في 3 أغسطس/آب عام 1492م، انطلقت سفن (كريستوفر كولومبس) الثلاث في المحيط الأطلسي بغية الدوران حول العالم بعد أن أقنع الملكين الإسبانيين (فرناندو) و(إيزابيلا) بنجاح مشروعه؛ ليصل يوم 10 أكتوبر/تشرين الأول من العام نفسه إلى جزر الأنتيل في أميركا، التي اعتبرها في البداية جزراً آسيوية قريبة من الهند، إلى أن صحح المعلومة فيما بعد البحار الفلورنسي (أميركو فسبوشي)، بإعلانه أن كولومبس إنما اكتشف عالماً جديداً.
في الأعوام التالية، كان ما حدث هو بالضبط ما سيحدث إذا ما جاء أي غزو فضائي يحترم نفسه إلى الأرض، تسلل تدريجي إلى الأرض البكر.. مستوطنات.. مشاحنات مع السكان الأصليين.. مشاحنات أكبر.. شعور المستوطنين بالاستعلاء على الأصليين.. التهاب الشعور الوطني لدى الأصليين.. وفي النهاية انتصار ساحق للبارود على الأسهم.
وعند هذه النقطة نتوقف مع حكاية التاريخ لنبدأ نحن حكايتنا.
يعرض الفيلم الهوليوودي الشهير أفاتار (Avatar) سيناريو مطابقاً لما حدث في الأميركتين مع تغييرات طفيفة للغاية، على سبيل المثال تم تبديل الأميركتين بكوكب آخر، وتم استبدال الماضي بالمستقبل، وتم تغيير الأجداد بالأحفاد، ولكن حتى سكان الكوكب الجديد كانت عاداتهم مشابهة لعادات سكان أميركا الأصليين إلى حد مريب.
يلعب الفيلم على نفس تيمة جميع الأفلام التي تحكي عن أيام الاكتشاف الأولى، البطل الرئيسي الطيب الشجاع الذي يُعَدُ أحد أفراد القوات المحتلة، والذي يرفض ما يفعله قادته، وبالتالي فإنه يطلب العون من أبطال طيبين آخرين من ضمن القوات المحتلة أيضاً؛ لأنه -بالطبع- واقع في الحب مع إحدى بنات السكان الأصليين، وهذا هو ما يدفعه إلى مساعدتهم.. ولمَّا كان المخرج غير مقيّد بتاريخٍ حقيقي في حالة هذا الفيلم، فقد أنهاه بنهاية سعيدة وغير منطقية بانتصار الأسهم على البارود، أعني انتصار شعب الأفاتار بقيادة البطل السابق على الأميركيين المحتلين.. حسناً، فلنلقِ نظرة على التحليل التالي للفيلم.
إذا أردنا تصنيف تلك النهاية، فسنعتبرها نهايةً قدرية حالمة، ذاك أن المنتصرين هنا لم يفعلوا شيئاً ذا بال إلا أنهم كانوا هم الأخيار.. فانتصروا!
أيضاً فإن هذا الفيلم مُصنف باعتباره مُثبِطاً للمستضعفين، فبالرغم من أن الفيلم ينتصر لأصحاب الحق، ويحمل مغزى رافضاً للعنصرية في طياته، فالأكثر منطقية -طبقاً لسيكولوجية الجماهير- في حالتنا تلك هو تشبع المحتل بالعنصرية حتى آخر أنفاسه!
كذلك فإنه يحتوي على رسالة أخطر، فأنتم أيها المستضعفون قد انتصرتم على الشاشات، وبتُّم تحلمون بالنصر.. فما الذي تبغونه أكثر من ذلك؟!
واقع الأمر أن ذاك التحليل السابق مُشبَّعٌ بالعنصريةِ المضادة، فهو يرى أن ذلك الفيلم يعزز لفكرة "محورية المحتل".
فكرة "محورية المُحتل" باختصار تتمثل في أن مركز الدائرة لدينا هو المحتل -الرجل الأبيض هنا- فهو الذي يقوم بجميع الكوارث المروعة المذكورة تاريخياً، كذلك فإنه هو الذي يغير كفة المعادلة إن صلح، وهو جالب النصر للضعفاء.. باختصار هو الأصل، فبإمكانه أن يصير شيطاناً، وبإمكانه أيضاً أن يصير ملاكاً مجنحاً!
واستكمالاً لسياق التنظير السابق، فإن صاحب وجهة النظر السابقة قد يرى أفلاماً أخرى مثل فيلم العائد -Revenant وفيلم چانجو بلا قيود - Django unchained ترسخ لنفس مفهوم "محورية المُحتل".
والأمر ليس أنني أرى ذاك المشبع بالعنصرية المضادة مجرماً على طول الخط، ولا حتى أراه مخطئاً متعمداً.. فالشخص لا يُولد هكذا عنصرياً بشكل فطري، وإنما هو فعلٌ نشط، ولكي تنتقل العنصرية من شخص إلى آخر تحتاج إلى قيِّمين عليها على مدى طويلٍ للغاية، وذلك حتى تنغرس في شخص ما.. أو أن تمارس ضد أحد، فتخلق منه شخصاً عُنصرياً بشكلٍ مضاد.
