اعداد: الدكتور نبيل الأمير التميمي
يعد المسجد الوحدة العمرانية الأولى في المدينة الإسلامية ، فبعد هجرة الرسول الأعظم (ص) إلى يثرب كان أول ما اتخذه هو بناء المسجد الذي عرف بالمسجد النبوي، فغدى بناء المسجد الإنجاز الأول عند تمصير أي مدينة إسلامية.
وكان المسجد الثاني الذي بُني في الإسلام بعد المسجد النبوي هو مسجد البصرة حيث تم بناءه سنة 14هـ بعد فتح المدينة على يد القائد عتبة بن غزوان والذي بناه بالقصب، ويُروى إن الذي قام بعملية البناء أما محجر بن الادرع من قبيلة سليم، أو نافع بن الحارث بن كلدة.
وبعد بناءه تحولت حوله المساكن والخطط .
إعمار المسجد . . .
وبعد سنة 17هـ احترقت البصرة وربما شمل الحريق المسجد أيضا، فأعاد بناءه الوالي أبو موسى الأشعري باللبن والطين، وسقفه بالعشب وزاد في مساحته.
ولما تولى زياد بن أبيه ولاية البصرة لمعاوية بن أبي سفيان إتخذ عدة إجراءات في اعمار المسجد، حيث وسع مساحته وأعاد بناءه بالآجر والجص أما سقفه فمن الساج .
واتخذ له أعمدة من حجر نحتها من جبال الاحواز .
ويقال لما أعاد زياد بناء المسجد ودار الأمارة اخذ يطوف حولها ويقول :
أترون خللاً؟
فيقولون: ما نعلم ببناء احكم منه .
فقال : بلى هذه التي على كل واحد منا أربعة عقود لو كانت أغلظ من سائر الأساطين .
وقد ظلت هذه الأساطين سالمة قوية لم تتصدع أو يصيبها عيب حتى قال فيها الشاعر: ـ
بنـــى زياد لذكر الله مصنعة
من الحجار لم تعمل من الطين
لولا تعاون أيدي الأناس ترفعها
إذا لقلنا من أعمال الشياطين
وجعل زياد صفة الجامع المقدمة خمس سواري، وبنى منارته بالحجارة وهو أول من عمل المقصورة ، ونقل الأمارة إلى قبلة المسجد.
وقيل إن زياد رأى الناس يَنْفٍضون أيديهم إذا تربت وهم في الصلاة .
فقال: "لا اَمن أن يضن الناس على طوال الأيام إن نفض الأيدي في الصلاة سنة"، فأمر بجمع الحصى وإلقاءه في المسجد.
كان الإمام إذا جاء للصلاة يتخطى الناس إلى القبلة ، فأمر زياد بتحويل دار الأمارة من الدهناء إلى قبلة المسجد فكان الإمام يخرج من الباب في حائط القبلة . وهذا يعني إن البناء القديم ظل على حاله وان دار الأمارة ملاصقة للجامع من جهة القبلة أي الجنوب الغربي وكان بينهما وبين الجامع باب يخرج منه الأمير إلى المسجد مباشرة دون إن يتخطى المصلين .
ولما تولى عبيدالله بن زياد البصرة بعد أبيه قام بشراء دار نافع بن الحارث بن كلدة وكانت شمال المسجد لغرض إكمال تربيع المسجد وأرض ابنه عبيدالله بن نافع بان عوضه قبل ذراع خمسة اذرع وفتح له في الحائط خوخه إلى المسجد فلم تزل ألخوخه في حائطه حتى عصر المهدي العباسي .
وكان اكبر توسيع للمسجد في ولاية محمد بن سليمان بن علي العباسي سنة 160هـ أيام الخليفة العباسي المهدي حيث بلغ عدد المصلين عشرين ألفا فأمر المهدي بتوسيع المسجد وذلك بشراء بعض الدور المحيطة به .
وذكر المؤرخ ــ ابن الفوطي ــ إن مسجد البصرة احترق سنة 624 هـ \ 1227م فقام الأمير شمس الدين بإعادة عمارته واحضر الحجارة من جبل الأهواز، وجلب له خشب الصنوبر والساج من البحر، واسكن فيه جماعة من الصوفية ، وبُني دهليزا للجامع بحجرتين جعل في أحداهما كتباً .
وبعد مجيء المغول في 656 هـ / 1258م توالت الفتن والحروب في البصرة نتيجة سوء تصرف عمال المغول فيها، وهجمات الإعراب البدو على البصرة ، فاضطر أهلها إلى النزوح لاماكن أخرى حتى سنة 701هـ حيث تم خراب البصرة نهائيا، ولم تعد مدينة يمكن إن نجد عنها أخبار فيما يتعلق بأحوالها، وأخذت تُعرف بإسم البصرة القديمة ، وظهرت مدينة أخرى سميت بالبصرة كانت سابقا متنزها ومصيفا للولاة والوجهاء في العصر العباسي ، فابتنيت فيها الدور والقصور والمنازل وازداد عمرانها واخذ من البصرة القديمة يحوّلون إليها. فأخذت تسمى البصرة الحديثة تميزا لها عن البصرة القديمة .
كان للمسجد مهام متعددة في الاسلام منها : ـ
- اقامة الصلاة
لما كانت الصلاة صلة بين العبد وربه لذا كان لزاما الحفاظ على هذه الصلة وأقامتها في أماكن مقدسة ، فكان المسجد أقدس مكان لإقامة الصلاة، ومن بين الصلاة هناك صلاة الجمعة التي يجب أن تقام في مكان واحد في البلد، لذا يسمى المسجد الذي تقام فيه صلاة الجمعة بالمسجد الجامع ، وكان مسجد البصرة من المساجد الجامعة.
