قد يطالني الكثير من النقد وربما الشتائم بسبب هذه المقالة، إلا أنني آليت على نفسي أن تكون إحدى حلقات سلسلة مقالات عن أزمة الوعي العراقي التي شرعت بكتابتها تباعاً منذ فترة، فخلال عقود خلت من حكم أنظمة جمهورية عسكرتارية دكتاتورية، وبسبب ثقافة مشوهة لأجيال بعضها تواطئت مع إنقلابات العسكر وإنقادت لأحزاب شمولية وأخرى رباها البعث، إختزن الوعي العراقي كذبة واهية ترسخت شيئاً فشيئاً في لاوعيه وباتت جزئاً من ثوابته لتضاف لقناعاته الفكرية الملتبسة، وهي أن نصب اللاحرية هو رمز وطني معَبّر عن الشعب العراقي(العظيم!) وثورته(المجيدة!) على الظلم والقهر!! وطبعاً المشكلة في هذه الأجيال هي أنها وكما نقول باللهجة الدارجة قافلة ومتطرفة في نظرتها المقدسة للنصب، وفي هالة الرمزية التي صنعتها له مخيلتها المريضة المُعَبئة بتخيلات وأوهام لا أساس لها من الصحة عن محتوى أو دلالات هذا البناء الكونكريتي الذي وصل التهور الثقافي والتطرف الآيديولوجي واللاعقلانية السياسية بالبعض لدرجة الدعوة وتنظيم حملة لجعل مجسماته الرمادية العنفية الكئيبة كلها أو جزء منها شعاراً وسط العـلم العراقي بدل عبارة الله أكبر الحالية التي أقحمها النظام السابق وثبتها النظام الجديد فيه بين الأحمر والأسود! وكأنما لا يكفيهم إحمرار الدم الذي فوق وسواد الأيام والوجوه الذي تحت، ليضعوا بينهم مشهداً كئيب اللون يَرمز للعنف والعسكرة! فهل أرزة لبنان وقيقب كندا أعز على اللبنانيين والكنديين من نخلتنا سيدة الأشجار! لماذا لم يفكر أحدهم يوماً بوضعها أو وضع القيثارة السومرية في الوسط مثلاً! أم إنها تداعيات وَعي الشخصية العراقية التي تهوى الموت والكآبة وتكره الجمال والحياة!
إذا كان هذا النصب يعبر فعلاً عن الشعب العراقي وثورته المجيدة التي كسَرت أغلال الذل والعبودية كما قال عنه صانعه! وكما روج لذلك القوميون والشيوعيون مِمّن طبلوا لإنقلابات العسكر ورقصوا لها بجفية! لأنها أطلقت عنان مراهقتهم السياسية نهاية خمسينات وبداية ستينات القرن الماضي! فهل لهم أن يخبرونا كيف ومتى عاش العراقيون ذلاً وعبودية أيام الملكية؟ هل يقصدون ذل وعبودية فيصل الأول أم الثاني أم غازي أم عبد الاله أم نوري السعيد أم صالح جبر أم أحمد مختار بابان أم فاضل الجمالي؟وما هي صورها التي ينقلها لنا التاريخ مقارنة بالذل والعبودية التي عاشوها أيام قاسم وعارف وصولاً الى أقبح أشكالها في أيام صدام والمالكي؟ فساسة العهد الملكي كانوا يُسَبّون جهاراً نهاراً على المنابر وبحضورهم أحياناً وكانوا يتقبلونها بروح رياضية عالية راقية دون أن يحاسبوا من يفعل ذلك، في حين كان جزاء مجرد من ينتقد أو يفكر بإنتقاد صدام والمالكي حتى ولو في حلمه الإعدام، وقصة المطرب الراحل صباح السهل مثال على ذلك؟ واذا كان عدد نزلاء السجون في العهد الملكي بالعشرات، فقد أصبح بالمئات في زمن قاسم وعارف، ثم عشرات الآلاف في زمن صدام والمالكي! واذا كان عدد من أعدِموا بحكم محكمة في العهد الملكي ربما عشرة أشخاص خلال أربعين عاماً، فقد أعدم المئات خلال4 أعوام من حكم قاسم ومثلها من حكم عارف، ليصل العدد الى الآلاف في زمن صدام أغلبهم طبعاً دون تحقيق ولا محاكمة!! والقائمة تطول بالإختلافات بَين العهد الملكي الذي أسّس ومأسَس لديمقراطية فتية حقيقية، وبَين عهود جمهوريات الموز المُشوهة التي أسّست ومأسَست لنظم شمولية دكتاتورية قمعية. لذا عَن أي ذل وعبودية سبقت النصب يتحدثون ويدعون! وعن أي حرية بعد النصب يزيفون يكذبون!