فإذا تجاوزنا التنظير السابق المُشبَّع بالعنصرية المضادة، سنجد أن مستهدَف تلك الأفلام بالأساس هو وقاية المُستقبِلين الأغرار من احتمالية تكوينهم لأي شكل من أشكال العنصرية المضادة في المستقل، والمعنِي هنا بكلمة الأغرار هم الأطفال بشكل رئيسي بالطبع.
ومنبع ذاك المستهدف ببساطة هو تصالح المُنتِجين مع فكرة كون أجدادهم عنصريين، أو بكلمات أخرى تقبُّلهم لتلك الحقيقة التاريخية، وسعيهم للتغلب عليها، أو ربما من الأصح هنا أن نقول سعيهم للتغلب على آثارها.
التقنية النفسية التي يتبعونها هنا بسيطة للغاية، فالمشاهد الغربي إن كان ذا أصول لاتينية، فهو سيرى نفسه في البطل الطيب في الفيلم، وسيكره أولئك المحتلين العنصريين، وإن كان من أصول أخرى فسيرى نفسه في البطل الفرعي، ذاك الذي لا يرفض البطل الرئيسي لمجرد كونه من جنس المحتلين، وإنما يكون تقبٌله له أو رفضه قائماً على أساس سلوكه، فيكون الناتج النهائي هنا هو أن أبناء الجاني، وأبناء المجني عليهم يعيشون معاً في شكل ما من أشكال التفاهم، هذا الشكل لن يكون مثالياً بكل تأكيد، ولكنه قد يكون إحدى أصح الصور التي يمكن الوصول لها في مجتمع قائم بالفعل، حتى وإن كانت قيامته تلك كانت على الدماء والأشلاء.
تقنية كتلك من المؤكد أنها تعمل باستراتيچية قطرات الماء المتساقطة، وليس بتقنية مضخة الماء ذات الضغط العالي بالطبع.
تبرز لدينا هنا معضلة قد تنسف الأطروحة السابقة بالكلية، فإذا كانت تلك المواد المرئية تستهدف الوقاية من العنصرية المضادة، فكيف برزت تلك الأطروحات المُشبَّعة بالعنصرية المضادة التي تنظِّر ضد تلك المواد؟!
الإجابة ببساطة مطلقة هو أن أولئك المُنظِّرين قد أخذوا جرعات وقائية من تلك المواد التي تستهدف العنصرية المضادة، فكانت النتيجة أنها أصبحت غير مؤثرة فيهم.
حسناً، إليك النموذج الآتي:
في العقد الأول من القرن الحالي بدأ الدكتور راغب السرجاني مجموعة من السلاسل التي تتحدث عن تاريخ المسلمين، كانت تلك السلاسل تنتج بشكل مسموع أولاً؛ حيث كان يلقيها كدروس علم في المسجد، ثم كان هو يقوم بتفريغها لاحقاً ويضيف عليها بعض الإضافات؛ لتصدر على هيئة كُتب في شكل مقروء، بعد أن تكون قد صدرت كمحتوى مسموع، على سبيل المثال فقد أنتج سلاسل: قصة الأندلس من الفتح إلى السقوط، وقصة الحروب الصليبية من البداية حتى عهد عماد الدين زنكي، وسلسلة فلسطين حتى لا تكون أندلساً أخرى، وهي المستوحى منها عنوان هذا المقال.
المشكلة هنا أن تلك السلاسل بالرغم من ثرائها بمحتوى تاريخي رائع، فإنها كانت تلعب على استثارة عدة محاور عاطفية مهمة: المحور الأول هو استثارة الأنفة والفخر والاعتزاز بالأمجاد الإسلامية، والمحور الثاني هو استثارة الكربلائية الدفينة في نفوس المستمعين، وتحفيزهم على ندب المجد الضائع، بالإضافة إلى أنها كانت تُوغِر صدور الحاضرين -بشكل لا واعٍ بالطبع- تجاه العالم الأول ككل، وذلك بسبب أن المحتوى المُقدَّم زرع فيهم أن التقدم في العالم بأسره -وفي العالم الغربي على وجه الخصوص- هو نتيجة قتله للمسلمين، وسرقته لمنجزاتهم.
اللعب على تلك المحاور العاطفية هو المتسبب الأول في إنتاج العنصرية المضادة، فتراكم تلك المنتجات يتسبب في إيجاد شخص لديه كرهٌ متأجج ضد من فعلوا تلك الكوارث تجاه المسلمين، والكره يحتاج إلى تنفيس، ولما كان الفاعلون الحقيقيون قد ماتوا، فلا بأس من توجيه هذا الكُرْه إلى أحفادهم، بالرغم من أن الأساس هو أنه "لا تزر وازرةٌ وزر أخرى".
