الليل وحش رهيب، أطفال قلوبهم تخفق خوفا، نساء أيامى وثواكل، خربة لا سقف فيها ولا ضياء، افترشوا التراب والتحفوا ظلمة السماء جميعا، الوسن لا يطاوعهم، فهو مارد عصي عن الحضور، صور الأحباب تمر وكأنها شريط أحمر اللون قاني مثل لون أرض كربلاء، التي اصطبغت في يوم عاشوراء بدماء السعداء، المصير أسود مجهول الهوية، والنهاية ليست كمثل البداية، هن خرجن مع الحماة والغيارى من أبناء الرسول والمرتضى، يحدون بهن على ظهران العيس، في الهوادج مخدرات لا يراهن قمر ولا تحرقهن شمس، لكن رحلتهن من كربلاء إلى الكوفة، ثم إلى الشام كانت محملة بالأسى واللوعة والأحزان والضرب المهين، بنات الرسالة المحمدية، أمسين اليوم سبايا في خربة، أهدين من العراق إلى فرعون الشام، رقية طفلة صغيرة من بنات الحسين، فقدت بصرها بمرض عابر، لم يتسن لها رؤية رأس أبيها وأخوتها تحمل على أسنة الرماح، فتحت عينيها فشاهدت كتل التراب وظلمة الليل الدامس، راعها المشهد المعتم، صاحت والشوق والحنين يحثان الخطى، نحو رؤية ريحانة الرسول وحبيب الزهراء البتول، الهاشميات أمسين لا يعرفن مهرب أو مخرج في سبيل أقناع طفلة الحسين ذات الخمس سنوات، ما زالت رقية تصرخ بقوة الرعد، حتى أضج بكاؤها ونحيبها مسامع ذلك الرعديد، الذي تخيل أن البرق يكاد يخطف أنفاسه، جعل يديه على مسامعه، لكن الصوت الهادر، أريد أبي، عبرّ بين مفارق أصابعه الملوثة بالدماء الزكية، رقية لا يرقّيها غير أحضان أبيها الذبيح من قفاه..
لم يستطع الهجوع، الأرق حالف أصوات رقية، النعاس فارق عينيه، دماء شهداء كربلاء، حرق خيام حرم الرسالة، أشباح تمر أمام ناظريه وخياله، أحدثت الرعب والهلع، حتى بدت تلك الرؤوس الشوامخ فوق رؤوس الرماح، تزلزل جميع أركانه، وهو يسمع منها الترتيل وآيات التنزيل، صورة المظلوم ونظراته تترصده وتتبعه في ذهابه وإيابه، فصاح في أتباعه، أسكتوا صوت الطفلة، أعصابي تنهار لا أريد سماع صوتها المزعج، أريد الراحة والسكينة التي فارقتني منذ قتل الحسين وسبي عياله...
- هي تريد رؤية أبيها الذبيح...
- خذوا إليها أباها!...
حملوا طستا، أسرعوا به إلى الخربة، وضعوه أمام رقية، صاحت: لا أريد الطعام!، أريد أبي، نحّوه عني، أريد أبي!!..
رفعوا الغطاء عن الطست، أمعنت النظر إليه، شاهدت رأس أبيها، صاحت بصوت عالٍ، أبي حسين... من فصل رأسك الشريف عن جسدك، من قطع أوداجك بشفرة السيف، من أحزن المصطفى. من أبكى البتول الزاهرة، من أقرح قلب المرتضى، من أيتمني منك، من حرمني حنانك، من خضب شيبك المهيب؟..
انحنت عليه ضمته بين ذراعيها، أحتضنها وضمها إلى صدره الدافئ، أحس قلبها الصغير بالحنان والأمان، أثرت الرحيل على البقاء في دنيا الأحزان، تمسكت به ورحلت معه إلى برزخ القدس، سكن صوت الطفلة وعم الوجل والبكاء، وأسدل ستار الرحيل على أوجاع الفراق.
ملاحظة: القصة اشتركت في مهرجان السفير سنة 2014 وحصلت على المركز الخامس.
مقالات اخرى للكاتب