوار يصر الشاعر على مساءلة تجربته قبل كل شيء و محاورة غيره من الشعراء و النقاد و المثقفين حتى لا يكون خطابه مونولوغا منفردا. لذلك تراه يفتح مساحات للتأمل الذاتي و التواصل مع تجارب شعرية كبيرة في مشهدنا العربي و العالمي، كتجربة محمود درويش و أدونيس و السياب و إليوت و ممدوح عدوان و سان جون بيرس و رامبو و ريتسوس و سعدي يوسف و كاظم جهاد و إدوارد سعيد و محمد الجواهري و ناظم حكمت و مصطفى عبد الله وسوزان برنار و محمد الماغوط و عبد الوهاب البياتي والبريكان وغارسيا لوركا.
طبيعة الحوار:
الحوار الذي أقدمه مع الشاعر عبد الكريم كاصد ليس حوارا صحفيا يقتنص الحدث ويبتهل اللحظة السانحة. وإنما أريد له أن يكون حوار عمق عن الشعر و الفكر و الحياة.
و من خصائص هذا النوع من الحوار المعمق (The Depth Interview)* انخراط المتحاورين في سيرورة مكثفة من الأخذ و العطاء و النقاش المتبادل من أجل استكناه آراء ومواقف و وجهات نظر الشاعر أو المفكر عموما. كما تكون العلاقة بين الطرفين على درجة عالية من الثقة المتبادلة بنحو يجعل فضول المحاور المتطلع يتجاوز عتبة الأسئلة الجاهزة و يشتبك مع عوالم محاوره في مسعى للنفاذ إلى عالمه الأكثر خصوصية أو مختبره الشعري، إذا جاز التعبير، لاكتشاف الشاعر داخل الإنسان و الإنسان داخل الشاعر.
و من الجهة الأخرى، فإن درجة التلقي، من موقع الشاعر/المفكر، تكون على مستوى عال من التجاوب بحيث يساهم المستجوب (بفتح الواو) في دينامية العملية الحوارية بطرح أسئلة على السائل نفسه بحثا عن تدقيقات و إفاضات متسعة كنوع من المشاركة في إدارة دفة الحوار و بناء جسور التفاهم و صياغة المعنى المشترك. و الحقيقة أنني وجدت لدى الشاعر عبد الكريم كاصد من نبل إنساني و انفتاح على الوجود ما شجعني على أن أتجاسر على اقتراح إنجاز هذا الحوار رقم قصر مدة تعارفنا في مدينة المفارقات المستعصية لندن. هذا التعارف الذي ابتدأ بسيطا ليتطور و ينفتح على عوالم صداقة خصبة، إنسانية و فكرية، على قدر كبير من الرحابة و الود والعطاء.
لماذا الشاعر عبد الكريم كاصد؟
لعبد الكريم كاصد شخصية عابرة للزمن. لقد واكب هذا الشاعر العراقي تجربة الشعر العربي، إبداعا و متابعة، ما ينيف على أربعة عقود من الزمن، لربما كانت هي الزمن الموضوعي لولادة أسئلة الحداثة الشعرية العربية، مما يمنحه موقعا مميزا لتقديم قراءة شاملة و عاشقة لتجربة الشعر العربي المعاصر.
هذا ناهيك عن ما يتمتع به الشاعر عبد الكريم كاصد من شغف كبير بالمعرفة و حب للغات وقراءة صاغية ومتأملة للفلسفة و الأدب و علم النفس و فن الترجمة. أضف إلى ذلك رصيد الشاعر من العلاقات الإنسانية والأدبية الممتدة عبر أجيال متعاقبة و متسعة، و استعداداً تلقائياً وعنيداً للمحاورة و الإصغاء إلى الآخر و إن كان مختلفا.
ما كنت أتوخاه من هذا الحوار هو الدخول إلى المختبر الشعري للشاعر و استجلاء رؤيته للعالم، ومن ثمة فتح مساحة تأمل للذات الشاعرة و مساءلة علاقاتها الجمالية مع الأمكنة و اللغة والذاكرة و الحلم و النماذج الأولى. ومن خلال كل ذلك وضع الشاعر في موقع المتأمل و الناقد لتجربته الشعرية و الحياتية على ضوء تطور أساليبه التعبيرية ومسعاه المتواصل لتجاوز الذات والبحث عن لغة أخرى، و هو ما يصطلح عليه عبد الكريم كاصد ب"نفي الشعر للشعر".
إن تحقيق كل هذه الرهانات لإنجاز حوار فكري اقتضى توفير مساحة من الزمن متسعة وقادرة على احتضان زخم الرهانات المطروحة، الأمر الذي أدى إلى عقد لقاءات متعددة مواكبة لسيرورة الحوار الرئيسي، حملتني إلى قراءة جل أعمال الشاعر و تفحص حواراته القديمة والجديدة، و كذا الاطلاع على الدراسات العديدة التي تناولت أعماله الشعرية والسردية على حد سواء.
و الحقيقة أنني لم أكن أعلم أنه لكي تحاور شاعرا كبيرا من عيار عبد الكريم كاصد يجب عليك أن تقرأ لا كتبا و إنما مكتبة بكاملها.
عبد القادر الجموسي
------------------------------------------------------------------------------------------ * بخصوص هذا النوع من الحوارات، انظر: - Fred Massarik, The Interviewing process re-examined, pages201 - 206, in Human Inquiry, A Source Book of New Paradigm Research, Edited by Peter Reason, John Rowan, John Wiley & Sons,1991.
- Sarah Anne Johnson, The Art of the Author Interview, University Press of New England, Hanover and London, 2005.
الفصل الأول:
أبـــواب الطفـولــة
ابن الرافدين/ الشعر و الذاكرة:
* الشاعر عبد الكريم كاصد، أود أن نبتدئ من البداية. و بداية كل شيء طفولته. و ما الشعر في جوهره سوى طفولة مستعادة. ماذا لو حاولنا معا استجلاء طبيعة العلاقة بين عبد الكريم الطفل والشاعر؟ كيف عاش طفولته و ما هي أهم الروافد التي صاغت ذاته المرهفة و أثرت في حساسيته الشعرية؟
** قبل فترة كتبت قصيدة ذات فكرة تبدو غريبة نوعاً ما عن حياة هي ليست غير حلم أو ذكرى رجلٍ ميت تتداخل فيها الأزمنة فلا ماضٍ هناك ولا حاضر ولا مستقبل، بل أزمنة تتداخل. غير أن القصيدة لا تتعامل مع هذه الفكرة في تجردها بل في تجسدها الواقعي الملموس وفي التفاصيل التي تقربها من الواقع لا الحلم الذي تتحدث عنه، من الإنسان الحيّ لا الميت الذي يتذكّر. القصيدة هي:
فكرة بغيضة
أحياناً تراودني فكرة كم أحاول أخفاءها فكرة بغيضة ماكرة هي أنني رجلٌ ميْت يتذكر أيامه الغابرة دون أن يعرف إن كانت هذه ماضيةً أم حاضرةً أم آتيةً وقد تداخلت الأيام فهو الطفل في كهولته والكهل في طفولته والشيخ في حاضره ولايدري إن كان الناس يظنونهُ طفلاً أم شيخاً أم كهلاً يسأل مرآته أحياناً : كيف يرتّب أيامَهُ بل كيف يرتّب وجهَهُ في فوضى هذي الأيام ذات الأبواب الألف
المشرعة على أبوابٍ ألف المشرعة على .. أبوابٍ أدخلها أولها أم آخرها هذا البابُ المخلوعُ المائل؟
أبوابٌ يدخلها رجلٌ ميْت
هل في هذه القصيدة إجابة ما؟ لا أدري ولكنني أستطيع أن أقول أن ما يتراءى لي طفولة هناك لم يزل حاضراً هنا، وما أراه شيخوخة الآن لم تكن طفولتي بمنأىً عنه. لم تكن الطفولة وهماً أو سعادةً محضاً بل كثيراً ما أطلت بملامح أخرى.. ملامح لم يدركها الطفل آنذاك.
حقّاً إنني ما زلت حتى الآن لا أعرف كيف أرتب أيامي أو كيف أرتب وجهي، مثلما لا أعرف كيف يظنني الناس: طفلاً أم شيخاً أم كهلاً؟ و لعلّ الشيء الوحيد الذي أعرفه أنني أمام أبوابٍ شتّى وأنني ما أزال مشروعاً للمغامرة خلف الأبواب.. وأنني ما زلت الطفل الذي يطلّ بين فترة وأخرى، وأن الكهولة ليست مؤجلة، أو تالية، وأن الشعر حاضر في هذه التحولات يقبس منها ناره أبداً، ولعلّ في هذه النار ما يقيني برد العالم الذي يحوطني، والزمن الذي يخترقني . لذا أعتقد أنني ما زلت بعيداً عن أية صياغةٍ ناجزة، وأن روافدي لم تنضب أو تنقطع بعد، وأن بعضها لم يزل يحفر عميقاً في شعري. هل يمكن أن أقول أن ألف ليلة وليلة التي رواها لي خالي موزان كاملة أكملت فعلها فيّ أو في شعري؟ هل أستطيع أن أغادر طفولتي وكأنها مدينة مررت بها في قطار عابر؟ هل انتهى رافد الشعراء الذين أثّروا فيّ: طاغور، المتنبي، لوركا، نيرودا، ناظم حكمت، إليوت، عزرا باوند، فروست، السياب.. وغيرهم؟ أم أنني ما زلت أرى في هؤلاء رافدي الذي لا ينضب؟
نعم .. ثمة بشر عاشرتهم وأحداث أثّرت فيّ وكتبتُ عنها وما زلت أستعيد بعضها وأكتب عنها وكأن الشعر والطفولة توأمان يلتقيان مهما ابتعدا. سيظل الشعر مهما نأيتُ به طائفاً يراوح عند حدود الطفولة ليدخلها في لحظة ما.. لحظة سعيدة قد تختلط بالحزن ولكنها لحظة فرحٍ بلا شكّ.
*الطفل أب الإنسان، يقول الشاعر وودزوورث. على ضوء هذه المقولة، إلى أي حد تمثل الطفولة خزينا لتجارب و أحاسيس ملهمة للإبداع الشعري عموما؟
**نعم قد يكون الطفل أب الإنسان وقد يكون الرجل أو الإنسان ابناً للطفل. أقول في قصيدة لي بعنوان الشاهدة مخاطباً أبي:
وكنتَ لي الصغير تعاشر الجيران
كما أقول في قصيدة أخرى:
قلت لأبي وقد جاءني زاحفاً من قبره "آه .. يا طفلي العزيز !".
وفي الحالتين يحضر الشعر. الطفولة كما قلت ليست مرحلة حسب، بل هي علامة الإنسان وجوهر الشعر في أية مرحلة كانت. وحين تغادر الطفولة الإنسان يغادره الشعر أيضاً. وحين نتحدّث عن الطفولة بصفتها مرحلة ما، فهي بالفعل خزين من التجارب والأحاسيس والدليل على ذلك هو استمرارها نسغاً لا في الشعر وحده وإنما في الحياة أيضاً حتى يمكنني أن أقول: إنني طفولتي .
أشعر أحياناً أن طفولتي كالوجود لدى هيغل الذي يحتوي على تفتحه القادم الكامن فيه. ألم تنطو طفولتنا على الكثير من قسماتنا القادمة؟ ألا تحتوي قسماتنا الحالية طفولة ما.. حتّى لو كانت مندثرة لدى البعض؟ هل الشعر وسيلة لإحياء ما اندثر لدى الشاعر أو القارئ.. أو في طريقه إلى الاندثار؟ هل الكتابة، والشعر خصوصاً، وجود ينطوي على حياته القادمة كما لدى هيغل الذي اكتشف في الخلو (مقولة الوجود الفارغ) كامل الامتلاء؟
* قلت في مقام آخر: "ما زال في داخلي ذلك الطفل يرافقني و يقودني إلى ممالك أبعد". ماذا منحتك طفولتك من صور شعرية و رؤية بدائية للعالم من خلال صلاتك بشخوص المرحلة وأمكنتها والنماذج الأولى واللغة الأم؟
** في طفولتنا كنا ما إن نغادر البيت حتى نجد أنفسنا منزلقين على خشبة مسرح مهيئين لجميع الأدوار. لم يكن أحدنا ينتظر دوره. كانت الأدوار حاضرة تنتظرنا فرساناً و مغامرين. كلّ الشوارع يمكن أن تكون مسرحاً.. الصغيرة منها والكبيرة، الظاهرة والخفية، وفي الخفية كنا نقوم بأدوار الحرّاس لتحذير أخوةٍ لنا كبار، يلعبون الورق، عند مداهمة الآباء.
