ربما بدت هذه الدراسة الموجزة جزءاً من بحث في جانب من اللغة الانكليزية (الامريكية) وهي ليست كذلك لا اصلاً ولا تبعاً الا انها محاولة متصلة لكشف التأثير المتبادل بين السياسة في الولايات المتحدة الامريكية والمتغيرات الدلالية في عدد من التعابير الامريكية المستحدثة استنباطاً في شخصية السياسي الامريكي في المستوى الاعلى. فهذه التعبيرات اما ان تفضي الى السياسة او تنطلق منها، ولكن على نحو لا يخلو من غرابة، لأن اللغات الحية من العربية الى الاوروبية، ومنها الانكليزية (البريطانية)، لم تشهد مثل هذا الترابط، واحسبها لن تشهد مثل هذه العلاقة ايضاً في المستقبل بالمستوى الامريكي نفسه او بالشكل الامريكي عينه. اذ لم تبلغ هذا الموقف نظر المفكرين او الكتّاب السياسيين المتمرسين والمحللين المتقدمين بالقدر الذي يجب او يستحق، اذ صار غير الامريكيين من بين البشر في منع الهدف العملي لمادة السياسة الامريكية وتعبيراتها العامية والدارجة الدالة على نحو خاص، وفي الواقع ان التعبيرات الامريكية ليست مقصورة على السياسية في هذا التوجه حسب بل تمتد الى المنظور الاجتماعي والتربوي والثقافي والاقتصادي بما يخالف الذوق العالمي تماماً ويختلف عنه كثيراً.
الا ان مانود استذكاره في هذه المحاولة التحليلية المقارنة هو سببه الاستحداث، مما يجعل صورة السياسة الامريكية بل صورة الحياة الامريكية جميعها لا تناظر حياة الآخرين وسياستهم معاً حتى ترقى احياناً الى درجة العداء والاستعداء الثنائي والكراهية والتباغض المتبادل غالباً، اذ يتحكم في هذه العلاقة قانون امريكي شديد الخصوصية هو قانون انطباق العلاقة بين الافراد على العلاقة بين المجتمعات والدول عبر اللغة خارج مقومات الاخلاق المعيارية السابقة للمصالح المشتركة في مجتمعات الحضارة والمتأخرة عنها في مجتمعات المدنية وفي مقدمتها المجتمع الامريكي على نحو خاص.
هنا، تظهر بعض القواعد الفكرية التي لا بد من اخذها بنظر الاعتبار في هذا السياق فتعايش الاختلافات ممكن من غير احتكاك او به ومن غير صدام، الا ان جمع المتناقضات على اساس التوافق يعد مستحيلاً في عالم الواقع، لان سيرورة الوجود وغائيته تكمن في ظاهرة التباين اصلاً وليس في التطابق او التوافق، وان التغيير في شكل المادة/ اللغة حاصل اطلاقاً من السيرورة نفسها، ولكن التغير لا يفضي الى التطابق او التوافق لزاماً بل جوازاً واحتمالاً مهما قل، الا انه يؤدي الى التباين على نحو اكبر بحكم الواقع وبتحليل المنطق، فعندما نتلمس ما يستحق ان يصير ظاهرة التكرار والقياس فان من الصعوبة تحديد دراسته باسبقية (لماذا) او بأرجحية (كيف) اما الجمع بين (لماذا وكيف) معاً، فانه ينسج لنا قضية مكلفة باطار الجهد التأملي برغم ضرورتها، وكلمتها في الامتداد العلائقي الانساني والدولي.
لهذا السبب توجهنا الى اللغة في جانبها الاستعاري والكنائي مما تزخر اللغات كلها وفي مستوى اللغة، أية لغة، بمستواها العامي Slang او الدارج Colloquial او القياسي Standard الذي يحاور الفصاحة المتقدمة
Eloquence او يناظرها ثم يسمو الى البلاغة Rhetoric، اذ هذا مدار طبيعي، اما الشاذ غير الطبيعي فينعكس تحول بعض هذه الاستعارات والكنايات العامة والدرجة الى ادوات سياسية تطبيقية. هذا هو قصدنا باطار (السياسة اللغوية) او (اللغة السياسية) الاميركية، ومن اضيق زاوية السعة.
الموضوع في الحقيقة، لأننا هنا لسنا اكاديميين بل تطبيقيون، نحاول ايجاد شيء من الواقع وليس في الكتب، فنأخذ مثلاً تعبير الطاعة الرسمي في جيوش العالم كلها من الرتبة الادنى الى الرتبة الاعلى – نعم سيدي/ yes sir- ثم نجد كل الرتب معاً توجه هذه العبارة للقائد العام، انها حالة كونية وتاريخية تقليدية وجليلة تماماً، الا اننا نرى السياسة الامريكية تنقل هذا التقليد الى ما يكافئ تعبيراً آخر في العلاقات الفردية العادية هو الشخص المطواع الذي يقول نعم على نحو دائم (yes man) لاسباب نفسية وسلوكية ليست سليمة بغية تحقيق غاية خفية، مهما كان هذا المطواع او مركزه او انتمائه الفكري او السياسي، ثم تحوله من العلاقة الفردية الى العلاقة الدولية فتطلب حكومة الولايات المتحدة تلميحاً ومباشرة من كل دولة في العالم كله، وفي العالم المتخلف على نحو خاص ان تصبح دولة (نعم سيدي) مما يصح قياساً لا اشتقاقاً ان تصير هذه الدولة الطائفة المطواعة دولة النعم (yes stated) ازاء الولايات المتحدة حصراً، اي تقول للولايات المتحدة نعم وعلى طول...