إذا كان البعض يريدون أن يكذبوا ويستمروا بالكذب على أنفسهم وخداعها بالشعارات الفارغة فهذا شأنهم، لكننا لن نسمح لهم بإجترار أكاذيبهم وتكرارها على مسامعنا كما فعلوا خلال العقود الماضية، وإذا كانوا قد تعودوا على عدم التفكير وإشغال العقل بوعي وإستقلالية، وعلى ترك عقولهم مبرمجة على آيديولوجيات الخمسينات الشمولية التي دمرت مجتمعاتهم وأوطانهم ويريدون الإستمرار بإجترارها، فنحن لن ننجرف معهم لهذا العبث والضياع، فالعقل والمنطق والإنسانية تقول أن هذا النصب هو كذبة بل وواحدة من أكبر الكذبات بتأريخ العراق وهُن كُثر، سواء برمزيته المزيفة للواقع والتاريخ والتي تعبر عن العنف والثوران والهمجية البعيدة عن التمدن والعقل والتحضر، أو حتى بحجمه الضخم وقطعه الحديدية الرمادية المثيرة للكآبة، كما إن المساحة الضائعة التي يغطيها بحجمه الضخم المبالغ به كانت مغطاة سابقاً بعشب أخضر وموقعاً للكافتريات والكازينوهات الجميلة. لكن الوعي العراقي لا يرى كل هذا مما هو موجود على أرض الواقع أمام عينيه التي لا يريد فتحها، والذي لمسه خلال التأريخ الأسود المَليء بالدَم والعُنف للجَمهوريات التي عاصَرها ودَفع ثمنه مِن أعمار ودماء أبنائه، بل ما يَزال يرى النصب وينظر اليه من خلال شعارت الأحزاب الشمولية وهتافات وخطابات قاسم وعارف وصدام والمالكي الرنانة، ومن خلال الكتب والأدبيات التي وضعتها جمهوريات الدم والقمع، ويصر على أن يبقى مخدوعاً أسيراً لأنه وعي جبان لا يملك الجرأة وغير قادر على مراجعة نفسه ولا يقوى على التغيير.
ختاماً لا بد من الإشارة الى أن العمل فنياً ضخم وفيه إبداع لا نختلف في ذلك، لكنه فكرياً ورمزياً إشكالي غير متفق عليه بإعتبار ليس كل العراقيين يرون ما حدث في 14 تموز 1958 الذي صُنع النصب لتخليده كسراً للقيود بل العكس، فقد بات العراق بعده مقيداً ببساطيل العسكر وأفكار الأحزاب الشمولية البعثية منها والشيوعية ثم الإسلامية، وبالتالي لا يصلح أن يكون في علم العراق الذي يفترض أن يرمز لكل العراقيين، هذا أولاً. ثانياً الناس عادة تضع في أعلامها ألواناً زاهية أو وما يرمز لتأريخها أو طبيعتها، ما يرمز للحب والسلام والأمل والمستقبل، ولا أدري أين كل هذه المعاني أو حتى جزء منها في نصب من البرونز داكن كئيب اللون مليء بمناظر العنف والقضبان والقسوة والخوف!لذا متى ما أزيل النصب وعاد مكانه وموقعه الى سابق عهده مغطى بالعشب الأخضر والورود تملأه الكازينوهات الراقية، فحينها فقط بأمكننا القول أن الوعي العراقي قد بدأ يتعافى وبات قادراً على المضي في طريقه الى بناء الوطن وربما تربية أجياله على قيم إنسانية حقيقية جميلة.
مقالات اخرى للكاتب