لعل ما يٌثبت أن التكوين الديني الذي اختارته نتائج مؤتمر لندن في عام 1907 أن يظل عمقه سياسي وغلافه الخارجي ديني إسلامي ، لعدة أسباب ، في مقدمتها لأن مجتمعات المنطقة العربية عاطفية المزاج ، مرتبطة بشكل تأريخي بدينها الإسلامي وإن كان بتفاوت معلوم لكل منطقة حسب الأجواء والثقافة السائدة ، ولكن المحتوى العام ظل إسلامياً بالولادة ، وعلى هذا الأساس لابد من استهداف المحتوى ، والإبقاء على الغلاف الخارجي ، لأنه سيخدم المشروع بشكل كبير ، فهو سيصل لقلوب الناس بشكل أسرع ، ولن يكون مرفوضاً ابتداء ، لأنه يتناغم مع توجهاتهم الدينية بالأساس ، وحينما يسقط المجتمع في دائرة التقوقع الطائفي يبدأ المشروع بالنجاح ، لحين انتقاله للمرحلة الثانية ، وهي تهديم الدين وإدخال أليه البدع والاجتهادات الغريبة ، ولكن ذلك الأمر لا يمكن تطبيقه إلا من خلال إيجاد رجال دين يصبح لهم تأريخ وأسماء لامعة ومعروفة يثق بهم المجتمع ويأتمر بفتاويهم وقراراتهم ، كي تصبح ملزمة ومؤكدة التطبيق ، وهذا ما حصل فعلاً على مستوى القطبين في جوف الإسلام بضع مئات من السنين لا أكثر ، فقام عبد العزيز أل سعود ألذي دعمه البريطانيين ، في طرد أل رشيد حكام نجد والحجاز الأصليين ، وتقتيلهم وسبيهم حتى اضطروا إلى الهرب إلى سواحل الخليج وشماله ومن ثم الانتقال إلى شمال العراق وسوريا ، مما أتاح له أن يؤسس مملكته التي أسماها ( السعودية ) وأختار لها رجال دين بإتقان يتعهدون بنشر الفكر الوهابي التكفيري وترسيخه بالمجتمع العربي ، والتصدي لحركة زعامة الأزهر في مصر التي تعمل بالوسطية الدينية ، نتيجة لموروثها الديني التقليدي منذ تأسيسها في زمن الدولة الفاطمية .
ومن جانب آخر مواجهة الفكر الشيعي القادم من المشرق بالتعاون مع تهيئة زعامات شيعية تحت سلطة سياسية فارسية ، ستتمكن لاحقاً من احتلال الحوزة الدينية التقليدية بالنجف ، وتبعد عنها كلما هو عربي أو ينتمي للعروبة فكراً أو منهجاً .
أختار عبد العزيز أل سعود قاضي القضاة لمملكته ( أعمى ) وهو الشيخ محمد بن إبراهيم أل شيخ ، وقد أحتل منصب قاضي قضاة المملكة في سنة 1931 ثم أصبح مفتي المملكة منذ عام 1948 حتى وفاته سنة 1969 ، وقد تعاقب على هذا المنصب خلفاً له ولمن بعده رجال دين لابد أن يكونوا ( عميان ) لا يبصرون وهم كما يلي :
الشيخ عبد الله بن حميد ( أعمى ) عضو هيئة كبار العلماء ورئيس المجلس الأعلى للقضاء ، وقد توفي سنة 1983 .
الشيخ عبد العزيز بن باز ( أعمى ) رئيس هيئة كبار العلماء والمفتي الأكبر حتى وفاته عام 2000 .
الشيخ عبد العزيز أل شيخ ( أعمى ) المفتي الأكبر حالياً .