ذات يومٍ - أذكر- اجتمع اللاعبون في مكان يعلوه وكر زنابير. لا أدري كيف اهتاج هذا الوكر لتخرج منه الزنابير جيوشاً تتعقبنا وقد تطايرت أوراق اللعب ومعها بعض أوراق نقدية لاتستحق كلّ هذه المغامرة التي أورثتنا انتفاخات مضحكة في وجوهنا في اليوم التالي. لم يك ثمة إطار للطفولة، أو قواعد صارمة أو مراتب بل حياة مسفوحة.. مفتوحة الأبواب على خارج أليف وغرائبي في آن واحد. لم تكن طفولتي تبحث عن مغامراتها وإنما تجدها في ما هو مألوف في الواقع. كان شعري فيما بعد وجهاً آخر لطفولتي. هل الطفولة والشعر صنوان؟
أتساءل أحياناً لماذا الطفل هناك حتى في الأحداث الضخمة كالحرب .. لماذا الطفل ، مثلاً، في ملحمة الماهابهاراتا التي اطلعتُ على ترجمتك الجميلة لها؟ ماذا يفعل الطفل هناك وسط كلّ هذه الأحداث التي وجد نفسه في خضمها فجأةً؟ كيف يصبح الواقع مخيلة عند الطفل والمخيلة واقعاً عند الشاعر فيما بعد؟
وحين أتذكر طفل الملحمة أتذكر أيضاً طفل الحياة الآخر الجميل الباسم التي تروي عنه الملحمة إنه كان واقفاً تحت شجرة حين قدم إليه الشيخ الناجي الوحيد بعد أن استحال العالم مستنقعاً هائلاً، فناداه وطلب منه أن يدخل جسده ليستريح ، فهاله أن يرى العالم من جديد حيّاً بأنهاره ومدنه وناسه وسمائه التي لا تنتهي.
لعل أغرب ما اكتشفه الطفل فيما بعد هو أن الشرّ لم يكن بعيداً عنه، ولم يكن بتلك القسمات الشريرة التي كان يظنها؛ فهو يبتسم له أحياناً. كان يعرف شريرين وادعين وطيبين أشراراً، وكان يرى الرقة في من يتوهمهم الآخرون أفظاظاً. كانت عيناه تتسعان على المشهد بل إنه كان، ويا للغرابة!، يرى الفضيلة حتّى في ما هو رذيلة. أتذكر العاهرات وهنّ يهبطن في جولةٍ (تذكرني بمواكب المومسات التي تحدث عنهنّ أندريه جيد في كتابه "حين تموت البذرة") أيام الأعياد في مدينة بسكرة الجزائرية الشبيهة بالبصرة بنخيلها وبيوتها ووداعتها.
كنت أتطلع إليهنّ فأراهن أليفات يشبهن نساءنا إلاّ بضعة أصباغ أفتقدها في وجوه بعضهنّ أحياناً، وحتّى عندما يتشاجرن مع الباعة وتعلو أصواتهن، أسمعهنّ يتحدّثن عن شرفهنّ الباقي أو المفقود... لا أدري فتصيبني الدهشة، بل أن لبعضهنّ أطفالاً يجلبنهم معهنّ إلى السوق ولاتنتهي جولتهنّ إلاّ عند حدود سوق البزّازين الذي انتقل إليه محلّ والدي بعد أن كان في بداية السوق فيصلن إليه كغزالات نافرات من سربٍ عائد. لن أنسى دموعهنّ بعد إغلاق المبغى، وهنّ يودّعن الآتين ويعرضن أثاثهنّ للبيع، ويرحلن بلا أثرٍ سوى البصمات التي خلّفتها أيدي السكارى والمتعبين على أجسادهنّ.
كانت هذه الأضداد تتزاحم كلّما تقدّم الطفل خطوةً لتصبح أضداداً جديّة لم يكن يتوهم يوماً أنه سيجد تركيبها ، في مادّة أو مثال، ولكنه كان يجد إنسانيته حين يلتقي بالبشر ولا يرى اجتماعهم شرّاً، وهذا لا يعني أن تجمعهم خير بالضرورة فما أكثر الشرور التي ارتكبتها الجماعات. لم يكن الشرّ هناك بل هنا أيضاً متألقاً مثيراً في ابطالٍ يبعثون على المتعة في مغامراتهم التي لا يُنقص منها حتى الشرّ.
مرّةً فوجئ الطفل بواحدٍ من "الأشرار" تتعقبه الشرطة بتهمة قتل مفوّضٍ شرير فاضطر إلى الالتجاء إلى بيتنا وقد أثخنته الطعنات ، فآويناه أياماً خرج بعدها وقد شفي من جراحه الفاغرة. كلّما تذكرت هذا الرجل المذبوح استغرب كيف عاد إلى الحياة بقماشات نظيفة فقط وماء حار ومراهم عاديّة. و يا للغرابة حين التقيت هذا الرجل فيما بعد وكأنني لم أعرفه من قبل أو لم نعش حدثاً ما.. رجل قاتل وعائلة طيبة هكذا يلتقي الشر بالخير ويختلطان في لعبة شريرة أو طيبة.. لا أدري.
حتّى الموت كان لدينا لعبة نحن الأطفال. نتطلع إليه من شقوق الحيطان القصب المعدّة لغسل الموتى ونصحبه حتى الجادّة العالية حيث ترتفع البيارق وتنطلق أصوات البنادق ويتقدم الميت في تابوته غامضاً في رحلته الأبدية إلى البعيد، على سقف سيّارة بينما يردح البعض بالهوسات التي يردّدها الآخرون. احتفالات وطقوسٌ تتكرر وسط دهشتنا الدائمة وحركتنا الدؤوبة حين تشب المواقد وتعلّق الخرفان وتُهدى لنا بعض أجزائها اللذيذة، نحملها إلى أمهاتنا ليشوينها على الجمر وقد أقعينا جوارهن.
عالم طفوليّ.. يمتزج فيه كلّ شئ.. البشر والآلهة، السماء و الأرض، الأموات والأحياء، الحجر والماء، وتهبط النجوم في سلةٍ إلى الطفل:
النقوش الجميلة في الخصر، (ترفع أثوابهنّ الصبيّات) إغماضة الشمس فوق الحظيرة، (تعبق رائحةٌ) صيحة الغاق، (ترحل بعض الحضائن في النهر) إطلالة الليل فوق السطوح الخفيضة، (تهبط في سلّةٍ نجمة) وتنام.
(صيف) من ديوان (النقر على أبواب الطفولة)
النقر على أبواب الطفولة:
* يمتح ديوانك الموسوم "النقر على أبواب الطفولة" مادته الشعرية من تجارب الطفولة. و هو يضم قصائد يتراوح تاريخ كتابتها بين سنة 1968 و 1976، وهي بذلك تتقاطع مع القصائد المنشورة في المجموعة الأولى "الحقائب" الموقعة بتاريخ 1975. يفهم من هذا أن قصائد "النقر" كتبت على مدى ثماني سنوات، و هي فترة تخللتها، بلا شك، أحداث و أسفار و رهانات و اختيارات فكرية و جمالية متعددة. ما البواعث الذاتية و الموضوعية التي حفزت على نشر ديوان عن الطفولة بشكل خاص؟ و ما هي اللحظة التي بدا فيها "نداء الطفولة" ضاغطا و ملحا مما حدا بك إلى انتقاء و تصور نصوص هذه المرحلة وفق منظور موحد، أي في شكل ديوان متكامل؟
** أغلب قصائد المجموعة كتبت في سنتي 75-76 باستثناء قصيدتين هما (حكاية متعبة للأطفال) و(مرثية) اللتين كتبتا سنة 1968، لذا فهي لاحقة لمجموعة (الحقائب)، كتبتها بعد عودتي من غربةٍ دامت ثلاث سنوات متواصلة في الجزائر. باعثها هو ما استشهدتَ به من إضاءة كانت إذا صحّ التعبير تطهيراً، ونجاةً، وابتعاداً عن واقع، لأعود إليه وقد انفتح على ماضٍ أردته مستقبلاً أيضاً لطفولة أراها أمامي تختنق بشعارات ودعاوى كأنّ الحياة ليس لها سوى بعدٍ واحد هو البعد السياسيّ في أدنى أشكاله: ضجيج إعلامٍ، ومسيرات كبرى، وتظاهر بتحالفات كاذبة، وتعداد مآثر لسلطة بعيدةٍ عن الناس حتى في توفير أبسط احتياجاتهم. يقابل ذلك دعوات نقاد وكتاب وصحف لتكريس أدبٍ لا همّ له سوى مديح هذا الواقع الفظ وانجازاته الباعثة على السخرية في صغرها المضخم في الإعلام.
كان ديوان "النقر" إنقاذا لي .. تطهيراً وملاذاً لجأت إليه لأصغي إلى أعمق ما في داخلي من حنين لأمكنة وأناس غابرين عادوا ظلالاً، فأردتهم أحياء، كأنّني أريد أن أقيم عالمي الذي هو نقيض العالم القائم/ حيوات وأمكنة وأصداء و بشر قادمون بملامح غائمة تتضح شيئاً فشيئاً: كامل الطفل الذي اخضرت لحيته، أفعى البيت الخارجة من ظلام الحائط المشقوق لتهزّ الطفل، الحمال الذي يتقدّم ملكاً خشبيّ الجنحين وقد كنسنا نحن الأطفال، أمامه الطريق، لئلاّ تنغرس قدماه بالحصى، لشدّة ما يحمله من ثقل، حمزية الراقصة الغجرية بثوبها الموسلين.. النيران المشبوبة لرقص العميان، المرأة الهاربة التي يتأبطها ذئب، النساء اللواتي يجمعن الملح فتلاحقهن الشرطة، لأن هناك من يحتكر الملح، البغايا الباكيات وقد أغلق المبغى، وسط سباب القوّادين وضحكات العابرين، عمال الجراديغ (مكابس التمور) وهم يقلبون الصناديق طبولاً للسهر في الليل، النوتيّ الذي بلغ السبعين ولم ير المدينة..عالم ينفتح على ظلمة في السراديب أو ضياء شمس، وبين الظلمة والضوء يتراءون بشراً وأشباحاً في آنٍ واحد، أشراراً وطيبين بشرورٍ صغيرة، هامشيين وأبطالاً، وبين الهامش والبطولة ينتقلون مثلما ينتقل البشر بين الظلمة والضوء...
كان هذا الحشد يجتاز كلّ صباح الطريق إلى المدينة موكباً تخترقه العربات التي تجرها الخيول وروثها الذي يملأ الطريق. كنا أطفالاً نندسّ بينهم في طريقنا إلى المدرسة.. حمالين وعمالا وبائعات ملح يفضلون السير على الأقدام على ركوب العربات.. سمّهِ كرنفالاً صباحياً تتخلله المسيرات الصامتة والضاجة لأناس يعرفون بعضهم بعضاً، وحين يصلون إلى المدينة نراهم يتخذون أماكنهم هناك وكأنهم نبتوا فيها أو كأنهم شخوص في مسرح واسع، ولعلّ أطرف ما في هذا المشهد هو جلوسهم الواثق في المقهى الرئيسيّ الذي يطلّ على قلب المدينة الضاج بالناس وحركة سير السيارات، وهم يدخنون النارجيلات باطمئنان الكائن الأبديّ الذي لا تشغله دنياه وهو الخائض فيها حتى الرقبة.
حين نراهم نحن الأطفال يتملكنا شعور واحد: المدينة بيت. تدهشنا رقتهم في المدينة وحنوهم وسخاؤهم وحين كنت أقرأ لأبي "ألف ليلة وليلة" جالسين أمام محله الكائن في سوق البزّازين ، يترك هؤلاء محلاتهم ليتحلقوا حولي مبهورين متثاقلين حين يلمحون قدوم الزبائن.
