لم يكن التفجير الأهوج الذي ضرب حي الكرادة فجر الأحد 3 تموز، الأولَ من نوعه، ولكنه كان الأعنف والأسوأ من حيث الحصيلة وحجم الدمار الذي ألحقه بشريًا وماديًا ونفسيًا وربما سياسيًا. صرخة الألم كانت كبيرة ومفجعة ومؤلمة. أكثر من مائتي ضحية أبرياء سقطوا صرعى صراعات المصالح وتناقضات الرؤى وتباينات المكاسب لسياسيي الصدفة الذين هيّأت لهم أمريكا المحتلة كراسي الحكم على طبقٍ من ذهب بالتعاون مع قوى ودول وزعامات إقليمية رأت في العراق وشعبه خيرَ مختبرٍ لتصريف الأسلحة وتصفية حسابات إقليمية بينية لا ناقة للبلاد فيها ولا جمل. والأنكى من ذلك كله، توزيع الغازي الأمريكي للأدوار وفقًا لمصالح الدول المجاورة له والإقليمية في المنطقة كلّ بحسب مصالحه لتلتقي مع المصالح القومية العليا لأمريكا ومَن يسيرُ في سياقها ومن يقف خلف كلّ هذا وذاك.
هذه الفاجعة الكبيرة في نوعها وحجمها أجّجت المشاعر وأدمت العيون التي سكبت عبرات حمراء مصبوغة بالدماء، حزنًا وألمًا على الضحايا الأبرياء، ومواساةً لأهاليهم وأقربائهم وأحبائهم وأصدقائهم. كما ولّدت حالة شديدة من الإحباط لدى أهالي الحيّ المنكوب، تمامًا كما فتحت غطاء القِدر السياسيّ من جديد لتفوح منه الرائحة النتنة لصفقة أجهزة فحص المتفجرات الشهيرة "المعروفة فكاهة بأجهزة فحص الزاهي"، التي يتولى مسؤولية توريدها رئيس الوزراء السابق وبطانيتُه الفاسدة التي ظلّت من دون حساب ولا محاكمة ولا عقاب بسبب مسؤوليتها عن مئات بل آلاف الحوادث المشابهة التي لم تكتشفها هذه الأجهزة التي لا تصلح سوى للكشف عن أنواع المنظفات والعطور، ليس إلاّ.
فاجعة الكرادة، كشفت الكثير عن متناقضات بين الساسة ورجال الدولة، "هذا إن صحّ تسميتُهم بها، لأنهم لا يستحقونها فعلاً"، من الذين ظهر تقصيرُهم الواضح بغيابهم عن تقديم يد العون ومدّ المساعدة ساعة حصول الانفجار حيث الحاجة لإخماد الحرائق التي خلّفها الانفجار الآثم وحجم الدمار الذي طالَ مبانٍ ومحلاّت وأتى على الأخضر واليابس فيها. صرخات وصيحات إغاثة ولا من مجيب. فأجهزة الدفاع المدنيّ لم ترقى إلى مستوى الفاجعة ولا أفرادُها ولا الأجهزة الصحية من عربات إسعاف وبعض المشافي التي اعتذرت بحسب البعض عن استقبال حالات الضحايا من قتلى وجرحى. كما غاب المسؤولون في الميدان ولم يكلّفوا أنفسَهم واجبَ التضامن مع أهالي الضحايا أو حتى في معاينة آثار الجريمة البشعة التي أثارت الشجون والألم والحسرة في نفوس عامة الشعب. فلليوم الثالث على التوالي، نقلت قنوات متلفزة جهودًا لمتطوّعين مدنيين تركوا بيوتهم وأشغالَهم ومحلاتهم وهم ما زالوا مستمرين بالنبش في ركام الأبنية وفي السراديب بحثًا عن أشلاء وبقايا لضحايا احترقوا وقُبروا تحت الأنقاض بفعل التهامهم بنيران التفجير الأهوج من شدة هول العصف وقوة المواد المستخدمة وكميتها.