عند تأصيل المشكلة نجد أن ما فعله د. راغب هو مجرد ناتج لما قرأه في كتب التاريخ وتشبع به، ذاك أن المؤرخين في السابق -وحتى الآن- نادراً ما كانوا يستطيعون الفصل بين مشاعرهم الشخصية وبين الأحداث القائمة، فكان التاريخ يُكتب مشبَّعاً بالكربلائية والبغض والبكاء، ثم تدور الدائرة، وينتقل ذاك الكره من جيل إلى جيل، ونسقط في فخ التراشق باتهامات جرائم الأجداد.
في الواقع فإن قطاعاً واسعاً من المجتمع الغربي يسعى لإيجاد حلول لعنصريته السابقة، مع وجود نسبة عظيمة من العنصريين بداخله بديل فوز (دونالد ترامب) ومن قبله (جورج بوش) فلا مناص من العنصرية المُورَّثة للأسف، ذاك أن التخلص من العنصرية لا يكون بتلك السهولة، فهو كما قلنا يتبع استراتيجية قطرات الماء المتساقطة، ولكن تلك النسبة لا تُخفي النسبة التي تعمل على تجاوز آثار عنصرية أجدادها، عن طريق منتجات ثقافية مثل الأفلام المذكورة آنفاً، فهي تسيطر على نسبة كبيرة في القطاع الإعلامي، مما يجعلها صاحبة صوتٍ عالٍ، ومما يفسر كذلك استطلاعات الرأي التي كانت تشير لتقدم هيلاري كلينتون في انتخابات الرئاسة الأميركية.
وبالرغم من تقدم ترامب، فإنه وفي نفس القارة، وتحديداً في الدولة التي تقع شمالها (كندا)، يوجد رئيس وزراء ينتمي للقطاع الذي يحاول التغلب على العنصرية، وبالتالي فالصراع سجال، ولكن للأسف يجب القول بأن المعسكر العنصري يحقق مكاسب أعلى حالياً، بسبب استغلالهم للوضع المشتعل في العالم الإسلامي بشكل يخلق حالة عنصرية جديدة لدى تلك الشعوب -وضعاً في الاعتبار عنصريتهم في الأساس موجهة تجاه كل ما هو غير أبيض، ولكن تظل ورقتهم الرابحة دائماً في اللعب ضد المسلمين- وبالتأكيد فإن تلك العنصرية ستكون مقاومة للمواد الإعلامية المقدمة للوقاية من العنصرية المضادة، مما يؤدي لاستمرار الدائرة القميئة.
على الجانب الآخر وفي مجتمعنا الشرقي، فإن ذلك القطاع الساعي لإسقاط العنصرية شبه غير موجود، وبالتالي فإنه تقريباً لا توجد محاولات للتخلص من عنصريتنا المضادة، فنجد أنفسنا قد سقطنا في دومة التراشق بالتاريخ، وتكون آثار تلك العنصرية المضادة كارثية للغاية، وما داعش عنا ببعيد، فخطابهم ككل قائم على ردود الفعل العنصرية المضادة، ومع اعترافنا الكامل بالكوارث التي يُحدثها الغرب في بلادنا بوجهه الذي لم يتخلص من عنصريته بعد، فليس لدينا خطاب إعلامي قوي يُدين تلك الكوارث ويطارده بها.. كذلك فإن الدواعش لا يستطيعون نسيان ما تشبَّعوا به من عنصرية تاريخية مضادة، فتكون ردود فعلهم موجهة إلى أماكن وأشخاص لا علاقة لهم بالكوارث الحالية، ذاك أنهم بالأساس ينظِّرون لأفعالهم الانتقامية تلك من منظور تاريخي.
وباستعراض سريع لواقعنا السياسي بعد الربيع العربي، نجد أننا قد سقطنا في ذات الدوامة، يخطئُ أحدهم فيُعيِّره الآخر بخطئه.. ويخطئ الآخر فيُعيَّر كذلك، وتستمر تلك الدوامة من التعيير والتعيير المضاد، من أولئك الذين كانوا رفقاء ثورة في يومٍ من الأيام، ويورِّث القادة أخطاءَهم لأتباعهم، فتستمر سلسلة العنصريات القائمة بذاتها، والعنصريات المضادة الأخرى في مقابلها، وفي أثناء التراشق بأخطاء الماضي، يضيع الوطن!
فإنها صيحةُ مخلص أن حطِّموا تلك الدائرة المفرغة، حطموها من أجل أبنائكم، حطموها حتى نتجاوز تلك الفجوة الزمنية التي وقعنا فيها.. وحتى لا تكون أفاتاراً كربلائيةً أخرى! تلك الأفاتار ستكون نهايتها واقعيةً بائسةً هذه المرة، وليست حالمة كما شاهدناها سابقاً.
مقالات اخرى للكاتب