بل لقد استأنست الولايات المتحدة هذه الحالة وتكيفت معها وعدتها حالة طبيعية وبخاصة مع بريطانيا ومستعمراتها السابقة العربية وغير العربية، فضلاً عن اسرائيل في ما يتعلق بالقضايا الستراتيجية وأي تصور يعاكس ذلك يحمل من الخطأ الشيء الكثير، حتى اذا تلقت الولايات المتحدة لكلمة (لا) اقتصادية او عسكرية او سياسية... تزعزع الاستقرار النفسي الداخلي فيها وتصدع التكيف، وحصل رد الفعل العصبي، وبدأ ساستها (الافراد- الزعماء) يخاشنون ويتصرفون من غير ادب باستعمال تعبير غير رسمي Kilk Arouned هو In Formal، من الشارع الامريكي ليتهموا اصحاب هذه الـ (لا) بانهم يثيرون المتاعب بتعبير غير رسمي ايضاً Make it Hdt في الوقت الذي يريدون او يتمنون تملقاً بموجب التعبير غير الرسمي الشائع Sweet Talk مع ذلك تراهم يضلون هالة القداسة على ادارتهم ونظامهم بتعبير غريب البنية والتركيب –البقرة المقدسة او المحرمة Sacredcow كناية بلاغية من مستوى لغة رسمية هذه المرة Formal ولكن السياسة الامريكية تمارس اللعبة الدموية اغتيالاً وغدرا بحق الـ Assaination بازاء خصومها السياسيين الحقيقيين في العالم المتخلف حصراً وبطريقة التعبير الامريكي- الاعدام من غير محاكمة –Neck- tile party- وهو تعبير له تاريخ طويل في المجتمع الامريكي، اما معناه الحرفي ويا للمفارقة فهو (حفلة ربطة العنق) كناية عن الاعدام جملة وتفريقاً ولكن من غير محاكمة، فهل ثمة علاقة بنيوية صادقة بينهما.
انها البلاغة الامريكية حسب، انهم ينسبونها الى سيرة رعاة البقر الذين كانوا يلقون القبض على لصوص الماشية ثم يعدمونهم معاً من دون ان تكون للقضاء كلمة او علم او دور. ولقد تعلم هذه اللعبة الموساد الاسرائيلي وعملاء امريكا السابقون في فيتنام – الجنرال كاوكي في اثناء حرب التحرير، اذ ظهر على شاشة التلفزيون يحمل بيده مسدساً يقف امامه أسير موثق من ابناء شعبه الثائر (الفيت كونغ) رفع كاوكي مسدسه الى
جانب رأس الاسير ثم وجه الى الشريان الرئيس ثم اطلق عياراً نارياً بكل شجاعة فسقط الاسير جثة هامدة مضرجا بدمائه ونحن نتفرج على هذا المنظر في الحفل، اما الجنرال كاوكي فلم يتهمه احد بشيء ولم يحل الى القضاء الامريكي (العادل) بعد لجوئه الى الولايات المتحدة أثر هزيمة نظامه والولايات المتحدة معاً.
وبالطريقة نفسها تتعامل المخابرات المركزية الامريكية مع مجتمعات عربية وآسيوية وافريقية الآن... ولكن بطرائق مبتكرة جداً تلتقي جميعها على مضمون تعبير Neck- Tile Party. اما الموساد الاسرائيلي فقد اقتبس الفكرة من هذا التعبير، استثمرها مراراً، نذكر هنا باغتيال غسان كنفاني وكمال ناصر ويوسف عدوان في بيروت بداية السبعينات، وفي تونس وفي اوروبا، قادة وقواعد وعلماء عرب واجانب، فرادي وجماعات... وبالعودة الى شكل هذا التعبير ثم الى مضمونه الكناني الساخر، يحق لنا اتهام الولايات المتحدة واسرائيل بما ليس في غيرهم مطلقاً –السارية السادية Political Sadism – فضلاً على النعوت الاخرى، طريقتهم الدموية المثلى هذه يتقاسمون التصافق السري لمصلحتها الخاصة بموجب تعبير آخر لا يقل طرافة، انه اللعب بالسياسة Play Politics، على المعنى الحرفي، اما الاتفاقات السرية لتحقيق منافع خاصة على حساب الغير، فهو المضمون المقصود، اذ نجد القيم الاخلاقية مضروبة هنا عرض الحائط وحقوق الانسان مداسه بالاقدام هناك، حسب علامات البورصة السياسية الخارجية الامريكية كما حصل في السابق في ايران وبعض دول امريكا اللاتينية.
دعنا نتفق سراً على ان الاستمرار في كشف هذه الالغاز التي تحتل المواقع نفسها في السياسة العليا، وفي الحديث العادي يسلط بعض الضوء على طريقة تفكير العقل الامريكي السياسي في جانبه المظلم اما الرد عليها من اللغة والى اللغة فلا ابلغ من التعبير اللغوي العربي (فليخسأ الخاسئون)* الذي اعجزنا نقله الى الانكليزية، لانه يصرف الفعل خسئ مكرراً تكراراً بلاغياً لا تطاوعه اللغة الامريكية، فلم تقرأ في مقابلة احلى من Shame فعسى ان يقرأها سياسي او لغوي امريكي من فريق (اللعب بالسياسة) فيبلغها اقرانه، اذ في اللغة العربية (خسئ الكلب) طرده و (الخاسئ) فاعل من الخنازير والكلاب، المُبعد المطرود لا يترك ان يدنو من الناس، والله اعلم.
* خسأ – بُعد
خسئ- الكلب، بّعد وطرد - خسئت- عبارة تفيد احتقار المخاطب او الاختلاف معه. وتقال بمعنى فشلت وخاب ما تسعى اليه.
مقالات اخرى للكاتب