كما هي اللغة بحر لا قرار له، كقول حافظ ابراهيم:
انا البحر في احشائه الدرّ كامن
فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي
كذلك هو الحديث عن اللغة، فهناك أبحاث ودراسات في اللغات عموما تتناول نشأتها، وتطورها، ونحوها، والفاظها وغير ذلك، مما له أول وليس له آخر، ولا تمكن الإحاطة به. لكن المتفق عليه عموما ان اللغة في الاساس توافق واصطلاح بين الناس، وأنها وسيلة تفاهم وتواصل، واداة تفكيروتعبير. ويجمع العلماء على ان الحيوانات لا تفكر، لأنه ليس لها لغة، وما نراه من تصرف الحيوان،مما يتهيأ لنا انه ناجم عن تفكير، ليس سوى تصرف غريزي.
من المتفق عليه ايضا ان اللغات تتغيير وتتبدل وتتطور بتطور الناس والحياة، فنظرية النشوء والارتقاء الداروينية لا تقتصر على البيولوجيا والفيزيولوجيا بل تصح ايضا في اللغات، وفي مظاهر الحياة المخلتفة مثل الحب، والجنس والاقتصاد والتربية، والسياسة وغير ذلك. مثلا، ليست انجليزية شكسبير كانجليزية اليوم. بل ان انجليزية اليوم تختلف اختلافا بينا عن الانجليزية قبل مئة سنة. كذلك هي حال العربية. ومن يمتلك قاموس الالفاظ العربية القديمة، في الجاهلية وما قبلها، يستطيع ان يعرف الى اية درجة يمكن للغة ان تتغير وتتبدل.
كانوا في العصر العباسي، كما ذكر اساتذتنا في ثانوية الناصرة ينتقدون استعمال الالفاظ الحوشيه الغريبة. وقال صفي الدين الحلي في ذلك:
انما الحيزبون والدردبيس والطّخا والنقاح والعلطبيس
لغته تنفر المسامع منها حين تُروى وتشمئز النفوس
ومع ذلك تعلمنا في حينه قول الشنفرى في ما اسموه بلامية العرب:
دَعَسْتُ على غَطْش وَبغْشٍ وصحبتي
سُعار وإرزيزووجر وأفكل
وقد اعجبنا بقعقعة الكلمات فحفظناها، وتباهينا بها. كما اعجبنا في حينه بالسجع، والترادف، وجزالة الالفاظ، فمن يلتفت اليوم الى هذه الامور، ومن يقيم لها وزنا؟
وكان هناك من بين العرب انفسهم من انبرى الى محاربة الاساليب والالفاظ القديمة من ايام ابن قتيبة الذي قال ما معناه. «كل قديم كان في زمانه جديدا»، وكل جديد سيغدو قديما» وذلك في دعوة منه لقبول الجديد ورفض القديم، واشارة الى تطور اللغة!
وفي العصر الحديث تناول جورجي زيدان هذه القضية اللغوية فوضع سنة 1922 مؤلفه «تاريخ اللغة العربية باعتبار انها كائن حي نام خاضع لناموس النشوء والارتقاء». احصى فيه مئات الالفاظ المأخوذة من لغات اخرى مثل الحبشية، والفارسية، والهندية، والعبرية والآرامية. وبعضها الفاظ لا يراود احد الشك بانها عربية اصيلة مثل: منبر- منافق- برهان-الحواري صلاة- صحف- قبس- نبي- الخ وفي اربعينات القرن الماضي انبرى المبدع الفلسطيني خليل سليم السكاكيني ينتقد الاساليب والالفاظ القديمة في العربية فكتب..» تطور اللغة في الفاظها واساليبها».
كذلك فعل مارون عبود في انتقاده الساخر لمجمع اللغة الملكي في القاهرة لاستعماله كلمة «ارزيز» الواردة في لامية الشنفرى، وتعني سماع الصوت من بعيد، كتعريب لكلمة «تلفون»..
لهذا وغيره توصلت الى قناعة بان الشعب او الناس هم «مجمع اللغة» الصحيح، فما يتعارف عليه الناس، ويتفقون عليه بالاستعمال هو الذي يسود ويسيطر.. اما ما تقترحه مجامع اللغة فإنه يبقى حبيس صوامع المنتفعين المتنفذين.
كان هذا حتى الان مجرد بادئة للرد على الذين يقولون، او يصرحون بان اللغة العربية في خطر .وبعض هؤلاء من حملة شهادة الدكتوراة بالعربية، وبعضهم من مدعي الريادة والرئاسة في الادب واللغة على حد سواء.
وللامانة فقد كان الدكتور محمد حبيب الله نشر مقالا في «الاخبار» تحت عنوان « لغتي هويتي» وهو ينوي نشرسلسلة مقالات في اللغة بصفته باحثا في موضوع القراءة وفهم المقروء. ولولا احترامي للدكتور، ولولا قناعتي بضرورة العمل بحرية النشر لما نشرتُ له تلك المقالة.