فاجعة الكرادة هي بحق نقطة تماس ساخن بين عاطفة الأهالي المشدودين تقليديًا لمنهجية المرجعيات الشيعية والمشدوهين بالموقف المخجل والهزيل من زعمائها وسياسييها وممثليها بسبب عجزهم عن مواكبة الحدث الجلل وتقديم يد العون بانتشال الضحايا وإخماد الحرائق وتسهيل استقدام وسائل الدفاع المدنيّ والمتطوعين وغيرها وكلّ ما تقتضيه مثل هذه الحوادث الكبيرة، نظرًا لجسامة الضرر وفداحة الخسائر وبيانًا للموقف. وإلاّ كيف يُعقل أن يتمّ إيقاف شاحنة كبيرة تجلب الأنظار في مكان مزدحم مثل شوارع الكرادة من دون أن تتأكد الأجهزة "غير الساهرة" على حياة الناس في ليالي رمضانية متوهجة وعاجّة بالحركة والحياة وأنوار انتظار العيد، من هوية صاحبها وتفحّص ما بداخلها درءً لأية احتمالات مترقبة ومحتملة في هذه المنطقة الاستراتيجية بالذات؟
لكن جواب الكرّاديين جاء قاطعًا رادعًا مشوبًا بانفعالٍ معذور عبروا عنه في نوع "الحفاوة" التي أظهرتها قلوبهم ونفوسهم عبر مشاعر الغضب الشديد والاستياء من الأداء الحكومي لأجهزة الدولة حينما رشقوا موكب رئيس الوزراء بالحجارة والقناني وقطع الطوب المتيسرة، ما حدا به للمغادرة فورًا وتجنيب عواقب غير محتملة. ذات الغضب وذات الاستياء، وردَ من صفوف الشعب، إنْ علنًا أو من وراء الكواليس. فالفاجعة الكبيرة لو تكن لتحصل لو كانت عيون أجهزة الدولة ساهرة وإجراءات فحص ومراقبة العجلات والأفراد يقظة. وهذه الأخيرة قد لزمت ملاحظات عديدة، منها عدم جدّية أفراد نقاط التفتيش الثابتة في المراقبة والرصد، ولهو العديدين بالسوالف غير الضرورية والمحظورة، وانشغال بعض هؤلاء باستخدام أجهزة الموبايل، وغياب الحس الاستخباراتي في التفاعل مع الأحداث ومع غليان الشارع الساخن بالشمس القاتلة، علاوة على انتفاء فائدة الأجهزة المستخدمة في رصد العجلات الذي أثبتت الأحداث فشلها، وإصرار الأجهزة الأمنية بالداخلية وقيادة العمليات على استخدامها ذرَا للرماد في العيون وضحكًا على الذقون وعدم الاهتمام باستبدالها بأجهزة فحص حديثة ورصينة. يُضاف إلى ذلك، غياب الجهد الرقابي لأجهزة الأمن في رصد الأحياء التي تحولت فيها دور وبنايات بالكامل لخزن البضائع ولمقرّات مشبوهة للأحزاب والميليشيات، ما جعلها مواقع حامية لكلّ أنواع المحظورات. فحالة الفلتان في نظام السكن والإيجار التي غضّت أمانة بغداد بشكل خاص ومجموع المحافظات العراقية في هذا الجانب، قد شكّل حلقة أخرى من التساهل في عمليات الإرهاب والاختفاء خلف هذه السلسلة من الإجراءات والممارسات التي نالت، ليسَ من جماليات الأحياء السكنية فحسب، بل أيضًا من راحة المواطن ومن أمنه ونقاوة علاقاته التي عمّقها فضُّ النسيج الاجتماعي وتمزّقُ لحمته الوطنية بفعل اللامبالاة والتغاضي والترهّل نتيجة الصراعات السياسية المتنامية التي ليسَ لها نهاية ولن يكون لها ذلك إلاّ بمعاول "القلع والشلع" التي نادى وما زال ينادي به الشعب المتظاهر كلّ يوم جمعة علنًا ووجاهةً.
إنّ الحالة الأمنية المتدهورة في العاصمة، بغداد، بخاصة تستدعي الوقوف والتأمل. فهذا إن دلّ على شيء، إنما يشير في مجمله وبكلّ بساطة، إلى كون الهاجس الأمنيّ خطير وقابل التهديد في أية لحظة. وهو يعني أيضًا، أنَّ الإرهاب الداعشي قادرٌ على الضرب في أيّ مكان وكلّ زمان بعيدًا عن أنظار الأجهزة الأمنية التي تقف عاجزة عن تحديد مكامن الخطر ومواقع الخلايا النائمة التي تستيقظ وسط عيون الغافلين اللاّهين في أمورٍ لا تمتّ بصلة للواجب الأمني والوطنيّ الملقى على كاهلها. فهي بدت منذ زمن، غير جديرة بثقة الشعب المنكوب منذ السقوط ولغاية الساعة. فلا استراتيجيات أمنية مبنية وفق السلوك الاستخباراتي ومدعومة بالقيم العسكرية العقائدية قد تحققت، ولا حس وطنيّ بدَرَ من قيادات أمنية وسياسية وحزبية للتعاطف مع أصحاب الفواجع، ولا شعورٌ مجتمعي استصرخَ ويستصرخُ لحالات التضامن والاعتداء والعنف المتزايد في كلّ مكان.