لقد أسرّني بعض القراء وبعض الأصدقاء من الشعراء إنهم حين هربوا من العراق لم يحملوا معهم غير هذا الديوان وكتابين عزيزين أو ثلاثة من بينها أيضا كتاب "المملكة السوداء" لصديقي العزيز وابن مدينتي محمد خضير. وحين ذهبت إلى العراق هذه السنة والسنة الماضية لحضور مهرجان المربد فاجأني الكثيرون بحبهم الكبير لهذا الديوان الصغير البسيط في أشكاله التي تكاد تكون مفتوحة حتى أمام عيون الأطفال.
* في ديوان "النقر على أبواب الطفولة" اشتغال على صور الذاكرة بطريقة تستحضر الأحداث كما لو أنها ما زالت تحتفظ بطراوتها و عنفوانها و حسيتها الأولى، كيف استطعت الحفاظ على هذه المسافة الجمالية الحميمة رغم توالي السنين و اطراد الوعي.
** القصائد في هذه المجموعة هي وقائع حياتية حدثت بالفعل لطفل، ولكن ما يثير تساؤلي وتساؤلك ربّما هو كيف فاضت هذه الوقائع بالخيال حتى غدت وكأنها أحداث من صنع الشعر.
في الطفولة كان الخارج يمتد إلى بيت الطفل، وحين كبر الطفل ألفى بيته وهو يمتد إلى الخارج ، ثم فقد الاثنين معا فيما بعد ليستعيدهما بين فترة وأخرى في لقاء عابر أو حادثة أو وهم أو حب أو حنان أبٍ صار أمّاً أيضاً.. أو صداقة ممجّداً الحياة مدركاً أن بهجتها هي التي تغري الوحوش بالافتراس أيّاً كانت هذه الوحوش سلطةً أو احتلالاً أو منفىً. لا يزال الخارج بالنسبة إليّ متعة وحين أبتهج لا أغلق أبوابي أبداً على الطفل بل أفتحها واسعةً رحبةً.. بلا انتهاء . أليس في هذا الفعل جوهر الشعر وحضوره الدائم وقدرته على استحضار ما يبدو أنه اختفى إلى الأبد. لا أحبّ النفس راكدة حزينة في الشعر، وأحبها مفتوحة على العالم حتى وهي في أوج مأساتها. لانّ في حضور العالم والتماع أشيائه يصبح حتى الحزن فرحاً مضيئاً بالشعر.
أتذكر أنني في طفولتي كنت أضيق بالوحدة وأكره وقت القيلولة في الظهيرة حين ينام الأهل، وما زلت أشعر أن الوحدة، إن لم يحضر الآخر في كتابٍ أو ذاكرةٍ، ليست أقلّ وحشة من وحدة الطفل في الظهيرة.
*في رثائك للأب، رسمت صورة شجية حيث قلت: "رأيت فيه طفولتي التي مضت و التي فقدت أعز شهودها". هلا حدثتنا عن علاقتك بالأب علنا نقتبس منها ملامح الشاعر المبكرة من جهة، وفضائل الإنسان العراقي البسيط من جهة ثانية؟
** كتبت عن أبي قصائد عديدة: الشاهدة، حكايات عن أبي، وقصائد أخرى، وإشارات في قصائد هنا وهناك، احتوت على الكثير من المشاهد واللقطات والتفاصيل عن سيرته الحافلة بالأحداث، والتي تتسم بغرائبية هي غرائبية الرجل البسيط في عالم لم يعد بسيطا. قلت عنه مرّة إنه أرحب من ثقافتي، وأكثر صدقاً من حماستي، وأعمق دراية ومعرفة بالناس وأهمّ من ذلك أكثر تسامحاً وإحساساً بالعدل. في طفولتي رأني مرّة وأنا أرقب الميزان بحرص فهمس في أذني أن أتساهل مع الناس، ولا أكون شديداً حتى في الميزان.
كان بيتنا مكاناً للوافدين: أرامل، ويتامى، وفلاحون فقراء يأتون بسلال الرطب في أوقات معينة من السنة ليقيموا عندنا ليلة أو ليلتين فيهبهم والدي أضعافاً مضاعفة، لا لأنهم فلاحون فقراء يأتون من القرى النائية القريبة من البحر وإنما لأنهم أصدقاؤه يأنس لهم ويأنسون إليه، من طوائف شتّى ولعلّ آثر أصدقائه ليس من طائفته، ولعمق هذه الآصرة توارثنا هذه الصداقة القديمة النادرة، مثلما نتوارث شيئاً عزيزاً.
أتذكر مرّة أنه أنزل قارئاً من على المنبر أمام الناس لأنه أشار إلى بعض الصحابة بما يسئ إليهم، وبنبرة طائفية مقيتة. ومرّةً ذهب ليجلب رفات خالي موزان من مدينته البحرية في أقصى البصرة: الفاو، وحين عاد بجنازته وكنّا في انتظاره وقد أقمنا السرادق لمجلس العزاء فوجئنا بسيّارة قادمة وهي تحمل جنازتين، فظننا الجنازة الأخرى أبي، غير أننا حين رأيناه يتقدم منّا سألناه عن الجنازة الأخرى، فقال إنه صادفها في الطريق ولم يكن في وسع عائلة الميت الفقيرة إيصال الجنازة إلى النجف فتعهد والدي بإيصالها مع جنازة خالي.
ولعلّ الغرابة رافقته منذ نشأته إذ يروي لي أحد أفراد عائلتي.. من؟ هل هو أبي نفسه؟ أن جدّي حين اكتشف عروسه شديدة السمرة عافتها نفسه وطلب منها ومن أمها التي رافقتها إليه أن يغادرا في الفجر إلى أهلهما، وحين التقاها بعد فترة طويلة هي وأمها أيضاً في سوقٍ للأغنام ولم تزل في ذمته استعادها من أمها و بنى عليها مثلما يُقال فكان أبي.. كم يبدو هؤلاء البسطاء غريبين أحياناً!
ولعل مجلس العزاء الذي أقمناه له إثر وفاته هو الخاتمة التي كانت المشهد الأخير لما مرّّ من مشاهد غائبة اجتمعت عبر شهود حضروا: رجال يقفون وسط المعزين ينتحبون ، سجناء سياسيون كفلهم أبي وقد تبرأت منهم حتى عوائلهم.. وجوه لم نرها من قبل وهي تجيء صامتة وتذهب صامتة وقد علاها الحزن.
من أين لمثل هذا الرجل البسيط كلّ هذا التأثير؟ ومن أين له كلّ هذه المعرفة بالحياة والناس؟ لا أزال أتذكر ذلك القارب الصغير المزيّن بالوسائد المنقوشة وهو يحملنا، أنا وأبي، من دكّة على نهر أبي الخصيب إلى فضاء شطّ العرب الشاسع حيث يلوح عند التقائهما مخفرٌ و بضعة خيول ترعى، وماء يمتدّ حتى السماء. لم أكن أعرف ونحن نسير باتجاه الجزيرة، جزيرة البلجانية، أننا كنّا نسير بمحاذاة جيكور إلا بعد ما يقرب من نصف قرن حين زرتها وتبين لي أنها تبعد بضع خطى عن الشطّ.
وحين وصلنا الجزيرة استقبلنا الصيّادون، كانوا حشداً، وهم يخوضون في الطين، ويقيمون أسيجة القصب العالية التي سيغمرها الماء حين يعلو المدّ، وآن ينحسر ستتكوم فيها أطنان من السمك اللامع الذي يتقافز في الهواء. في الليل كانت النيران تُشبّ، والمواقد مهيأة لإطعام أضعاف العدد الحاشد من الصيّادين. قلتُ قبل العشاء لأحدهم : لِمَ كلّ هذا الطعام؟ فأجابني ضاحكاً: سترى.. سيجهزون عليه ولن يخلّفوا منه شيئاً، وهذا ما تحقّق بالفعل.
كان طقساً رهيباً حقّاً: صيّادون، ومواقد تشب، ونخل يستحيل أشباحاً في الليل، وهسيس أرواحٍ غامضةٍ في جزيرة نائيةٍ، وفضاء شاسع كالنهر، وثمة قارب صغير مربوط هناك إلى الأبد، وطفل يقلّب عينيه بين أرضٍ وسماء لا نهاية لهما، وجزيرة يحملها النهر على ظهره وينأى بها بعيداً حتى آخر العالم.
الوليمة
هبطتْ سلالُ الطلع من يأتي الوليمة ؟ قاربٌ في النهر يدفعه الهواء سفينةٌ في النهر عند المفرق المائيّ حيث المخفرُ المهجورُ ، والخيلُ التي ترعى ، وذاك الشطّ تعبرهُ البنادق . طلقةٌ ويسيلُ خيطُ دمٍ وتهتزّ السماء كأنها طيرٌ ويمضي الماء يمضي الليل .. صندلهُ الخفيفُ يضئ تلتمع المواقدُ والفوانيسُ البعيدةُ صيحةٌ .. ويهبّ صيّادون تقترب المشاعلُ ظلّها يمتدّ حتى الجرف حتّى لمعة الأسماك بين حواجز القصبِ الخبيئةِ تحت ماء الشطّ جزرٌ والسماء نديّةٌ والمدُّ لا يأتي ويأتي الساهرون من القرى أ أظلّ منتظراً هناك ؟ كأنني شبحُ المواكب هل أصيحُ : " أبي لماذا عفتني في قاربي المسحور؟ " لو ألقيتني حجراً وضعتُ لو انني لو كفّك البيضاءُ لم تهتزّ فوق النار! في تلك الوليمةِ لو أنام لعلّني ألقاكَ لو
* وماذا عن الأم. لا يرد ذكرها إلا في ثلاثة مقاطع محدودة في قصائد "ليدي ستيك" و "طفل جائع في عاشوراء" و"الملح". يبدو حضورها ضامرا حتى لا نكاد نشكل عنها صورة أوضح. هل هو اختيار مقصود؟ أم ماذا؟
** قد يبدو حضور الأم ضامراً في هذه المجموعة الصغيرة و لكنها، مع ذلك، تحضر بشكل مباشر في قصائد أخرى كقصيدة (حكاية متعبة إلى الأطفال) وقصيدة (العمياء):
أيتها العمياء لقد كنت رضيعك عندما كان ثديك قبضة الباب للطفل ويداك أرجوحتي
مثلما هي تحضر بشكل غير مباشر في هذا المقطع الذي يتحدث عن حمّام فارسيّ قادتني إليه أمي في خراسان (كان عمري آنذاك ست سنوات)، وحين دخلناه فزعت النساء المستحمات فزع الجنيات العاريات ، في ألف ليلة وليلة ، في حكاية الحسن البصريّ ، وطالبن بمغادرتنا الحمام. لا يزال المشهد ماثلاً أمام عينيّ حتّى الآن:
كيف ألقت بنا الريح صوبك ..؟ كيف استفقتُ على صخرةٍ ، بابها البحر ..؟ والنسوة العاريات بحمّامك الفارسيّ كيف فرقتهنّ على الصحن كالطير ، مختفياً تحت جنح العباءة ..؟ كيف تشابكتُ كالنور فوق زجاجك ..؟ أيهٍ خراسان! مالت بنا الريح عن ضفتيك وغاب على صخرة بابك الحجريّ
مثلما هي حاضرة، بشكل غير مباشر، في المقطع الآخر في القصيدة ذاتها:
أطبقت زهرة جفن طفل أيقظته الأحاديث بين النساء في خراسان في الخان خمسُ نساء
ولكن حضورها، مع ذلك، يبقى، مثلما قلتَ، أقرب إلى الضمور ، ولعل في قصيدة (حكاية متعبة إلى الأطفال) ما يفسر جانباً من العلاقة مع الأمّ.