وكان الاديب الشاعر جودت عيد، في حديث لنا مع نصراوية مغتربة تعمل باحثة ومتخصصة بالعربية، كان سألني:» ما هو سبب ضعف اللغة العربية». وقد استفزني هذا السؤال لانه يصرف الذهن عن الجوهر، ويحول التهمة من الجاني ( او الفاعل) الى المجني عليه (المفعول) او قل من ال subject الى ال object اي من الانسان العربي الى اللغة العربية. ولذا فان السؤال الصحيح الذي يجب ان يُسأل هو: ما سبب ضعف المواطنين العرب لغويا. فليست العلة بالعربية، بل العلة بالمتكلمين بها من ابنائها. واذا هم تركوها وتحولوا الى غيرها سواء كان غيرها العبرية او الانجليزية، او السنسكريتية ،فهم احرار. بل يستطيع كل من يشاء ان يترك لغته / هويتة (كما الدكتور محمد حبيب الله) غير مأسوف عليه، ويتحول الى هوية اخرى، ولغة اخرى، ولتكن لغة السعادين مثلا. فقد يكون هو الخاسر، وقد يكون رابحا .
وفي اعتقادي انه لا توجد أية قوة، ولا توجد اية اسباب، واية مؤثرات تستطيع ان تصرف المرء عن لغته، هذا اذا هو اراد التمسك بها.. وللتوضيح مثلا لكم ان تنظروا الى بعض المعلقين، والمحللين العرب الذين يعيشون في الخارج كيف يحافظون على لغتهم العربية، وعلى مقدرتهم التعبيرية بها كأحسن ما يكون.
فالعبرية كانت لغة شبه ميتة، موجودة في بطون الكتب، وقد استطاع اهلها عندما نهضوا ان يحيوها. وهي الآن موجودة في الانترنت، ومستعملة فيه اكثر من العربية. هذا بالرغم من ان عدد المتكلمين بها اقل من المتكلمين بالعربية بنحو 97٪.وقد كانت العبرية لغة باقية، كما تقول الدراسات. لكنها نائمة وهناك لغات بائدة.. على وزن العرب البائدة قديما، والعرب البائدة حديثا (ان شاء الله).
وما كان للعبرية ان تحيا وتنتعش من تلقاء نفسها. ما كان لها لتنهض من بين الغبار والانقاض لولا نهضة أهلها. هذا بالرغم من ان الذين كانوا يتكلمون بها، او يقرأونها نادرون.. اما غالبية اليهود فكانوا يتكلمون ويتقنون اللغات الاخرى.
وهذه الحال.. حال نهوض العبرانيين ونهوض لغتهم يؤكد صحة مقولة احدهم بان الامة- اية امة في العالم- اذا قويت تقوى لغتها، وتقوى آدابها، وفنونها، وعسكريتها، وكل ما يصدر عنها. ومتى انحطت الأمة انحط كل ما له علاقة بها. وهذه حال امتنا اليوم للأسف!! ولغيره!! اما العربية فقد كانت، ولا تزال (طبعا مع شيء من التحفظ بسبب مسميات الاختراعات والابتكارات الاجنبية التي لا يوجد لها امقابل بالعربية). كانت من اكثر لغات العالم اتساعا وتعبيرا عن احتياجات الحياة. وقد اتى عليها زمن استوعبت فيه الاف الكلمات من مختلف اللغات كما اشرنا سابقا، وانها لقادرة اليوم على استيعاب غالبية المسميات المعاصرة التي اوجدها او اخترعها الاخرون من غير العرب، مثل- تلفون، وتلفزيون وتشات، وفيس بوك، وإس ام اس، فنقول كما يقولون بالعبرية- تلفن- يتلفن- تلفون- وتلفز- يتلفز- وتلفزة، وتلفزيون وتلفزيونا، ايضا.. فما المشكلة وما الضير في ذلك؟! انا اقول لكم اين تكمن المشكلة، واين يكمن الضرر.. إنهما يكمنان في عقولنا ونفوسنا وجهلنا ومتاجرتنا وكلها ناجمة عن ضعفنا وعجزنا.
وهناك مئات الكلمات الاخرى المشابهة التي لا بد من قبولها كما هي مثل: استراتيجية وايديولوجيا ، وتكنولوجية والكترونية وفسيولوجية وسايكلوجية، والآيفون واللايك،والداونلود والبار والجك.. والآيباد.. وغير ذلك مما له اول وليس له اخر.
لكن المشكلة كما يقول وليد خالص، -عضو المجمع اللغوي في مصر، بدرجة مراسل عن العراق. في محاضرة له بعنوان «ام المشكلات العربية واهلها في واقعنا الحاضر» المشكلة بأهل اللغة. ويخلص وليد خالص للقول: بأنه بعد استقصاء واسع، وتأمل عميق في حال العربية اليوم، وما تواجهه من مشكلات فإن اللب في هذا كله هو أهل هذه اللغة انفسهم. اما العربية نفسها فإنها لغة متنوعة الافانين، واسعة البحر، عميقة الغور، وذات مكانة سامية،باختصار شديد: ليس العيب والضعف بالعربية، بل بأهلها، ولو انهم اتوا بشيء واحد جديد لوجدته دخل كل لغات العالم،كما فعلوا في السابق.