الجرائم الكبيرة التي تحدث في الأوساط المدنية أو المجتمعات التابعة لها قد يكون من ورائها سبب يُرد إلى ما هو مدوّن في كتب التراث من أخطاء وشوائب لا يمكن تمحيصها أو إخراج الغث منها بسهولة ودون عناء "وسيمر عليك هذا المعنى من خلال البحث" وقبل البدء في ذلك يجب الإشارة إلى أن الناس الذين جعلوا القتل سمة من سماتهم قد خرجوا عن دائرة الإسلام الحنيف، واتبعوا أمر كل شيطان مريد حتى أعطوا لأنفسهم الحق من أن يكون هذا الجرم ديدنهم الراسخ في عقولهم، وبالتالي لم يقدروا على شفاء ما في صدورهم الخاوية على عروشها إلا بواسطة هذا النهج المملوء بالحقد والغل لجميع أصناف البشر ما عدا المغرر بهم والذين أصبحوا أقرب إلى الدمية المسيرة بأمرهم، ولهذا فإن الأخطاء المتفق عليها من قبل هذه الفئة المجرمة التي انتشرت أمراضها في جميع الأرض، لا يمكن أن تكون وليدة الصدفة أو الأقدار وإنما ولدت من رحم له ثقل أكبر من أن يتصوره الجاهل الذي لا يفقه ما يجري أمامه بحال من الأحوال، ومن الطبيعي فإن ما يصدر عن هذه المجموعة الخارجة عن الشرعية الإسلامية والإنسانية "والتي لا أحب أن أذكرها بالاسم وذلك تنزيهاً للمقال" لا يتعدى ما في التراث الإسلامي من أخطاء، ولكن هذا المعنى لا يعطي لأولئك الحق في أن يفعلوا ما بوسعهم من الأفعال الدنيئة. أما من يلقي بالعبء على عاتق الدين فعليه أن يعلم أن الله تعالى قد ميز الإنسان عن سائر المخلوقات، وكرمه بالعقل الذي يستطيع بواسطته التفريق بين الحق والباطل، ولهذا فإن من يعتمد على ما في الصحاح من حجج واهية ثم يجعلها حق من حقوقه فهذا عذر أقبح من فعل.
فإن قيل: بناءً على ما ذكرت يحق للإنسان أن يعرض عن الكتب الدينية دون أن يمسها بشيء؟ أقول: ليس هذا هو القصد، وإنما الدعوة إلى مثل هذا الأمر لا نجد من ينتصر لها، لأن هذه الكتب لا تخرج عن إشراف أصحاب الحل والعقد، وإن شئت فقل إن المساس بها يعتبر من الخطوط الحمراء التي لا يمكن الوصول إليها فضلاً عن اجتيازها، وقد يرجع هذا الأمر إلى تقارب ما هو مثبت فيها مع أفكار علماء الفتنة والجهل الذين هم السبب في جميع ما يحدث على الأرض، وذلك لاعتمادهم الروايات الباطلة والإسرائيليات البعيدة عن الحق المبين الذي لا غبار عليه، وأنا شخصياً قد بينت أخطاء أولئك القوم الذين يحسبون على جميع الطوائف، ولا تختص بهم فرقة دون أخرى حتى لا تنسب كتاباتي القرآنية إلى مذهب معين، لأني بصراحة لا أنتمي إلى جميع المذاهب من الناحية الفكرية على أقل تقدير، ولهذا كتبت مقالاً بعنوان.. أخطاء في كتب التفسير.. وكان المقال على سبعة أجزاء وذلك في عام 2007. وبينت فيه أخطاء التراث الإسلامي وما ينتج عنه في قادم الزمان، ثم أشرت إلى طرق علاج ذلك التراث أو تجنبه والأخذ بكتاب الله تعالى دون التقرب إلى موبقات الصحاح.
وبناءً على ما تقدم يمكن القول إن على الإنسان أن يميز الغث من السمين حتى يتوصل إلى الفهم الحقيقي من المقاصد القرآنية، ولكن أنى له ذلك بسبب تحريمه دراسة الفلسفة والمنطق أو كل ما يأخذ بيده إلى طرق المعرفة اليقينية، وهذا بطبيعة الحال يُعد من الأسباب التي تجعل بعض الناس يقرأ دون أن يعي ما يقرأه وبالتالي تراه يعزي ذلك إلى الكاتب أو المؤلف الذي يقرأ له، ولو تعمق هذا الإنسان في معرفة السبب سيجد أن الكاتب يتبع الطريقة العلمية والمنهجية في الطرح، ويأمل من القارئ أن يرتقي إلى مستوى ما يطرح لا أنه يتنزل إلى المستوى الذي يقف عنده بعض القرّاء، ثم إذا وجد القارئ نفسه غير قادر على التواصل مع أبحاث يعتقد بعدم فهم تفاصيلها فمن الأفضل أن يتجنبها، وكلنا قد نقع في هذا الأمر، فمن الأفضل أن لا نتطفل على غير ما نختص به، وليتبادر إلى أذهاننا أن فوق كل ذي علم عليم، فمجرد تعلم الإنسان القراءة والكتابة لا يجعل له حقاً بمعرفة وتحليل كل ما يمر به، فهناك أبحاث تحتاج إلى إلمام كامل بأصول الدين أو المنطق والفلسفة، فمتى تبحر الإنسان في هذه العلوم فهنا يحق له تمييز السقيم من الصحيح أو الخطأ من الصواب وكذا تحليل الجمل البلاغية وما يلحق بها.