* على عكس ذلك، نلاحظ في الديوان حضورا قويا و كاشفا للنساء، بصيغة الجمع، في شكل نماذج إنسانية متنوعة من قبيل :الراقصة الغجرية"، العمياء"، سكينة الأهوازية"، و"صبرية". لكأن الديوان برمته هو عبارة عن احتفاء بهن. من تكون هؤلاء النسوة؟ و أي أثر تركنه في تشكيل وجدان و خيال الشاعر؟
** قد يكون الديوان احتفاءً بهذه النماذج. ولكنني حين تعاملت معها لم يكن في ذهني غير استعادة ماضٍ لم يزل حاضراً بهذه الصورة أو تلك . لم يوجه اختياري لهذه النماذج وعي ما ، بل تجربة ومحبة تتجاوز ما يدركه الطفل إلى واقعٍ لم تكن علاقتي به علاقة المشاهد الواقف عند حافته ، بل علاقة الطفل الذي يتحرك بين الأشياء فاعلاً ومشاهداً. ولم يأت الوعي فيما بعد إلاّ ليؤكد هذه الاختبارات التي أسهمت فيها دوافع شعورية ولا شعورية ، لا للتعبير عن طفولةٍ مفترضة أو مفقودة بل عن عالمها الحقيقيّ الذي لم يكن براءة فحسب بل براءة وتجربة على حدّ تعبير الشاعر الإنجليزي وليم بليك ، أي أن وعي الشاعر لم يكن نقيض إحساس الطفل وتجربته بل امتداداً لهما.
تربطني بهؤلاء النسوة أواصر لم يزدها الوعي و السنوات إلاّ عمقاً: الخالة العمياء التي هي أمي الثانية، إن لم تكن الأولى، صبرية المومس التي رأيتها تبكي وهي تغادر المبغى، إثر اغلاقه، إلى جهة مجهولة، حمزية الغجرية التي كنا نتدافع إليها أطفالاً وكباراً مسحورين بغنائها ورقتها وجمالها وثوبها الموسلين.. كم كانت دهشتي كبيرة حين رأيتها مرة وهي تسكن خيمة بائسة في بقعة معزولة، شبيهة بالصحراء، في أطراف محلتنا. سمّهم ما شئت ضحايا، هامشيين، سَقَط مجتمعٍ ولكنهم كانوا بالنسبة إليّ، طفلاً وشاعراً فيما بعد، بشراً قادرين أن يهبوا الفرح للناس وأن يجمّلوا الحياة رغم مأساتهم وأحزان من حولهم.
أتذكر أن أمي قادتني يوماً إلى سكينة الأهوازية الخياطة الجميلة البيضاء الجالسة خلف مكينتها اليدوية وهي تحدّث أمي.. لم أر مثل أناقتها وجمالها قط . لم ألتق بها فيما بعد، غير أنني كنت ألتقي زوجها صدفةً في الباص حيث يعمل قاطع تذاكر.
تدهشني رقة الناس البسطاء. شاركت مرة في الإحصاء حين كنت مدرساً فالتقيت، في القطاع الذي كنت مكلفاً بإحصاء سكانه، بعوائل تسكن أكواخاً ما إن تدخلها حتى تفاجؤك نضارة وجوّ من الإلفة لا نظير لهما: زوجان في غاية الرهافة واللطف، يدخلانك عشهما فتشعر كأنك تدخل كوخــاً قصبيــاً فـي طـرف الجنـة، ربّ عائلـة وأبنـاؤه الثلاثـة (ولدان وبنت)، يستقبلونك بـودّ غامـر كأنك تعرفهم منذ زمنٍ طويل، أنيقين.. هادئين. الثلاثة جميعهم طلاب في كلية الطب.. إنه شعبنا البسيط الطموح المحب للحياة، ولكن المعرض دوماً للقتل.. لقد سرقوا حتى فضائله ليهبوه رذائلهم.. هؤلاء الأوغاد.. أعداء الحياة. لم أر شعباً كشعبي متسامحاً إزاء أبطاله الهامشيين. لقد سمعتُ في الغربة أن بعضهم أغتيل لأنه يرقص في الأعراس ، وآخر لأنه غجريّ، وثالث لأنه.. مثلما حدث مؤخراً حين اجتاحت إحدى المليشيات بيوت الغجر في أحدى محافظات العراق.
* هل تشكل النماذج النسائية المذكورة حالات متفرقة تؤثث فضاء المدينة، أم هن مؤشرات على وضع اجتماعي يعكس رؤية و بنية نفسية ذكورية مهيمنة؟
** نعم إنها حالات تؤثث فضاء المدينة رغم عدم ارتياحي للفظة ( حالات ) هنا، ومؤشرات على وضع اجتماعي معين، ولكنهنّ كما قلت، بالنسبة إليّ، حضوراً حياتيّاً وواقعاً عشته، لا كما حدث فعلاً، بل كما تصورته طفلاً وشاعراً في آن واحد. لكنني أرى أن الجذر الواقعيّ ذو أهمية لا تقل عن دور المخيلة لأنه يقي القصيدة من ترهلٍ وإنشاء يسودان شعرنا الآن مبرّرين بحداثة لا علاقة لها بالحداثة والشعر كما نعرفهما من خلال ما نقرأه لشعراء الحداثة في العالم. و هذا، ربّما، سرّ ولعي في التفاصيل التي تمنح القصيدة أرضيتها مهما ابتعدت.
* في موضوع ذي صلة بمسألة الحضور الأنثوي في ديوان "النقر"، هناك كلمة لها وقع خاص هي كلمة "عباءة". فهي تتكرر في إحدى عشرة قصيدة الى حد صارت معه بمثابة استعارة مهيمنة تسبغ لونها السحري على مشاهد الطفولة. ما هي الدلالة أو الدلالات التي تحملها هذه الكلمة في ضوء سياقاتها المتعددة داخل المجموعة؟
** إذا صارت كلمة (عباءة) بمثابة استعارة مهمة تسبغ لونها السحريّ على مشاهد الطفولة، فهذا قد يرضيني وبالتالي يغنيني عن التفسير. لكن لا بأس من إضافةٍ ما، توضيحاً لذلك، مشيراً لا مفسّراً. خذ ما تقوله مثلاً قصيدة (عباءة):
من بين كلّ العباءات المنحنية على الصناديق تنهض عباءة في الليل بعيداً عن النيران الموشكة على النباح والقناطر المهتزة تحت الأقدام يتبعها جسدٌ تنطبق عليه في الظلمة.. ويغوصان معاً في قاع النهر اليابس بين الحلفاء
ما يشغلني في هذه القصيدة هو ما تضمنه سؤالك أنت من استعارة ولون سحريّ. أما دلالاتها الأخرى فليست هي شاغل الشاعر المعنيّ بتجربته وليس بالموقف منها. فإذا كان البعض يرى فيها دلالة اجتماعية، فهذا صحيح غير أنها دلالة من بين دلالات أخرى. في القصيدة ثمة عباءة تمثل امرأة حقّا ولكنها ليست هي العباءة ذاتها في الواقع . إنها عباءة أخرى لها واقعها الآخر المتحرك الفاعل الذي ينطبق على الجسد ويتوحد فيه ممتزجاً مع الطبيعـة الأرحـب المتمثلـة في الحلفـاء وقـاع النهر وسط كرنفال صامت هو النيران الموشكة على النباح والقناطر المهتزة تحت الأقدام. إنني في القصيدة لا أتعامل مع الرمز وحده.. أو المفهوم وحده، أو الدلالة وحدها، وإنما مع عالم القصيدة الذي يتجاوز كل ذلك. حين أقول عباءة فإنما أعني عباءة فعلاً. للتشكيل أهميته في القصيدة وهذا ما يعنيني بالدرجة الأولى باعتبار التشكيل تنظيماً لتجربة حية هي أقرب إلى المخيلة منها إلى الواقع رغم واقعيتها الشديدة.
*هل تشبه هذه العباءة العباءات الأخرى في الديوان؟
** لا أظن ذلك. قد تلتقي مع غيرها في الدلالة العامة جدّاً ولكن لكل عباءة خصوصيتها في القصيدة الواحدة. أن هذه العباءة لن تشبه العباءة التي أقول عنها في قصيدة أخرى: "وتنزوي عباءة في الظلّ".
* ألا يزعجك أن يتم اختزال معاني هذه الاستعارة في بعد واحد كما هو الشأن في الدراسة القيمة التي أنجزها الناقد الجاد محمد الأسعد، و المضمومة في كتابه "مقالة في اللغة الشعرية" (1980)، حيث اعتبر أن توظيف "العباءة" يعكس حالة تشيؤ اجتماعي للمرأة التي هي على حد قوله: "لا تصبح مجرد عباءة إلا في وضع أفقدها وجودها كإنسانة، فأصبح أكثر ظواهر وجودها بروزا هذه العباءة"؟
** ليس ثمة بعد واحد، كما أشرت من قبل. وما يراه الناقد تشيؤاً اجتماعياً أراه تشيؤاً فنيّاً أو جمالياً أيضاً دون أن ينقض أحدنا الآخر. و تفسيره هذا لا يلغي أبداً المتعة التي أشعر بها شاعراً وقارئاً في تعاملي مع العباءة لا كرمزٍ بل كواقع يتحرك ويفعل ويدخل في علاقةٍ ما، مثلما تجسّد ذلك في قصيدة (عباءة) التي ذكرتها. ليس هناك معنىً محدّد وإنما هناك دلالات وقراءات شتى لا يمكن حصرها في دلالة واحدة أو قراءة واحدة مهما اغتنت هذه الدلالة أو هذه القراءة بالتفاصيل.
*في الديوان هناك احتفاء متوهج بشخصية موزان-الراوي، الذي تحدثت عنه في فصل "انخطافات ألف ليلة و ليلة". لقد ارتبط موزان لديك بالحكي و الخيال الواسع لدرجة أنك وصفته ب"ذلك الإنسان الذي أشعل الحرائق في ذاكرتي". من هو موزان هذا؟ و كيف أثر فيك إلى هذا الحد؟
** كتبت عنه مرّةً: "موزان الذي لم يحمل يوماً هديّة لطفل كنّا نحبه نحن الأطفال.. ننتظره ملهوفين.. ننتظر هداياه التي لا تكلّف شيئاً.. فتح فمه فحسب، لينفتح بحر، وتعلو صارية، وتخفق ريح، وتدنو جزر.. وموزان لا يأتي إلاّ مريضاً لرعاية أخت هي أمي، أو عابراً قادماً من مدينته النائية المطلة على البحر إلى الأحياء الضيقة المكتظة بالنساء العاريات، أو إلى دار المسرّات.
رآه أحدهم في ماخور، ورأيته أنا مراراً أمام احدى دور السينما بعقاله المهيب وعباءته السوداء .. نلتقي قريبين ونفترق غريبين. لم يدعني يوماً، ولم أنتظر دعوته، فأنا لا أنتظر من خالي الشحيح المحبوب (موزان والي) سوى هداياه التي لا تكلّف شيئاً سوى فتح فمه الذهبيّ.
كان مرضه صحّتنا .. نتحلّق حوله مشدوهين.. نتطلع في فمه وكأننا نتطلع في بابٍ سحريّ مفتوح على عالمٍ خفيّ .. نتأمل ملامحه التي لا تتغيّر أبداً رغم الأحداث الجسام التي اهتزّت لها أبداننا أو تسمّرت. لا نلمح فيها غير ابتسامة خفيّة تلوح ولا تبدو ، وقد تختفي عند مشهد لتطلّ ثانية على مشهد آخر، وهي بين اختفائها وظهورها لا تبين أبداً.
كنّا نحبه ولا نكره فيه سوى نهوضه المفاجئ من سريره إلى بيت الراحة .. آنذاك نهبّ معه وإليه ، نتسابق أنا وأخوتي على حمل إبريقه إلى أعلى السلّم، حيث بيت الراحة الذي لا يصله الماء، مصغين، بانتباه، في أسفل السلّم، إلى ضراطه المتواصل وقد خنقنا ضحكاتنا الطفولية، متظاهرين بالجدّ وعدم سماع أيّ صوت من أصواته السريّة المعلنة، حافين به، وقد تقدّمنا كالملاك ثانيةً إلى سريره الطائر بين العصور والبلدان كبساط الريح.