وقد يسأل سائل ما الهدف من التمسك بشرط أن يكون المفتي أعمى ؟؟ الجواب كما هي الحقيقة ، ما بين عامي 1884- 1921 كان مفتي المملكة هو ( الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف أل شيخ ،
الذي كان يمثل المرجع الأعلى للفكر الوهابي ، والذي كان يتدخل بالصغيرة والكبيرة بقضايا الحكم ، وتلك التدخلات أنتجت تقاطعات عديدة في تطبيق الأوامر التي تصل لحاكم المملكة من أسياده البريطانيين ، والذي اتجهوا في مرحلة لاحقة إلى تثبيت إعطاء الأمر بإدخال المعتقدات الماسونية بالفكر الوهابي كي تصبح ثوابت جازمة ، وكان المفتي عبد اللطيف يعترض على كيفية مزج تلك الأفكار الغريبة على المنهج الإسلامي بشكل سلس حيث أنه كان يتمتع بشخصية قوية ، ولديه حضور لافت ، تمكن من خلاله من فرض شخصية لتطغي على شخصية الملك نفسه ، وهذا الأمر خلق الرهبة والخوف من شخصية المفتي ، وكان الملك ينتظر الفرصة كي ينقض عليه بطريقة لا تلفت الأنظار أليه ، وحينما توفي هذا المفتي أقترح البريطانيين على عميلهم عبد العزيز أن يختار مفتي لا يبصر حتى يكون بحاجة دائمة لمن يقدم له العون والمساعدة ، وبذلك تكون شخصيته هشة ولديها النقص الدائم ، ويصبح طيعاً في تنفيذ الأوامر السياسية ، وفعلاً ، فقد أختار الملك في حينها مفتي جديد فأختار بهدوء من وسط العلماء ومنظري الوهابية الكبار رجل دين شاب ( أعمى ) لم يتجاوز عمره آنذاك السابعة والعشرون سنة وهو الشيخ ( محمد بن إبراهيم أل شيخ ) وسط دهشة العلماء ، وقد برر الملك بهذا الاختيار قائلاً : إن الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف المرجع الأول أوصاني خيراً بهذا الشاب الذي سيصبح نابغة عصره ( وهذه كذبة أراد بها تمرير الأمر البريطاني ، ألذي تحول إلى تقليد ثابت لغاية اليوم .( وهذا مذكور في كتاب خصائص المجتمع الوهابي السعودي – بحث سوسيولوجي – أنتربولوجي للدكتور أنور عبد الله .
فيما تعهد الطرف الآخر من الطائفة الإسلامية من إنشاء مؤسسة دينية قوية تنتج للشيعة رجالات دين من أصول غير عربية ، يتقدمهم رجال الدين من أصول فارسية ، والقائمة تطول نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر :
المسمى ( سلطان الواعظين ) السيد محمد الموسوي الشيرازي ، ومحمد باقر الشيرازي.
والسيد حسن الشيرازي ، ومحمد رضا الشيرازي .
واللذين أسسوا المدرسة الشيرازية القائمة إلى اليوم ، والتي تميزت هذه المدرسة كونها الجناح المتشدد والمتطرف بالفكر الشيعي عامة ، والتي أنتجت للمكتبة الشيعية عشرات الكتب والمنشورات التي تعتمد بمحتواها ومضامينها فكر التصدي المنهجي للطرف الآخر ، من خلال إطلاق قصص وروايات تعتمد على بعض من البدع والخيال ، ويأتي في مقدمتها اشتراط ( لعن الصحابة ) وترسيخ قصة كسر ضلع السيدة الزهراء ( ع ) وتأليف القصة الشهيرة عن حرق بيتها بعدما كسر ضلعها أثناء تواجد الأمام علي ( ع ) داخل البيت ، ومن يتفحص نص الرواية وضعف أركانها الواضحة يجد إن الإساءة بالأساس موجهة لشخص الأمام علي أكثر مما هي موجهة للخليفة عمر الذي تبرزه كونه معتدي على بضعة الرسول الأكرم ( ص ) والذي تطورت هذه المدرسة لتنتج للمجتمع غلاة بالفكر الشيعي بشكل لا يوصف ، يقابل ذلك غلاة مجرمين تنتجهم المدرسة الوهابية التكفيرية .
وقد برزت أسماء علماء ومراجع للشيعة من أصول غير عربية مثل : أبو القاسم الخوئي ، السيد كاظم الحسيني الحائري ، ومحمد علي الحكيم ، والشيخ علي الغروي ، والسيد أبو الحسن
الأصفهاني ، والسيد محمد حسين الطبطبائي ، والشيخ باقر الإيرواني ، وعبد الأعلى السبزواري ، وجميعهم كان له دوراً في مرجعية النجف .
وبعد تصفية الساحة الدينية في النجف من المرجعيات العربية البارزة أمثال السيد محمد باقر الصدر ، والسيد محمد محمد صادق الصدر ، الوجهين العربيين البارزين كفقهاء ومجتهدين قد تصدوا للمد الفارسي والأجنبي في قيادة وزعامة حوزة النجف ، بقي من فقاء الشيعة العرب الغير مؤثرين والغير بارزين بشكل ملفت لعامة الناس ، أمثال الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، والسيد حسن بحر العلوم وما جاء من خلفه من أولاده وأحفاده ، والشيخ حسين الحلي ،والشيخ أبو الحسن حميد الغريفي وآخرين .
مما دعى إلى إبقاء مرجعيات لا تزال موجودة إلى يومنا الحاضر وجميعهم ليسوا عرب ، أمثال الشيخ إسحاق الفياض ، والشيخ بشير النجفي ، والسيد محمد سعيد الحكيم ، وقد بقي هؤلاء ضمن حدود معينة ومحددة سلفاً كمراجع يقفون خلف الرمز الأساسي الذي اختارته أيدي غامضة ، قد توافقت وأتفقت بأن تخلوا الساحة الدينية بالنجف ، ومن خلال الأعلام ليظل الأبرز وضوحاً في إصدار الفتاوى وهو السيد علي السيستاني ، المنحدر من مدينة سستان في إيران المميزة بكثرة سكانها من يهود إيران .