من ذلك يتضح أن ما وجد في التراث الإسلامي المتمثل في السنة النبوية وما يتفرع منها على صحيح البخاري أو مسلم وكذا الكافي أو من لا يحضره الفقيه، فهذا لا يعطي الحق للمجرمين من أن يقوموا بالأفعال الوحشية، وفي نفس الوقت لا يعطي الحق لأعداء الدين من أن يعذروا أولئك الشرذمة المارقة عن دين الله، فالأمر يحتاج إلى دراسة وتحليل من أجل أن يصل الإنسان إلى المطلوب، فإذا كانت كتب الصحاح محفوظة بأياد خفية فمن المؤكد أن لا يصل أحد إليها من أجل تصحيحها أو تنقيحها. فإن قيل: ما العمل إذن هل نقف مكتوفي الأيدي أم نقوم بدعوات عرضية لا تجدي نفعاً؟ أقول: ليس الأمر كذلك بل الأفضل أن يدرس الإنسان ما في تلك الصحاح دراسة منهجية تقوم على المبادئ اليقينية والأسس الشرعية، وهذا لا يتأتى لمن يمر بتلك الصحاح مروراً عابراً، وإنما يجب أن يكون مسلحاً ببضاعة علمية على رأسها معرفته بأصول الدين أي علم الكلام وعلم العقيدة، وكذا يجب أن يكون على فهم أوليات المنطق على أقل تقدير بالإضافة إلى التعمق الواسع بالفلسفة، ومن هنا يظهر أن عدم الاعتماد على هذه العلوم هو الذي جعل الأمة تصل إلى هذا المستوى المتدني، وبالتالي لا نجد لها من الأمثلة إلا ما يشير إليه تعالى بقوله: (ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً صم بكم عمي فهم لا يعقلون) البقرة 171. واعلم أن المثل لا يشبههم بالناعق وإنما بالمنعوق به فتأمل.
ومن هنا أود أن أكرر "لأن في الإعادة إفادة" وأقول: إن القراءة والكتابة لا تفتح الطريق أمام الإنسان أو تجعل له القدرة على التمحيص وكشف الحقائق، أما إذا كان الاعتقاد خلاف ما بينا فهذا قد يجعل الأعذار تتناسب طردياً مع أفكار الفئة الضالة، وفي الآخر يكون لهم ما يؤيدهم في الاستمرار بنهجهم الباطل المتجسد في القتل والفساد في الأرض، وأنت خبير من أن القرآن الكريم قد نهى عن جميع أنواع القتل وبيّن ذلك بأتم بيان، كما في قوله تعالى: (ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً) النساء 93. وحتى لو كان القتل عن طريق الخطأ نجد أن القرآن الكريم قد بيّن الحلول المناسبة التي يجب اتخاذها إزاء هذا الفعل، ولذلك قال سبحانه: (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطئاً ومن قتل مؤمناً خطئاً فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا) النساء 92. ولهذا جعل الله تعالى لولي المقتول سلطاناً، كما هو مبيّن في قوله تعالى: (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل إنه كان منصوراً) الإسراء 33.
وبالإضافة إلى أنواع القتل التي ذكرناها نرى أن القرآن الكريم قد صرح بأعظم تلك الأنواع والذي لا يختص بالمؤمن أو الكافر باعتباره جريمة وحشية يجب الإشارة إليها، ومن هنا بين الكبرى بقوله: (واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين***لأن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين***إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين***فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين***فبعث الله غراباً يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه قال يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي فأصبح من النادمين***من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيراً منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون) المائدة 27-32.