لم نكن ندري أنه سيلازم سريره هذا طويلاً ، ولكن ليس في البيت بل في مستشفى قريب تؤمه أمّي يوميّاً للإطمئنان على صحة الخال الذي أخفوا عنّا مرضه .. كنا نتندّر ونقول لأمّي: " لن تنفعك كلّ زياراتك هذه فلن يورثك شيئاً " ، فتردّ الأمّ باستياء وكأنها تحدس الحقيقة في قولنا: "إنه أخي". وبالفعل فإن خالي حين مات أورث أبناءه الكثير من ماله العريض وأملاكه من العقارات والدكاكين ولم يوص بشئ لأمّي التي تقبّلت هذه الواقعة على مضض ، مردّدة بلا مبالاة: "إنهم أولاده، وهم أحقّ". لم ينس خالي حتى وهو على فراش الموت تقريع أخته (أمّي) له على زيجاته العديدة وزوجاته الممتعات.
كان خالي لا يكتفي بدور الراوي بل يعتبر نفسه بطلاً أو شبيهاً بالبطل. فهو حامل العلم أو الراية عند ظهور المهديّ المنتظر ليملأ الأرض عدلاً وسلاماً . كيف لا ؟ وهو الذي زاره المهديّ مرّات عديدة في بيته ، ليبحثا في فساد العالم. ولا يجد خالي أي تناقض بين دوره البطوليّ هذا وحمله صورة الفنّانة سميرة توفيق في جيبه ، فكلّ بطلٍ ، بطبيعة الحال ، بحاجةٍ إلى بطلة، ولا بأس إذا ما كانت البطلة فنّانة مشهورة كسميرة توفيق السمراء. ولعلّ في اختياره سميرة توفيق بطلةً تعبيراً عن مللٍ من بياض محظياته الأعجميّات اللواتي كان يتزوجهنّ بالمتعة ليزوجهنّ فيما بعد بالحلال. كما أنه لا يجد أيّ تناقض بين دوره هذا وبحثه ، كشارلي شابلن، عن الذهب. لذلك تراه مهووساً بالحديث عن الكنوز المخفية تحت الحيطان. وقد كانت ليلة مثيرة حقّاً عندما أشار على أبي أن يحفر أحد أركان بيتنا القديم الذي هدمناه لنبنيه من جديد. لقد حفرا، على ضوء الفوانيس، حفرةً عميقة فلم يبدُ لهما الكنز المخبوء وما بدا لهما لم يكن سوى طين وماء لم يعكسا حتّى وجهيهما اللذين ارتسمت عليهما الخيبة واضحة.
مرّةً جاء مسرعاً إلى أبي يعرض عليه الذهاب إلى الإثل خارج البصرة للبحث عن كنزٍ مخبوء هناك. لم يكذبه أبي بل استدعيا جارنا الذي حملهما في سيّارته إلى مكان ناءٍ ومعهم عدّة الحفر. بعد ساعات رجعوا بالكنز المخبوء . كان عبارة عن صندوق حديديّ قديم مغلق علاه الصدأ. لم يفتحوه إلاّ بشقّ الأنفس بعد أن كسرا قفله بمعول . لم يجدوا في الصندوق سوى ملابس جنديّ بريطانيّ وأغراضه الشخصيّة، عندئذٍ طلب والدي من خالي موزان أن يقول الحقيقة. كانت الحقيقة المرّة هي أن خالي موزان بعد أن قتل الجنديّ البريطاني أخفى صندوقه بين أشجار الإثل منتظراً كنزه كلّ هذه السنوات انتظاره المهديّ الذي لم يأت.
في قصيدتي (انخطافات ألف ليلة وليلة) لم يعد موزان راوية حسب وإنما موزان البطل بين أبطال عديدين في ألف ليلة وليلة.
* ما مدى حضور القصص الشعبي في مرحلة طفولتك؟ هل كانت هناك فضاءات خاصة في المدينة للاستماع للحكايا؟
** لم تكن ثمة فضاءات للحكايا في مدينتي، وحتى لو كان هناك فضاءات فإنني لم أذهب إليها .. وما حدث لي هو أن الفضاءات هي التي قدمت إليّ ممثلة بشخصين لا يشبه أحدهما الآخر. الأول هو: خالي موزان الخرافيّ الذي حدّثتك عنه، والآخر نقيضه الواقعيّ المتحدث لا عن أحداثٍ غابرةٍ بل عن أحداث راهنة: يوميات الحرب العالمية الثانية..هذا الشخص هو (عبدالرزاق الديوان) صديق أبي الذي لم أره يضحك مرة بل يكتفي بابتسامة ودود تشتعل فجأة لتضئ وجهه الناحل المستطيل. كنت أنتظر هذين الراويين الحبيبين مثلما أنتظر كتابين مغلقين ليبتدئا الحديث، كأنهما في تناقضهما الواقع والحلم وقد افترقا ليلتقيا هناك في نقطة بعيدة التمعت فيما بعد هي: الشعر.
* و ماذا عن "ألف ليلة و ليلة" بشكل خاص؟ ما سر هذا السحر الذي ألهب ذاكرتك؟ و ما هو في تقديرك، العنصر التخييلي و الحكائي الذي يتفرد به هذا النص الذي ألهب خيال شعراء وكتاب عالميين أمثال بورخيس وغارثيا ماركيز، وجعلوا منه كتابا أساسيا في المكتبة الكونية؟ و ما تجليات تأثرك بألف ليلة و ليلة في أشعارك؟
** لن أبالغ إذا قلت لك أن "ألف ليلة وليلة" حاضر في أغلب قصائدي بشكل مباشر أو غير مباشر وهذا ما لم ينتبه له إلا القليلون …
لعلّ من المفيد الحديث عن تجليات تأثير ألف ليلة وليلة لا عن سرّه الذي ينفتح على أسرارٍ أخرى قد لا تنتهي أبداً . ولعل أهمّ تجليات هذا التأثير،على الأقلّ في الأسماء التي أوردتها: بورخيس وماركيز، هو في هذا الالتقاء الحميم بين المعرفة والحلم اللذين افترقا لدى راويي طفولتي (الديوان وخالي موزان) . لم يكن ألف ليلة وليلة سرداُ ماضياً بل نبوءة أيضاً واستشرافاً .. واقعاً وحلماً في آن واحد ، وهذا ما يفتقده الكثير من الشعر وما يعوزه الكثير من الكتاب ولعلّ واحداً من أسباب شعبية هذين الكاتبين هو جمعهما هذين النقيضين لا باعتبارهما حدّين منفصلين بل لأن كلا منهما يتضمن الآخر، في أحداث قاسية تبعث المتعة حتى في أحلك أحداثها مثلما تبعث التفكير حتى في أخف أحداثها وأبهجها.
أليس التأثير نفسه سرّاً؟ في علم النفس التحليلي يتحدث المريض ليشفى من مرضه، وفي الاعترافات المسيحية يتحدث المذنب ليتخلص من خطيئته، أما في ألف ليلة وليلة فإن المحلل النفسي (شهرزاد) هو المتحدث ليشفي المريض الذي هو شهريار.. عبر الحكمة المبثوثة، في مرح، في وقائع وسرد نادرين رغم اعتياديتهما وميلهما إلى الجانب المحكيّ .
إن لحكايات "ألف ليلة وليلة" وهجها الخاص وتحولاتها المبهجة التي لا تعرف قتامة العالم الآخر ..عالم الحروب. كانت هي الأقرب إلى طفولتي ونداءاتها البعيدة وقدرتها على اختراق مراحل حياتي الأخرى ومن يدري لعلّي أجدها منبثقة مرةً أخرى في أثرٍ ما: قصيدة، خاطرة، كتاباً…ولا يزال لحكاياتها عموماً تأثير في شعري تجده حاضراً في الكثير من القصائد والمقاطع حتى أشدّها تعقيداً.
* في صلة بموضوع الحكي، في ديوان "النقر على أبواب الطفولة" ثمة قصيدة بعنوان "حكاية متعبة للأطفال" تستثمر فيها النفس الحكائي السردي. ألا يقدم الشاعر أي تنازل عن خصوصية الشعر حين تتخذ قصائده لبوس حكايات سردية؟
** للطفل دهاليزه التي اكتشفها علم النفس ومسالكه الوعرة وغرائبه وحكاياته التي لا تقل غرابة عن حكايات الكبار.
سألتني ولك الحق في ذلك عن قصيدة (حكاية متعبة إلى الأطفال) وأبديت خشيتك من تنازل الشاعر عن خصوصية الشعر حين تتخذ لبوس حكاية سردية. هذه القصيدة بالذات لم يتناولها أحد من الدارسين حتى الذين كتبوا عن المجموعة بحبّ. تتحدث القصيدة عمّا يسميه فرويد عقدة الفطام، وما وجد تطبيقاته في إشارات لمّاحة إلى التراث الفرعوني بما فيه من صور تظهر الفرعون، وهو يمص إصبعه طفلاً .
كنت مدرساً لعلم النفس وكنت أدرس فرويد ومدرسة علم النفس التحليلي، وكنت مغموراً بهذا العالم ، لكن لا يعني هذا أن القصيدة هي وليدة هذا العالم التعليميّ المجرّد وإنما هي كقصائدي الأخرى لا رافد لها غير الواقع الحسيّ الملموس.
لم ترضعني أمّي وأنما عهدت بي إلى امرأة أخرى لترضعني، ولا بدّ لهذا انعكاساته على شخصي فيما بعد، غير أني لا أود الخوض في تفصيلات ما انعكس فيّ وفي شعري لأن هذا يقودنا إلى أدب الاعترافات ، فما يشغلني هنا هو ملاحظتك أي الحديث عن الفن وليس دوافعه.
* هلا قدمت لي مزيد إضاءة لهذه القصيدة بالذات؟
**تقول القصيدة:
معذرةً يا أطفال أجفاني مثقلة أروي لكم الليلة عن طفلٍ أثقله الترحال لكن لم يتجاوز موطئ قدميهْ لم يعرف حتى موضع شفتيه كان جميلاً أيّ جمال حضنته الأمّ وهبّت نسَمَهْ مدّ فمهْ صار الصدرْ صخرْ هربتْ (لم تتلفّت) كان الصدر العاري يتفتّت في الصحراء فبكى يا أطفال ثمّ أفاق على حضنٍ حجريّ ذات مساء مفزوعاً موجع ملفوفاً بالأسمال لكنْ حين تأمّل قدميهْ معذرةً يا أطفال أبصرمدهوشاً .. إصبع
الحكاية في القصيدة ليست عادية أو سردية ولا توجد في واقع وإنما هي خيال محض. أمّ تحضن طفلها وقد هبّت نسمة لتهرب به عبر الصحراء غير أن صدرها أصبح صخراً يتفتت. ثمة في القصيدة إشارة إلى امرأة لوط التي تحجرت حين التفتت، غير أن الأم لم يتفتت صدرها الذي استحال صخراً جرّاء خطيئة بل لعنة ربما. القصيدة لم تشر إلى ذلك وليست معنية بهذه الإشارة. عندئذٍ يبكي الطفل وقد أفاق مذعوراً وهو ملفوف بالأسمال، لكن سرعان ما ينسى ذعره وهو يتأمل قدميه حين يرى إصبعه. هل سيكون الإصبع بديلاً لصدر الأمّ . هذا ما تقوله القصيدة وما لم تقلهُ أيضاً ؟ إنها مفتوحة على الاحتمالات والدلالات لا المعنى الواحد.
*إلى جانب المحكي و الشفاهي، ما هي الكتب الأساسية التي وصمت طفولتك؟
** الكتب الأساسية هي شفاهية في جوهرها: قصص المغامرات، القصص البوليسية، ولاسيما قصص ملتون توب وهي سلسلة كتب بوليسية طويلة كنت أستعيرها من صديق يهوديّ كنت أتبادل وإياه الكتب. ما زلت أذكر اسمه: فيكتور منشي. كانت له أخت لا تخرج من دارهم إلا نادراً.. كانت في غاية الجمال.. أتذكرها الآن وكأنها وجه تخيلته في الأساطير. غير أن الدهشة الكبرى هي "ألف ليلة وليلة" التي قرأتها فيما بعد لوالدي، هي و "سيرة عنترة" الصادرة آنذاك عن دار الهلال بمصر.