- مقراً للحكومة
يُعد المسجد مقرا للحكومة لتداول الرأي حيث يتم عقد الاتفاقيات وإرسال الرسل واستقبالها واتخاذ القرارات المهمة، إلا انه بعد ذلك استعيض عنه بإنشاء دار الأمارة، ومع ذلك بقي المسجد يحتفظ بدوره في القضايا السياسية فقد يستغله المناوئون للحكم للإعلان عن ثوراتهم وأهدافهم .
- توزيع العطاء
كانت من مهام المسجد الأولى انه مكانا لتوزيع الأموال على المستحقين، إلا انه استعيض عنه بعد ذلك لما انشأ بيت المال.
- القضاء
كان المسجد يعد مكانا لفض الخصومات بين الناس، لكنه في العصور اللاحقة استعيض عته بدار القضاء أو ديوان القضاء.
- التعليم
من أهم المهام التي اضطلع عليها المسجد القضايا الثقافية حيث صار أشبه بجامعة مصغرة يجتمع فيها الأساتذة من مختلف الاختصاصات مع طلبتهم، حيث تتشكل حلقات عدة، فحلقة النحو حيث عرفت البصرة بمدرستها النحوية، وحلقة لتدريس اللغة، وأخرى للكلام والقضايا الفلسفية، وحلقة للتفسير، ومن بين تلك الحلقات حلقة الأصمعي، والحسن البصري، وواصل بن عطاء، وقتاده السدوسي، ولا يعني هذا إن هذه الحلقات مقتصرة على أهالي البصرة، بل إن شهرة علماء البصرة دفعت طلبة العلم إلى المجيء إليها والتزود من علمائها.
تنامت الحركة الثقافية في مسجد البصرة بعد زيارة الإمام علي (عليه السلام) للبصرة سنة 36 هـ ، حيث ألقى عدد من الخطب في هذا المسجد، ثم عين على البصرة عبد الله بن عباس المعروف بفقهه حيث اخذ يلقي دروس في الفقه والتفسير والأخبار في مسجد البصرة حيث تخرج على يديه كبار التابعين كالحسن البصري، وتشكلت نواة مدارس في الفقه والتفسير والأخبار والكلام وبالإضافة لحلقات الدرس كانت تعقد مناظرات وأدت بعض هذه المناظرات لإيجاد اتجاهات فكرية جديدة كالمناظرة بين الحسن البصري وتلميذه واصل بن عطاء والتي أدت إلى نشوء مذهب الاعتزال والمناظرة التي بين أبي علي الجيائي زعيم المعتزلة وبين تلميذه أبو الحسن الأشعري والتي أدت لنشوء مذهب الاشاعرة في علم الكلام .
وبجانب هذه الحلقات كانت حلقة أبا عمر العلاء والخليل الفراهيدي الذي وصف بأنه مفتاح العلوم ومعرفتها ويونس بن حبيب أما الأصمعي فكانت حلقته في اللغة والأخبار .واستمر هذا المسجد كجامعة مصغرة يستقبل طلبة العلم من مختلف أرجاء العالم الإسلامي حتى مجيء المغول فلحق بمدينة البصرة من الدمار والخراب بسبب الفتن وانعدام الأمن مما أدى لهجرانها إلى ما يسمى بالبصرة الحديثة.
بقي هذا المسجد أثرا تاريخيا شاخصا واخذ يعرف باسم "خطوة الإمام علي عليه السلام أو جامع الإمام علي (ع)" والسبب في ذلك يعود لزيارة الإمام عليه السلام له أيام خلافته سنة 36 هـ ، وإلقائه عدد من الخطب في هذا المسجد ومن بينها تنبؤاته لمصير هذه ألمدينه ومسجدها حيث قال :
"كأني انظر إلى تربتكم هذه قد طبقها الماء حتى ماير منها إلا شرف المسجد كأنه جؤجؤ طير في لجة بحر".
وفي رواية "كجؤجؤ سفينة" قال ابن أبي الحديد في تعليقه على كلام الإمام أعلاه : (فأما أخباره عليه السلام إن البصرة تغرق عدا المسجد الجامع بها ، فقد رأيت من يذكر إن كتب الملاحم تدل على إن البصرة تهلك بالماء الأسود يتفجر من أرضها فتغرق ويبقى مسجدها، والصحيح إن المخبر به قد وقع، فان البصرة قد غرقت مرتين، مره في أيام القادر بالله، ومرة في أيام القائم بأمر الله، غرقت باجمعها ولم يبقى منها إلا مسجدها الجامع بارزا بعضه كجؤجؤ الطائر حسب ما اخبر به أمير المؤمنين (عليه السلام)، وجاءها الماء من بحر فارس من جهة الموضع المعروف ألان بجزيرة الفرس، ومن جهة الجبل المعروف بجبل سنام، وخربت دورها وغرق كل ما في ضمنها، وهلك كثير من أهلها، وأخبار هذين الغرقين المعروفة عند أهل البصرة يتناقلها خلفهم من سلفهم).
ولما كان هذا المسجد هو ثاني مسجد بني في الإسلام بعد المسجد النبوي ، وقد جاء في بعض الروايات إن أفضل المساجد في الإسلام أربعة: المسجد الحرام والمسجد النبوي ومسجد البصرة ومسجد الكوفة.
وإن مما يؤلم إن هذا المسجد قد أصابه الإهمال من بين المساجد الأربعة، مع انه في الوقت الحاضر غدا مزارا يؤمه المسلمين وتقام فيه صلاة الجمعة المباركة.
وما زال مسجد البصرة او مسجد خطوة الإمام علي عليه السلام شاخصاً وشامخاً حتى يومنا هذا رغم مامر بالبصرة من عريق وحريق.