ألهمتني بعض المنشورات على مواقع التواصل الاجتماعي للغوص قليلا في احتفال معظم المسلمين بذكرى الهجرة النبوية وتبادلهم للتهاني والأمنيات برأس "السنة الإسلامية" أو "التقويم الإسلامي". بل ويحضرني سؤال مهمٌ وهو: لماذا تم اختيار موعد هجرة النبي من مكة للمدينة دون غيرها من المناسبات كبداية للتقويم الإسلامي؟ لماذا لم يكن فتح مكة مثلا هو اليوم الذي يبدأ به التقويم خصوصا أنه يمثّل يوم فرح إسلامي بعكس ذكرى الهجرة بكل ما تحمله من ألم وتفاصيل حزينة- بعيدا عن ذلك الاستقبال الحافل المهيب الذي قابل النبي به أهل المدينة ومن سبقه من أصحابه مهاجرين. فلا يهم أي استقبال تتلقاه خارج وطنك إذا كنت قد خرجت منه مُكرها مكسورا، ولا يهم ما آلت إليه الأمور بعد ذلك من إنصاف وإنجازات، بقدر ما يحمله الاحتفال بذكرى هذا اليوم المؤلم كبداية للتقويم الإسلامي من علامات استفهام.
إن يوم الهجرة النبوية هو يوم نكبة بكل ما تحمله كلمة النكبة من معنى، خرج فيه أناس من بلادهم نتيجة لسياسة تهجيرية ممنهجة مورست ضدهم، تعرضوا خلالها لشتى أنواع الانتهاكات والاعتداءات السافرة التي طالت كل نواحي حياتهم، حتى بات بقاؤهم في مكة يعني قرارا بالانتحارا وإجهاضا لفكرة تلك الرسالة الإنسانية العظيمة التي دعا إليها النبي- تحرير الإنسان. لقد كان خروج النبي من مكة هو هجرة قسرية حتى وإن رغب البعض بإعطائها طابعا آخرا يجدونه مريحا لذاكرتهم بكونها كانت بداية لحشد الأنصار وبناء ما يسمونه ب "دولة الإسلام".
لا يعنيني أن أناقش إذا كانت الهجرة أمرا إلهيا، ففي الواقع لا أجد فيها أكثر من نتيجة منطقية لتسلسل الأحداث التي مرّ بها النبي منذ بدء دعوته، وقرارا طبيعيا لأي إنسان في مكانه كان قد تعرض لما تعرض له من اضطهاد وقهر وظلم. أليس يزال الناس يهاجرون لنفس الأسباب حتى يومنا هذا؟
ما يعنيني في الحقيقة هو المنهجية التي تم وفقها اختيار موعد الهجرة النبوية كبداية للتقويم الإسلامي، مع أن رسالة الإسلام بدأت بالبعثة- أي الوقت الذي بدأ فيه نزول الوحي- وكان من الممكن أن يبدأ التقويم الإسلامي به. ومع أن فتح مكة هو اليوم العظيم الذي تمثل بعودة المهاجرين- اللاجئين- ظافرين منتصرين إلى ديارهم التي تركوها مجبرين مكرهين منكسرين، وكان ممكنا ان يبدأ التقويم الإسلامي به أيضا. وحتى وإن سلّمنا بالتقويم الهجري كتقويم إسلامي، لا أعتقد أنه حريّ بنا أن نجعل منه يوما احتفاليا لما يحمله من ذاكرة أليمة. فالنبي يومها كان قد خرج من موطنه مطاردا موجوعا وكلنا لدينا تفاصيل الرحلة والخطر الذي حاق بحياته قبل خروجه من مكة متخفيا وأثناء هجرته ولنا أن نفكر ولو قليلا بما كان يعتربه وقتها من كل ما يمكن أن يعتري أي إنسان في محنته ومُصابه.
فهل تكون ذكرى يوم كيوم الهجرة مدعاة للاحتفال؟ أم أن الموضوع اليوم لا يتعدى كونه تقليدا لأصحاب الديانات الأخرى السابقة بإيجاد تقويم خاص بالإسلام يكون له رأس سنة هو الآخر بحيث يحتفل به أتباع الإسلام اقتداءً بغيرهم- أو ربما مناكفة لهم- دون النظر لما تحمله ذكرى هذا اليوم من معانٍ تتعدى كل تلك الانتصارات المعنوية والمادية التي حدثت بعد الهجرة؟ فإذا كان المسلمون يهتمون كثيرا بالاحتفال بتلك "الدولة" التي تم بناؤها فيما بعد، فليحتفلوا بيوم بناء أول مسجد على سبيل المثال - وهو في وقتها كان يمثل ما يمثله المجلس التشريعي للأمة في يومنا هذا وليس مجرد مكان لأداء الصلاة.
لقد قلتها لصديقة كانت قد علقت على منشور لي بهذا الخصوص وأقولها هنا: إن يوم النكبة الفلسطينية سيبقى يوم نكبة حتى وإن جاء اليوم الذي يعود فيه كل المهجرين إلى بلادهم. لا يمكننا أن نحتفل بيوم وجع وألم ونتخذ منه ذكرى سعيدة نتبادل بها التهاني والأمنيات الجميلة!