* و ماذا عن الشعر؟ كيف كان حضوره في تلك المرحلة؟ و أي من الشعراء كان لهم تأثير أكثر في بدايتك. ثم كيف ابتليت بانخطافات الشعر؟
** لا أدري كيف استيقظ الشاعر في الطفل ، وكلّ ما أتذكره هو أنني كنت مشغوفاً بالشعر في طفولتي، أردّده مسحوراً :
بيض صنائعنا خضر مرابعنا سود وقائعنا حمر مواضينا
أما حين أصل إلى : " دون نيل منىً " فإنني أشعر كأن هناك تعويذة في هذه الكلمات أو بالأحرى في هذه الكلمة الواحدة. ففي تكرار النون سحر ما بعده سحر(وهذا ما يسمّى بالجناس اللفظيّ في البلاغة). ولأن هذه القصيدة أو غيرها كانت تجري على لساني كما تجري التعاويذ كان يُنادى على اسمي في الساحة (كنت في الصف الثالث على ما أظن) لأنشدها طرباً، لكنني لا أتذكر أنني كنت أقرأها بخشونة الأطفال المدربين لنيل الإعجاب، وإنما لشغف في نفسي، بترنيم وحب وبساطة ربما كان يعيشها الطفل ولا يعقلها. هل كان هذا الشغف المبكر بالشعر هو طريقى إلى القراءة.. القراءة لا كمعرفة بل حياة في سير وملاحم تتزاحم فيها الأضداد وتفترق بحكمة أو بدون حكمة فلا موضع لتقييم هنا وقد تركته للكبار. لهذا كانت صلتي بالشعر مفتوحة على كل التجارب والشعراء صغارهم وكبارهم ولم تكن لذتي أقل في ما ترجم من شعر كان يسحرني فيـه مـا أجـده مـن أجواء أفتقدها في شعرنا العربيّ وانسانية نادرة.
أتذكر انفعالي الشديد حين قرأت قصيدة ناظم حكمت عن منصور صباغ الأحذية الذي يشبه نواة البلح وهو يردد في القصيدة، حاملاً صندوقه الخشبيّ الملوّن: "يا عيني .. يا حبيبي".. منصور الطفل يموت في نهاية القصيدة تحت القصف، فتنشر جريدة صورته. هذا الشاعر يسخر منه بعض الكتاب العرب ويعتبرونه شاعراً ملتزماً صعدته حركة سياسية، متجاهلين أنه المجدد الأكبر في الشعر التركي، وأنه الأكثر إثارة الآن في بلدان عديدة ومنها الولايات المتحدة. ما أكثر الأوهام والتقييمات الغبية في ثقافتنا!
* عودا إلى فكرة الانخطافات. يبدو أن توظيفك لهذه العبارة لم يكن عفويا، و إنما توجد من ورائه خلفية تؤطر تعريفا ضمنيا للحظة الشعرية بوصفها تلك "اللحظة الخاطفة" التي تضيء القصيدة. هلا قدمت لنا إضافة حول معنى "الانخطاف" و فعاليته في انبثاق الشعر؟
** الانخطاف هو تلك اللحظة الصوفية إذا صحّ التعبير ..اللحظة المنفصلة عن اللحظات الأخرى أو بالأحرى اللحظة المضيئة التي تضئ ما قبلها من لحظات وما بعدها . كلّ شئ يبدو مظلماً وفجأةً ينبثق شيء .. شيء مضيء ..شيء يتوهج شبيه بذلك الاندفاع الذي يهتف بك: "وجدتها".
في قصيدة (الغرف) في مجموعتي (الحقائب) لم أعرف من أين أبدأ. ولأن هناك مداخل عديدة إلى القصيدة ولا مدخل واحد فقد أهملتها زمناً ثمّ فجأة تصطفّ الغرف فإذا هي قصيدة ناجزة، كيف؟..ثمة لحظة تضئ فجأةً فيحضرالمكان بأحداثه وزمنه وحيواته، غير أن الانخطاف وإن كان لحظةً فهو ليس بالضرورة زمناً قصيراً. قد يمتدّ إلى لحظات أخرى سابقة أوتالية في قصيدة تقصر أو تطول. إنه تلك اللحظة التي يتكلم عنها ييتس في أحدى قصائده حين يخطفه فجأة ضوء الشمس المنعكس في كأس البيرة المتوهج في المقهى فكأنه يراه لأول مرة. كما يذكر ذلك كولن ولسن في كتابه عن (الشعر والصوفية) الذي قرأته منذ زمن بعيد. قد يكون الانخطاف شبيهاً بتلك الإشراقة التي تضمنها هذان البيتان:
فجأة .. فإذا الأرض كوكب وأنا في الفضاء الأمير الصغير.
وقد يكون الانخطاف أرضيّا .. إشراقةً ممجّدةً للحياة في لحظتها الراهنة وهي تختزن الفرح فلا تبرح مكانها في الذاكرة أبداً.
* هل يستطيع الشعر بكثافة لغته و استعاراته و تشذر صوره التي تستعصي أحيانا على الإدراك العادي أن يلملم صور الطفولة الهاربة و المتشظية ثم يسكبها كتجربة شاملة في نظيمة أو متوالية شعرية تكون قادرة على نقلها بنفس الواقعية المحتملة التي تعبر بها جماليات الرواية مثلا أو السينما ؟
** لمَ لا؟ مادام الواقع ذاته ينطوي على جانب كبير من الخيال في أحيان كثيرة، وما دامت الأجناس الأدبية لم تعد بذلك التحديد الذي يجعلها قارات منفصلة .
*على ذكر السينما، يبدو لي ديوان "النقر على أبواب الطفولة" كأنه قصيدة طويلة مكتوبة ومصممة بلغة السينما. لعل في قراءتي هاته بعضا من مجازفة تأويلية. لكن لم لا نقوم سويا بامتحان مدى نجاعة هذه القراءة. فالقصائد تستثمر لغة حسية بصرية مركزة تنسجم مع رهان الشاعر في إعادة الحياة لصور الطفولة، على طريقة الفلاش باك. ثم ان الديوان مقسم الى فصول، كل فصل عبارة عن متوالية (Sequence) من المشاهد البسيطة و المركبة التي تتكون بدورها من لقطات. هذا علما أنك وظفت تقنية "اللقطة" في قصيدة تحمل نفس العنوان: "لقطات" و هي تقنية ستعود إليها لاحقا في ديوان "وردة البيكاجي" (1983). هذا ناهيك عن توظيف ذكي و شاعري لتوزيع الحركة و السكون، الصوت و الصمت و الضوء و الظلمة، و كذا المشاهد الفردية والجماعية و المواقف الساخرة و المأساوية، كعناصر بنائية لشريط الطفولة هذا.
** يسرني سماع ذلك منك وهذه أجمل مكافأة لي على مجموعتي الصغيرة هذه.
* لنمر إلى مكون أساسي من مكونات الشعر ألا و هو الإيقاع. ما هي الإيقاعات التي رسختها مرحلة الطفولة في وجدان الشاعر عبد الكريم كاصد: أناشيد الطفولة و الأغاني الشعبية وأهازيج الأعراس؟ هل أفدت في ديوان "النقر على أبواب الطفولة" من ذخيرة الصبا الإيقاعية؟ و هل ما تزال تلك الإيقاعات التي حركت روحك و وصمت طفولتك تغذي و تلهم شعرك الحديث، علما بأن كلمة "النقر" في حد ذاتها تثير جرس إيقاع ما؟
** نعم الإيقاع مكوّن أساسيّ في الشعر، وقد يكون طاغياً لدى شعراء كبار حتى يبدو وكأنه العلامة الفارقة لشعرهم : هوبكنز، ما ياكوفسكي، تنسون، البحتريّ، وآخرون كثيرون، حتّى أن إيقاعهم يلازمك أحياناً زمناً طويلاً تردّده وتتعشقه ولا تعرف سرّه إطلاقاً، غير معنيّ حتى بما يحتويه من معانٍ ودلالات هي الأخرى ذات قيمة كبيرة في شعرهم، وليست مجانية من أجل الإيقاع ذاته، وهذا ما يوضحه ما ياكوفسكي في دراسته الطويلة القيمة المترجمة إلى الإنجليزية في كتاب صغير عن قصيدته في رثاء الشاعر الروسي يسنين. ولأن الإيقاع ليس تجريباً أو مهارة مجردين وإنما هو مرتبط بمادته الحياتية ، لذا كان للإيقاع أشكاله العديدة وتجلياته المختلفة، وتأثيره الطاغي على القارئ حين تتردّد اصداؤه أياماً في النفس. لنأخذ هذه الأبيات للبحتريّ:
ولمّا غرّبت أعراف ليلى لهنّ وشرّقت قنن القنان وخلّفنـا أيامـن وارداتٍ جنوحاً والأيامن من أيان وخفّض عن تناولها سهيلٌ فقصّر واستقلّ الفرقدان تصوّبت البلاد بنا إليكم وغنّى بالإياب الحاديان
إنه إيقاع له من السحر ما يجعل المسافة بينه وبين بحر الكامل المجرد بعيدة تماماً. إنه شيء يضفو على الوزن بحروفه وامتداداته وأصدائه التي تتردّد في الروح وتتسع كدوائر في الماء. في النقر حاولت أن أعكس إيقاع الواقع نفسه كما اختبرته شخصياً: أصوات الباعة، حديث الناس، أو أخفف منه في قصائدي النثرية التي أصف فيها مشاهد منشغلاً بالسرد كقصيدتي "ليدي ستيك" و"مقهى".
البصرة عبق الأمكنة:
* في إحدى لقاءاتنا هنا بلندن قلت لي بنوع من الحنين: " إن قلبي هناك، في البصرة". بعد أن تناولنا بعضا من شخوص مرحلة الطفولة، أو قل النماذج الإنسانية الأولى التي أثرت في تجربتك الشعورية و تكوينك الأولي، يبدو لي أن مقاربتنا ستبقى ناقصة لو أغفلنا الحديث عن مسرح الطفولة و المكان الأول الذي حضن التجربة منذ البداية، ألا و هو مدينة البصرة.
** كتبتُ مرّةً عن البصرة نصّاً، من بين نصوصٍ عديدة عنها، بعنوان (البصرة مدينة لا مرئية). لقد عدت إليها غير أنني لم أتعرّف عليها إلاّ كما يتعرف الشاعر الجاهليّ على طلله، ولكنني مع ذلك أحسني مشدوداً إلى هذا الطلل بأكثر من سببٍ لا أدري لم اضطربت روحي عندما رأيت تمثال السياب ولم تهدأ إلاّ بزيارة جيكور. ما الذي يشدّني إلى ذلك وجيكور ليست جزءاً من طفولتي إلاّ عبر أصداء الكلمات ونوافذها البعيدة ...
ما زال ثمة آثار.. ما زال ثمة ماضٍ لم يندثر بعد، مطلّ في قسمات أناسٍ أحبهم وحيطان أحبها، وعتبات أعرف ما وراءها وإن لم أجتزها.. وشوارع أستعيد أشكالها.. وأطفالٌ يطلّون بوجوه آبائهم، واصدقاء هرموا غير أن فرحهم البعيد لا يزال مضيئاً في ملامح لم تهرم بعد. إنها مدينتي اللامرئية التي سأبحث عنها طويلاً، حتّى لو أرقني البحث عنها، ولعلّها في اختفائها يكمن عذابي في هوسي الدائم لا ستحضارها أو حضوري إليها. أشعر أنني لم أغادرها مثلما شعرت من قبل إنها لم تغادرني.
في تكريمي في المربد الفائت تحمل أناس مشقة الحضور لا لشئ إلاّ لسماع صوت ابنهم الذي غادرهم منذ ثلاثين عاماً .. هم الذين لا علاقة لهم بالشعر. لقد غمرتني المدينة بمحبةٍ حتّى أنني لم أعد أدري أي وجه حبيب سألتقيه أو يلتقيني في المنعطف القادم في هذا الشارع الذي أسير فيه.