أحتل السيستاني منصة الحوزة من دون أتفاق ما بين المراجع ، كما تجري العادة طيلة عقود من الزمن أن يصبح زعيم الحوزة الدينية مجتهد يعلن أعلميته لباقي المرجعيات من خلال مناظرة حوزيه صارمة يحضرها رجالات الفكر والتدبير والاجتهاد والعارفين من المعروفين بأوساط الحوزة النجفية ، الأمر أختلف تماماً هذه المرة ، وأصبح الأعلام الذي دعمته قوات الاحتلال الأمريكي للعراق سنة 2003 يتجاهل عمداً كافة المرجعيات والكفاءات الدينية ، ويتم التركيز على اعتبار السيد علي السيستاني هو المرجع الوحيد المالك لقرار الفتوى الملزمة للبلاد ، وقد لاحظ الجميع ، كيف كان يحج الأمريكان تحت عنوان ممثلين للجمعية العامة للأمم المتحدة ، أو باسم بعض المنظمات الدولية الإنسانية للاجتماع بالسيستاني بشكل متواصل ، ومن بعدهم السياسيين الجدد اللذين قدموا مع القوات المحتلة على مختلف قومياتهم وطوائفهم ، مما جعل الأنظار الشعبية وخاصة من البسطاء في وسط وجنوب العراق ، الذي يحتوي على الغالبية البشرية بسماع ما يصدر عن مكتب السيستاني لأنه أصبح المرجع الوحيد والزعيم الديني المنفرد بالتصرف بمقدرات البلاد والعباد ، وقد كتب الحاكم المدني للعراق بول بريمر في مذكراته التي أوردها بكتاب أخذ الانتشار الواسع عن امتنانه لشخصية السيستاني في قوة التعاون مع قوات الاحتلال ، وتذليل الصعوبات التي واجهت قواته في داخل المدن العراقية .
وفي أول انتخابات عراقية برلمانية حصلت ، كان للسيستاني موقفاً واضحاً في توجيه المجتمع لانتخاب من يريدهم هو ومن يخدمون مصالح المشروع الأمريكي البريطاني الصهيوني بالعراق ، واللذين أسسوا لأنفسهم بعد ذلك إقطاعيات سياسية ومالية كبيرة جداً أسست تلك الإقطاعيات لفساد مالي وإداري لم يحصل له مثيل عبر التأريخ وفي أي دولة ، كانت ولا تزال سبباً مباشراً لهدم بنية الدول العراقية برمتها .
المعضلة في العراق حالياً أنه قد سقط بفخ المؤامرة التي أحيكت له ولغيره من البلدان العربية الأخرى ، ولكن سقوط العراق كان سريعاً وعنيفاً ، بسبب حجم القوة العسكرية والأمنية التي
سلطت عليه ، بعد حصار ظالم طال أكثر من ثلاثة عشر سنة ، ولكونه يمثل أحد أركان الأمة الأساسية الثلاثة ، العراق ومصر وسوريا ، وما جرى بعد ذلك في سوريا ، هو تكملة لحلقة أخرى من مسلسل التدمير ، والآن المشروع وصل إلى مصر ، وقد بدأته كذلك وتصدت لأجل استكمال المشروع في أرض مصر ، هي جماعة إسلامية تسمي نفسها ( الأخوان المسلمين ) فليس مصادفة أن تكون جميع أسباب خراب الأمة ، قد أنتجت أسباب ووقفت خلفها جهات دينية أو تدعي بالدين ، الأمر مؤكد والأيام قد أثبتت ذلك ، وكل من يرجع لتأريخ البطانات الدينية من مختلف المشارب والطوائف ، فسيجدها تلتقي عند مخرج واحد لا يوجد له مخرجاً آخر هو مشروع مرتب ومعد بشكل استخباراتي محكم .
الأمة وأبنائها بحاجة ماسة لمراجعة التأريخ بعيون حرفية ، وليس بعواطف أكل الدهر عليها وشرب ، لأن قول الحقيقة من دون خوف أو مجاملة ، أو انتماء لطائفة ما سيكون هو بداية إنارة الطريق للأجيال ،والتردد في ذلك سيضيع ما تبقى من فرصة الأمل في العودة لبناء الأمة ، يجب أن يتنبه الجميع إلى الملهاة التي صنعتها الأيدي القذرة في جعل أوطاننا ساحة للصراع ، وخسارة ألأموال وجريان أنهار الدم.
مقالات اخرى للكاتب