أمّا الأعذار بتعويض تنظيم "دولة الخرافة" خسائره عبر الخلايا النائمة، مجرّد أوهام واهية لتخدير العامة من الناس ولامتصاص غضب الشارع الساخن الذي يغلي على صفيح من نار. فهذا الكمّ الهائل من رجال الشرطة الاتحادية ومن أفراد الجيش وباقي الأجهزة الأمنية الوطنية المنتشرين في الشوارع والطرقات، كان الأجدر بالمسؤولين عنهم زجّهم على الحدود منذ السقوط الدراماتيكي لحمايتها ومنع تسلّل الإرهابيين عوضًا عن توزيعهم في الشوارع يتسكعون ويرصدون المارة شزرًا بغياب الحسّ العسكري وشرف المهنة، أو يوقفون عجلات المواطنين في نقاط التفتيش، وما أكثرها، رصدًا للوجوه بغاية اللهو وإعاقة السير والاستمتاع بتضييق الخناق على السالكين من خلال فتح مسار واحد في نقاط السيطرة إيغالاً بالاستهتار بوقت المواطن وتلاعبًا بنفسيته المتعبة أصلاً، بحيث يضطرّ لإمضاء ساعات من الانتظار أحيانًا من أجل الوصول إلى مقرّ عمله أو العودة إلى بيته وأهله وعائلته.
ألم يكن من الأولى، زجّ القسم الأكبر من هذه العناصر في مواقع ساخنة كانت تستدعي تعزيزات عسكرية قبل دخول الدواعش وتدنيسها للأرض والعرض؟ فلو كانت هذه العناصر مؤهلة حقًا ومستقلّة في ولائها، لأمكنها تجنّب الكثير من النوائب والهجمات التي حصلت العديد منها بالقرب من تواجدها في نقاط التفتيش، وبعضها بسيارات مفخخة رُكنت بالقرب منها أو بعبوات ناسفة انفجرت على المارة أو مستخدمي السيارات الذين لقوا حتفهم، إمّا نتيجة لتقاعس العناصر الأمنية أو تواطؤهم مع منفذي الهجمات. وهذا مؤشر خطير في سلوك الجهاز الأمني الوطني في الجيش والشرطة والمخابرات، والمفترض استقلاليتُه وولاؤُه للوطن والشعب وليس للأحزاب والطوائف والأفراد والمرجعيات.
فالصراع على المناصب والمواقع من أدناها إلى أعلاها في الأجهزة الأمنية، خضعت هي الأخرى، في معظمها لسياسة المحاصصة والتوافق بعيدًا عن الكفاءة والجدارة في السلوك والعلوم العسكرية ونظام الترقية المعمول به في الجيوش العقائدية. وهذا ممّا أضعف الحسّ الاستخباراتي وغيّب منهج العقيدة العسكرية والأمنية في السلوك اليوميّ لسائر الأجهزة، ومنه جاءت الثغرات والهفوات والأخطاء الكبيرة التي انتهزها أعداء العراق وأعداء الشعب للنيل من لحمته ومن نسيجه ومن راحته وأمنه واستقراره، نتيجة غياب هذه الاستراتيجيات البديهية.