كيف تستحيل المدينة إلى بيت؟ هل يكون الجواب : في الطفولة والشعر.. ولكن أين الطفولة؟ وأين الشعر؟ في أي مكان أعثر عليهما وفي أيّ مكان سأبحث عنهما وهما الحاضران أبداً..الدليلان.. والغائبان أبداً . ولكنني سأجدّ إليهما مثلما سأجدّ الآن في طريقي إلى البصرة باحثاً عن الثلاثة معاً.. هل امتزج الثلاثة حتّى أصبحا شيئاً واحداً:
* متى اضطررت إلى الخروج من المكان، هذا الخروج الذي سميته في أكثر من مناسبة بالهروب؟ ما هي دواعي هذه المغادرة الاضطرارية؟
** غادرت العراق سنة 1978، بعد أن أصبحت حياتي مثل حياة الكثير من المواطنين مهددة بالاعتقال والتعذيب إن لم أنتمِ إلى حزب السلطة، وبعد ساعات فقط من مغادرتي البيت، قدم رجال الأمن ليسألوا أمي عني أجابتهم أنها لا تعرف أيّ شيء، غير أنهم لم يصدّقوها وظنوا ذلك تضليلاً لهم .انتظروا حلول الليل ليتسلقوا سقف البيت بانتظار عودتي وظلوا ينتظرونني أياماً حتى يئسوا.
اختفيت شهرين ببغداد ثم اتصلت بواحدٍ من المهربين وكان قد وعد بإنقاذي ذات يوم إذا ما ساء الظرف ولم أجد وسيلة للهرب. وبالفعل فقد قدم المهرب بشخصه لأصحبه إلى بيته استعداداً للرحلة القادمة عبر الصحراء.
كان هذا المهرب قد فقد جمله في يوم ما فالتجأ إلى أخي الذي كان طبيباً في سفوان البلدة الحدودية المحاذية للصحراء، فطمأنه أخي بإعادة جمله إليه، لما لأخي من حظوة ومنزلة بين الناس، حتى المهربين منهم، وطلب منه أن يذهب إلى البصرة ويقضي ليلته في بيتنا لاستعادته صباحاً، فاستقبلته مرحباً واستمعتُ، بشغف، إلى حكاياته عن الصحراء، ولم أهمل الجلوس معه حين قدمت والدتي من الحج صدفةً في تلك الليلة جالبة معها الكثير من الهدايا التي اجتمع حولها الأقارب والأطفال وهم في أوج حماسهم وصخبهم . ولكي يردّ لي ما حسبه جميلاً أسرني أن السلطة ستشن حملة شرسة ضدّ الكثيرين فإذا ما احتجته فإنّ بإمكاني الاتصال به لمساعدتي على الهرب. قلت له وكيف عرفت ذلك قال لي : " لأنني بعثيّ " ثمّ أضاف: "وهل تعرف كيف أصبحت بعثيّاً؟". قلت له: "كيف ؟" قال : "استدعاني مسؤول بعثيّ وطلب مني أن أكون بعثيّاً، فقلت له: "أنا رجل مهرب ولا أعرف معنى كلمة بعثيّ". قال: "أ تريد أن تعرف معنى كلمة بعثيّ ؟ اذهب إذن خارج المكتب ثمّ ادخل واضرب الباب بقوّة. "امتثلت لأمره وخرجت ثمّ رجعت ضارباً الباب ولكن بتردّد. حينئذٍ صرخ بي قائلاً: " اخرج واضرب الباب بقوة كما قلت لك! " وهذا ما فعلته في المرة الثانية. حينئذٍ سألني: " أتعرف الآن معنى بعثيّ ؟ هو أن تضرب الباب بقوّة و تدخل."
طلبت من المهرب أن يرافقنا صديق لي هو الشاعر مهدي محمد علي فلم يمتنع. اصطحبناه إلى مدينته البعيدة حيث أمضينا يومين ثمّ إلى قرية حدودية ، استقبلنا أهلها، وهم أخوته وأقاربه، استقبالاً حافلاً، إذ احتفوا بنا وأعدّوا لنا وليمة عامرة حضرها العشرات من أهل القرية مما أثار خشية الصديق مهدي الذي همس في أذني مبدياً استغرابه فما كان من أهل الدار إلاّ ان انتبهوا لإشارته هامسين بدورهم في أذني: " ليطمئن صاحبك!".
بعد الوليمة خرجت القرية بأكملها لتوديعنا. كنا ثمانية وستة جمال: أنا و مهدي، وهاربان من الخدمة العسكرية، وأربعة مهربين. سبقتنا الجمال فمشينا على أقدامنا خلفها مسافة طويلة بعد أن صافحنا أهل القرية واحداً واحداً وكأننا في مشهدٍ سينمائيّ.
قبل أن يرتدي الليل شملته سبقتنا الجمال وعبرنا القرى كان نجم القرى نائياً فعزمنا الرحيل وانحدرنا مع النجم قلتُ: إذن هكذا صرةٌ ومتاع قليل
من قصيدة (الرحيل عبر بادية السماوة)
* لو عدنا إلى ديوان "النقر" لوجدنا نصوصا مشبعة بعبق أمكنة مدينة البصرة و صورها الأثيرة لديك. بي شغف أن تصور لي ملامح، و لو خاطفة، لجغرافيا هذا المكان و خصوصا فضاءاته العاشقة: "السوق" و "الجسر" و " المسرح"؟
** السوق: عن أيّ سوق أتحدّث؟ ثمة أسواقٌ عديدة هي كرنفالات حقّاً .. كرنفالات دائمة.. سوق الجمعة الذي يمتدّ شارعاً طويلاً ينتهي بساحة واسعة تقام فيها المراجيح في الأعياد. فيه تجد كلّ شيء.. الكتب والسلع النادرة. أحزن حين أتذكره وأتذكر كتبي العزيزة وهي تعرض فيه لتباع بأرخص الأسعار.. مجنون إلزا لأراغون بالفرنسية، ديوان المتنبي وغيرها من الكتب العزيزة التي تركتها ورائي حين غادرت العراق وخلفت بيتي لرجل أسكنته أمي هو وعائلته دون أن تطالبه بأي إيجار. تسلل هذا الرجل إلى مكتبتي المخزونة في غرفة يسهل فتحها. ولولا أن يلمحه أخي سلمان في السوق، صدفةً، لما تبقى من مكتبتي الكبيرة أي كتاب. كم كنت سعيداً وأنا أتحسسها عند عودتي إلى البصرة متذكراً فرحي باقتنائها وسعادتي بتقليب صفحاتها وما ارتبطت به من أخيلة وذكريات وأمكنة، وناس.
في تلك السوق أتذكر أيضا فرحي حين كنت طفلاً وأنا أرى التماع الكتب على الأرصفة وطبعاتها الجميلة: كتب نجيب محفوظ ومحمد عبدالحليم عبدالله وآرسين لوبين والدواوين المطبوعة طبعة شعبية، ما أجملها... وكم كانت دهشتي حين التقيت مرةً بكتب جونسون وملتون توب الساحرة والأكثر عمقاً في أحداثها من كتب أرسين لوبين. كنت أظنها لا توجد إلا عند صديقي اليهوديّ فكتور منشي. أمّا السوق الرئيسية، أو الكرنفال الحقيقيّ اليوميّ فهو سوق البصرة التي تبدأ من مركزها مروراً بسوق العبايجية وهي سوق لبيع الأقمشة وانتهاءً بسوق البزازين حيث محل والدي الذي كان في بداية سوق البصرة ثمّ انتقل إلى سوق البزّازين المظلّل المرشوش في الظهيرة بالماء حيث تحلو القيلولة ويندر الزبائن. كانت السوق أشبه بالحوش والناس أشبه بالعائلة، وكم كان سروري كبيراً حين أراهم مجتمعين كلهم في عرس أشهده أنا ووالدي: هاني النداف الأحدب ذو الوجه الجميل والمحبوب من النساء خاصةً، أبو عبدالله بلهجته النجدية المحببة وشخصه المسالم الهادئ . أتساءل أحياناً: من أين يأتي بكل هذه الأقمشة الجميلة التي تعوزنا ؟ جايد الكنطار الوجه الذي تضيئه ابتسامة دوماً لم تكدرها مرابطة أخيه الأحول حاج محمد في محله. كان يتندر أحياناً ويقول أن الحاج محمد ما إن يدخل بيته حتى يصرخ بزوجته أم أحمد: "أمّ أحمد هل أحضرت الغداء؟"، حتى قبل أن يخلع حذاءه، شمخي البصر صديق والدي الطريف الذكي الساخر من كلّ شئ ذو الزيجات السرية والعلنية.
رأيت مرة احدى زوجاته السريات فهالني ما تضعه فوق رأسها من لفائف قماش شبيهة بالعمامة وحين سألت لماذا قالوا إنها : علوية ، الخياط محمد علي الصموت وذلك البزاز الهادئ المنطوي الذي لا أتذكر اسمه الآن. نماذج طيبة حقا لم أرها يوماً تتشاجر أو ترفع أصواتها على بعضها بعضاً ، فمن أين جاء هذا العنف لدى العراقيّ فيما بعد؟
الجسر: من بين ما تشتهر به البصرة جسورها : جسر سوق الهنود ويسمى أيضا بجسر المغايز، جسر الغربان، الجسر الصغير الذي أجتازه كل يوم. جسور عند كلّ بضعة أمتار ، وبعضها لا ينتهي بطريق أو زقاق بل ببيت.. بعتبة بيت أو ممر على النهر. منظر ساحر حقا حين تعلو الجسور الشناشيلُ المزينة شبابيكها بالورد. هناك كان يقيم أحبّ مدرس لدينا الأستاذ ناظم مدرس التاريخ الأعزب الأبديّ والوسيم دوماً ، الساخرالذي لا يسلم أحد من سخريته المحببة ،المنحوت في نافذته كل مساء وهو يطل محدّقاً في الناس دون أن يراهم بجلسته الملكية المسورة بالأغصان. إنها الجنة الصغيرة التي لم ندركها إلا بعد أن هبطنا على الأرض. على بعد خطوات من هذا المشهد سكنت فيما بعد، وسكن صديقي الشاعر مهدي محمد علي.
أكبر هذه الجسور جسر الغربان الذي اجتزته، بدراجتي، مرّة في طفولتي. فكدت أن أصطدم بسيّارة قادمة لولا انحرافي ووقوعي في حافة قاع النهر أنا ودراجتي وكتبي التي التقطتها من بين أكوام نفايات الطرشي (المخلل) الحادة الرائحة ، والتي ظل عبقها ملازماً كتبي ودفاتري زمناً طويلاً. عند نهاية هذا الجسر تسكن (ديزي) أجمل فتاة في البصرة بملابسها القصيرة وخفتها الطائرة في الهواء وشرفتها التي نمرّ تحتها حذرين مرتبكين ..من أين جاء هذا الأمان إلى هذه المدينة وفتياتها المرحات ؟
أما الجسر الساحر فهو جسر المغايز أو سوق الهنود الذي استحضرته حين كتبت قصيدتي "الجسر" من ديوان "النقر على أبواب الطفولة". يمرّ على هذا الجسر يوميّاً آلاف الناس بطيئين هادئين تعلو وجوههم الراحة والرغبة في التنزه وسط ضجيج الباعة وإعلانات السينما الكبيرة التي يحملها عادة تومان الساحر بنايه الذي يعزف فيه من أنفه وحركاته المثيرة التي تضحك حتى الحزانى. وهو يأخذ سوق الهنود طولاً وعرضاً وسط الحشد وكأنه ملك يتقدم لا يعترضه أحد أجمل ما في الجسر مقهاه المطلّ على النهر وكأنه في المنخفض باخرة ترسو بركابها..بيضاء (لماذا أتصورها بيضاء ؟). لقد اختفى هذا المقهى منذ زمن بعيد واختفى معه الجسر الذي كتبت عنه في رحلتي الأخيرة. "ولعلً أغرب ما يطالعك وأنت تدخل السوق التي تكدّست فيها الظلال كما تتكدّس البضائع هو الجسر الذي يؤدي إليها وقد تغطّى بأسماله التي تصلّبت في الشمس، فعاد هو والخرق التي تعلوه كتلة واحدة وكأنه لا يقف على نهر، بل على أرضٍ مهجورةٍ اقتطعت من المدينة . لا شاراتٌ لماضٍ، ولا أثرٌ لمن مرّوا عليه. جسر لم يعد شاهداً حتى لو حدثت جريمة أمام عينيه. سيظل راتعاً في أسماله وكأنه لم ير شيئاً. تمرّ جواره وتمضي دون أن تلتفت إليه باتجاه الشط وتمثال السياب، وقد تسير باتجاهه متطلعاً إليه لكي تتعرف عليه، ولكن عبثاً سيظل مطرقاً وكأنه شحاذ يعرفك ويشيح بوجهه عنك.. شحاذ مهموم".