هذا ما لدينا وللمفسرين في الآيات آراء:
الرأي الأول: قال الزمخشري في الكشاف: هما ابنا آدم لصلبه قابيل وهابيل، أوحى الله إلى آدم أن يزوّج كل واحد منهما توأمة الآخر، وكانت توأمة قابيل أجمل واسمها (إقليما) فحسد عليها أخاه وسخط. فقال لهما آدم: قربا قرباناً، فمن أيكما تقبل زوجّها، فقبل قربان هابيل بأن نزلت نار فأكلته فازداد قابيل حسداً وسخطاً وتوعده بالقتل. وقيل: هما رجلان من بني إسرائل (بالحق) تلاوة متلبسة بالحق والصحة. أو اتله نبأ متلبساً بالصدق موافقاً لما في كتب الأولين. أو بالغرض الصحيح وهو تقبيح الحسد، لأن المشركين وأهل الكتاب كلهم كانوا يحسدون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبغون عليه. أو اتل عليهم وأنت محق صادق. و (إذ قربا) نصب بالنبأ أي قصتهم وحديثهم في ذلك الوقت، ويجوز أن يكون بدلاً من النبأ، أي اتل عليهم النبأ نبأ ذلك الوقت، على تقدير حذف المضاف. والقربان: اسم ما يتقرب به إلى الله من نسيكة أو صدقة كما أن الحلوان اسم ما يحلّى أي: يعطى، يقال: قرّب صدقة وتقرّب بها لأن تقرّب مطاوع قرب، قال الأصمعي: تقرّبوا قرف القمع فيعدى بالباء حتى يكون بمعنى قرب.
ويضيف الزمخشري: فإن قلت: كيف كان قوله: (إنما يتقبل الله من المتقين) جواباً لقوله: (لأقتلنك)؟ قلت: لمّا كان الحسد لأخيه على تقبل قربانه هو الذي حمله على توعده بالقتل قال له: إنما أتيت من قبل نفسك لانسلاخها من لباس التقوى، لا من قبلي، فلم تقتلني؟ وما لك لا تعاتب نفسك ولا تحملها على تقوى الله التي هي السبب في القبول؟ فأجابه بكلام حكيم مختصر جامع لمعان. وفيه دليل على أن الله تعالى لا يقبل طاعة إلا من مؤمن متق، فما أنعاه على أكثر العاملين أعمالهم. وعن عامر بن عبد الله أنه بكى حين حضرته الوفاة فقيل له: ما يبكيك فقد كنت وكنت؟ قال إني أسمع الله يقول: (إنما يتقبل الله من المتقين) انتهى.
وما نسبه إلى قيل: من أن القصة تشير إلى رجلين من بني إسرائيل لا يتناسب مع أجواء القرآن الكريم وذلك للحديث عن آدم في كثير من مواضعه، فلو كان المقصود ما ذكره يجب أن تكون هناك قرينة صارفة. وهذا ينطبق على من ذهب إلى أن موسى الذي رافق العبد الصالح هو موسى آخر فتأمل ذلك بلطف.
الرأي الثاني: يقول الطوسي في التبيان: قوله: (لأقتلنك) معناه قال الذي لم يتقبل قربانه، و (قال إنما يتقبل الله) يعني الذي تقبل قربانه، وإنما حذف لدلالة الكلام عليه. وقيل في علامة القبول قولان: قال مجاهد: كانت النار تأكل المردود. وقال غيره: بل كانت العلامة في ذلك ناراً تأتي فتأكل المتقبل ولا تأكل المردود. وقال قوم: في الآية دلالة على أن طاعة الفاسق غير متقبلة لكنها تسقط عقاب تركها. وأما النافلة فيصل إليه ضرب من النفع بها، وتقبل الطاعة إيجاب الثواب عليها "وهذا الذي ذكروه غير صحيح" لأن قوله: (إنما يتقبل الله من المتقين) معناه إنما يستحق الثواب على الطاعات من يوقعها لكونها طاعة، فأما إذا فعلها لغير ذلك فإنه لا يستحق عليها ثواباً فإذا ثبت ذلك، فلا يمتنع أن تقع من الفاسق يوقعها على الوجه الذي يستحق عليها الثواب فيستحق الثواب، ولا تحابط عندنا بين ثوابه وما يستحق عليه العقاب، والاتقاء يكون لكل شيء يمتنع منه غير أنه لا يطلق اسم المتقين إلا على المتقين للمعاصي خاصة بضرب من العرف، لأنه أحق ما يجب أن يخاف منه، كما لا يطلق خالق إلا على الله "عز وجل" لأنه أحق بهذه الصفة من كل فاعل لأن جميع أفعاله تقع على تقدير وترتيب، وقوله: (إنما يتقبل الله من المتقين) يعني القرابين، إنما قوله تعالى: (لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين) يتقبلها الله من الذين يتقون معاصي الله خوف عقابه دون من لا يتقيها.
ويضيف الطوسي: في هذه الآية إخبار عن ولد آدم المقتول، وهو هابيل، أنه قال لأخيه حين هدده بالقتل لما تقبل قربانه ولم يتقبل قربان أخيه، فقال: (لئن بسطت إلي يدك) ومعناه لئن مددت إلي يدك. والبسط هو المد وهو ضد القبض (لتقتلني) معناه لأن تقتلني ما أنا باسط يدي إليك لأن أقتلك. انتهى.
ومن أراد ما تبقى من رأي الطوسي فليراجع تفسير التبيان.
مقالات اخرى للكاتب