لقد كان الأجدر بالقيادات الأمنية والحكومة أن تكون بمستوى المسؤولية في أخذ الملف الأمني بجدّية أكبر، بعيدًا عن صراعات الفرقاء التي انعكست بالتالي على الوضع الأمنيّ، بسبب ولاء الأجهزة الأمنية لأحزاب وكتل متنافسة ومتناحرة ومتصارعة على الكراسي بسبب الرغبة المتزايدة بانتهاز فرص لنهب المال العام وفرض كل واحدة منها للأجندة التي تقتضيها مصالحُها ومصالح مَن يمولها ويرعاها. فالراعي الأكبر الأمريكي المحتل، له اجندتُه عبر أدواته الاستخباراتية والسياسية والمنظماتية وحتى الفردية. وإيران صاحبة السعادة التي حظيت بضوء أخضر من الغازي الأمريكي لتحقيق مصالحها في ولايتها الجديدة بالعراق، هي الأخرى لها أجندتُها عبر الأحزاب والميليشيات التي ملأت أرض السواد وراحت تسرح وتمرح بطولها وعرضها. والدول اٌلإقليمية والجارة، تتعكز هي الأخرى كلٌّ على أدواتها ومنفذي خططها وبرامجها التي لا تتوخى البناء والإخاء بقدر ما تزجّ هذه الأدوات في أتون نيران مستعرة، وهي دائمة السعي لتأجيجها بلا هوادة من أجل إبقاء البلاد مضطربة وفي حالة غليان وعدم استقرار سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا، ذلك لأنّ استقرار أرض الرافدين يعني ضرب كل المصالح الأجنبية والإقليمية الطامعة بالبلاد وبأهلها وبثرواتهم الوطنية.
لا إضافة على ما تقدّم. فالصورة كانت وما تزال واضحة لا لبسَ فيها: قصورٌ في البعد الاستخباراتي، تهاونٌ في أداء الواجب الأمني، إهمالٌ في رصد الحالات الشاذة ومراقبة المشبوهين، تمسّك أعمى بأجهزة ثبت فشلُها، غضّ الطرف عن مخالفات في مجال السكن والإيجار تستوجب الرصد والمتابعة والمحاسبة، إصرارٌ على عدم استخدام أجهزة رصد حديثة من مناشيء رصينة، السكوت عن مخالفات عناصر أمنية، غياب المحاسبة والعقوبة بسبب المحسوبية والمنسوبية والانتماء الدينيّ والطائفي والعرقيّ، عدم وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، استبعاد العناصر الوطنية الكفوءة من مواقع المسؤولية والإتيان بعناصر ضعيفة غير مستوفية الشروط، إفراغ مؤسسات الدولة الأمنية من قيادات علمية جديرة بصناعة الاستراتيجيات ووضع الخطط، التخبط في وضع الخطط والقفز من خطة لأخرى بشكل ارتجالي ووفق مزاج "القائد الضرورة" الميداني أو الحكوميّ، وغيرُها كثيرٌ مما لا مجال يسعُه.
هذه وغيرُها كثيرٌ من السلبيات المؤشرة في وسائل الإعلام ومن جانب النخب الوطنية المثقفة ومن الخبراء في ميادين العمل، جديرة بأن يُعاد فيها النظر، وأن يتحلى المسؤولون الأمنيون والحكوميون بالشجاعة باعتزال العمل وترك الشأن لمَن هو أجدر، قبل أن يحظوا بما لا يرضيهم من الشعب الغاضب. فالتاريخ لا يرحم، والسيل الجارف قادم لا محالة. شعارُ الوطنيين الجديد: "مدنيون"، ولا خيار لغير التيار المدني الديمقراطي الذي ينادي بدولة مدنية من خلال فصل السياسة عن الدين. فقد أفسد الإسلامُ السياسي الدّينَ، وآن الأوان كي يتولى الأكفاء من الوطنيين المدنيين العلمانيين من النخب ومن خارج أحزاب الإسلام السياسيّ المبادرةَ الوطنية والسلطة بعد أن أثبت الأخير فشلَه وانتشر فسادُه وزكّم الأنوف وأزعج المرجعيات التي بحّ صوتُها وأغضب الشعب الذي ملّ الوعود والضحكَ على الذقون والتخديرَ بجرعات الولاء للطائفة والمراسيم الموسمية الكثيرة التي تُستغلُّ لاستعطاف البسطاء في المناسبات الدينية وتجييرها لصالح الدين والطائفة والمذهب والشخص. فقد أضحى الدّين لدى هؤلاء الانتهازيين من أحزاب الإسلام السياسيّ، لدى السنّة والشيعة على السواء، دين جماعات وأشخاص وطوائف وليسَ دينَ إيمان وتقوى ومحبة ورحمة.
رحم الله شهداء الكرادة وشهداء الوطن جميعًا ومَن وقع ويقع للدفاع عن حياضه وكرامته وهيبته، وألهم أهلهم وذويهم وأحباءَهم الصبر والسلوان. ولنا في الإله الرحمن الرحيم الحقيقي، إله المحبة والخير والرحمة وليس إله القتل والسيف والانتقام والثأر، خير الساندين وأطيب الراحمين وأفضل الحامين.
مقالات اخرى للكاتب