المسرح : ثمة مسرحان في ذاكرتي هما من أبرز مسارح البصرة : مسرح مديرية تربية البصرة الذي مازال قائماً، تعرض فيه، في فترات متباعدة، بعض الفعاليات الفنية الشحيحة. في هذا المسرح شهدتُ عروضاً مسرحية عديدة من بينها مسرحية ثورة الزنج من إخراج سامي عبد الحميد، ووقفتُ على خشبته لألقي أشعاري. ومسرح آخر، في الطريق بين العشار والمعقل، وقد شهدت فيه عروضا مسرحية أيضاً وأخرى للرقص . هذا المبنى الحديث اللامع هو الآن كامد يثقب حيطانه الرصاص، ويسكنه أحد الأحزاب الحاكمة في البصرة.
لقد أصبح المسرح الآن ذاكرة مثقوبة وكأن المدينة لم تشهد نشاطاً من قبل، غير أنني فوجئت عندما كنت في المربد هذا العام بطلبة الفنون الجميلة الذين يبلغ عددهم أكثر من عشرين وهم يؤدون قصائدي (الزهيريات) بأعذب الألحان مؤكدين أن لا شئ يوقف الحياة، وأن التقاليد الفنية الرائعة لن يمحوها ظرف عابر مهما استطال هذا الظرف.
* ماذا عن فضاء المكتبة أو الخزانة؟ هل كان لها موقع مخصوص في هذه الجغرافيا؟
** نعم، المكتبة لها مكانها المخصوص في هذه الجغرافيا . لقد بدأت قراءاتي الأولى هناك. فيها قرأت كل مسرحيات شكسبير المترجمة المتوفرة آنذاك ، وأحب الكتب إليّ. وفيما بعد نشأت علاقة حميمة بيني وبين مدير المكتبة وموظفها الوحيد صالح الذي فاجأني موته شابّاً.
هناك التقيت بمحمود عبدالوهاب القاص المبدع الدقيق في حرفته والمقلّ في نتاجه والذي أعدّه من بين أفضل كتابنا في القصة القصيرة، رغم أنه غير معروف على نطاق واسع. كان فرحي كبيراً حين التقيته ثانية في زيارتيّ إلى العراق. كنا لا نعتبر محيي مديراً للمكتبة بل مالكها الكاره للملكية إذ تبرع بمكتبته الخاصة ليضيفها إلى مكتبته العامة، مفتخراً بغنى هذه المكتبة وترتيبها ونظامها واحتوائها على بعض الكتب النادرة. ولعلّ من حسن حظّه أنه توفي قبل أن يرى مكتبته العزيزة وهي تنتهب وتستحيل طللاً موحشاً لا يستوقف أحداً.
كانت المكتبة تطل على نهر العشار..النهر ذاته الذي يمتدّ مارّاً بالجسر الخشبيّ الذي اجتازه كلّ صباح متوجّهاً إلى مدرستي، وهو النهر ذاته الذي يمرّ بجسر الغربان وجسر سوق الهنود. وفي الضفة الأخرى مقابل المكتبة يلوح الحيّ المظلل بالأشجار، الذي يسكنه الأرمن، والذي لم يعد له وجود مثلما لم يعد وجود لحيّ الأرمن الآخر، القريب من المستشفى، الذي ينتهي عنده نهر العشار.
* عندما قرأت فصل "البصرة مدينة لا مرئية" من كتابك الذي قيد الطبع، و الموسوم "باتجاه الجنوب...شمالا"، شعرت بنوع من هشاشة الكائن، إذا جاز التعبير، ينتاب نبرة الشاعر عن مدينته. و بدا لي كقارئ و كأنني أدخل رفقة الشاعر فصلا من فصول الجحيم، التي تذكرنا بمشاهد كوميديا دانتي القيامية. هل كان الخراب شاملا إلى هذا الحد؟ و هل لك أن تصف لنا انفعالاتك بصور المكان، بعد فراق طويل؟
** قد يكون ما ذكرته فصلاً من فصول الجحيم ، مشهداً قياميّاً في كوميديا دانتي..نعم ..ثمة خراب شامل، وترهّل للمدينة، كأنّ يداً خفيّة بعثرتها في صحراء، فلا فسحة هناك لشجرة أو محطة يستعيد فيها المسافر هدوءه، محدّقاً في الأشياء..لا ليس ثمة شئ من هذا..خلاء يمتلئ بالبيـوت، وبشرٌ كأنهـم تسمّروا إلى حاضرهم فلا ماضٍ مرّ، ولا مستقبلٌ سيأتي.. مع ذلك ثمة بهجة ما..بهجة تطلّ برأسها هنا أو هناك في مشاهد صغيرة: في سوق شعبيّ، في قوارب تنتظر، في مقهىً يطلّ على النهر، في سمر أصدقاء، في نساء عابرات، في رائحة أفاويه، في هدوء مارّةٍ. كنت كالمصاب بالدوار في قدومي الأول، أتطلع ولا أرى المدينة وحين اقترب الباص الذي يقلني من الفندق الذي سأنزل فيه، والذي سألتقي فيه بأصدقائي، ومن بينهم قادمون من بغداد والمحافظات الأخرى لحضور مهرجان المربد، استعدتُ طمأنينتي بتعرفي على المكان، غير أن الأمكنة بدت وكأنها أمكنة أخرى..حائلةً، شاحبة كالبشر..وجوه أم أقنعة؟ لا أدري لِم كان يراودني إحساس إنها أمكنة عارضة.. أمكنة ستزول وترحل ..أين؟..أمكنة خارج الزمن.. غير قادرةٍ حتى على التثاؤب، تطبق فمها وتصمت محدّقة في الأرض لا في السماء..أمكنة مطأطئة الرؤوس، باكية..يمرّ بها البشر ولا يلتفتون. يالمدينتي الحزينة! بشراً و أمكنةً، سماءً و أرضاً نهراً ويابسةً. منذ لحظة مغادرتي خلت أنني سأقطع المسافة إلى حدود مدينتي لأغادرها إلى الأبد، غير أنني ألفيت نفسي أنني ما زلت أقطع الطريق دون أن أصل الحدود أبداً، وما زلت أقطعها. هل استحالتْ المدينة مدينتين؟ أيهما الواقعية منهما؟ أيّ المدينتين؟ وحتّى متى سأسافر بينهما؟ أيهما مدينتي؟
* لكن مع ذلك وجدت هناك، حسب ما علمت من بعض كتاباتك، عناصر بقاء قد تعد بانبعاث أمل ما. فأنت تتحدث في نفس الفصل من رحلاتك عن"أثر ضائع لي أراه هناك في زاوية لا يراها أحد". ما هو هذا الأثر الضائع الذي لا يدركه سواك؟
** لكلّ منّا أثره الضائع. وأثري الذي لمحته هناك لم يوصلني بعد إلى أي مكان، وقد لا يوصلني، وإن أوصلني فهل أكون ذلك المقيم الذي ظل عابراً ثلاثين سنة ، في مدينة تراكمت فيها الآثار؟ لم أعد آمل برؤية مدينتي بعد أن حلّ بها الخراب. أعرف أنها لن تعود أبداً ، ولكنني سأظلّ أبحث عن أثرٍ ضائع لي فيها..لا يراه أحد. وإن رأيته أنا فهل تراه سيوصلني إلى المدينة..؟ لا أدري، ولعلني توهمت هذا الأثر أيضاً.
* ثمة كذلك تمثال الشاعر الكبير بدر شاكر السياب الذي قلت عنه: " لم ينج من هذا الخراب إلا تمثال السياب الذي ما زال منتصبا في زاوية من شط العرب رغم كل الحروب، التي شهدها، في حين لم ينج صاحبه من أبسط شرور الدنيا في حياته". هل هذا التمثال هو أيقونة ملازمة لروح الشعر و المكان؟ أم هو دلالة إصرار الشاعر على البقاء كعلامة هادية لإعادة بناء المدينة المشتهاة؟
** لعلّه الأيقونة التي ذكرتها والعلامة الهادية معاً. لم يعد حجراً بل روحاً تحفها ارواح الماء من جهة النهر وتمثال أسد بابل من الجهة الأخرى، وبين الجهتين يقف التمثال في هذا الامتداد من الحجر والماء مانحاً المدينة فسحة لتتأمل ذاتها وتلتقي بسمائها، وتستعيد أجمل أيامها حين كانت القوارب تحمل الناس في نزهة أبدية لايمكن أن يمحوها حاضر وسط هذا الامتداد المفضي إلى اللانهاية.. اللانهاية الساخرة بالخراب وهو يقف ذليلاً أمام النهر وتمثال السياب وأسد بابل وكأنه فاتح مقهور سيرتد عن المدينة يوماً ما.. يوماً قد يكون بعيداً ولكنه قادم بلا شك.
* ثمة كلمة لافتة ترددت في ثنايا حوارنا هذا، هي الكرنفال. ماذا تعني أو توحي لك هذه الكلمة؟ وبالتالي هل يمكن اعتبار الشعر، كتابة و إحساسا، كطقس احتفالي، تتجاور فيه المأساة بالملهاة؟
** أعني بالكرنفال المعنى الذي عناه باختين تقريباً: المشهد المسرحي الذي يشترك فيه الجميع ممثلين لا مشاهدين بلا محظورات ولا ألقاب أو مراتب. إنه "هذا الاتصال الحرّ البعيد عن الكلفة الذي يقوم بين الناس"، و "هذا الكشف عن الجوانب الخفيّة للطبيعة البشرية من خلال ما هو ملموس ومحسوس"، مكانه الساحة وما فيها من أشخاص بصفتها رمزاً لكلّ ما هو شعبيّ، وقد يمتدّ الكرنفال إلى البيوت لأن الكرنفال يعني كلّ الناس. والشعر في تعامله مع الواقع ليس بعيداً عن الطابع الكرنفالي في الحياة حيث تتجاور المأساة والملهاة، المقدّس والعادي، السامي والوضيع، العظيم والتافه، وتتسع أمكنة الشعر لتشمل حتى محافل الآلهة.
* عبد الكريم كاصد، بدأنا حوارنا بتساؤل عن عطاء الطفولة كرافد أساسي من روافد الشعر وكخزين ثر لتجارب الشاعر الأولى. ماذا عن عطاء الشاعر للطفل؟ هل كان عبورك من الكتابة عن الطفولة إلى الكتابة لأجل الطفولة، من خلال الشعر و القصة* معا، هو بمثابة رد لمديونية هذا الكائن الجميل و إعطائه فسحة للأمل في حياة أفضل؟
** كتبت عن طفولتي أو سيرتي كما يحلو للصديق الأديب صلاح حزين أن يسميها في دراسته المهمة عن مجموعتي (زهيريات)، وها أنا أعدّ للطبع مجموعة أخرى عن الطفولة (طفولة سارة وزياد) ولا أدري هل كتبت من أجلها حين كتبت عنها في الديوانين؟ سأورد مقاطع من قصيدة كتبتها لولدي زياد آمل أن تكون هي إجابتي:
انشغالات زياد
مرّت غابةٌ فناداها زياد: " إلى أين أنتِ ذاهبةٌ أيّتها الغابة ؟ " قالت الغابة : " لأنزّهَ وحوشي "
**
قال زياد لظلّه : " هل نلعبُ ؟ " فأجابه الظلّ : " لا أكلمك اليوم "
نطلب من زوارنا اظهار الاحترام, والتقيد بالأدب العام والحس السليم في كتابة التعليقات, بعيداً عن التشدد والطائفية, علماً ان تعليقات الزوار ستخضع للتدقيق قبل نشرها, كما نحيطكم علماً بأننا نمتلك كامل الصلاحية لحذف اي تعليق غير لائق.
اخبار العراق اليوم تصلكم بكل وضوح بواسطة العراق تايمز