في ندوة حضرها عراقيون وأجانب بينهم كاتب هذه السطور عقدت حديثاً في أوروبا، ظل بعض المشاركين من ممثلي أهل الحكم العراقي يبرر سبب العجز عن حل المشاكل المستمرة في العراق «الجديد» بأنه ورثها عن نظام البعث السابق، وبالتالي فان عواقبه لا يجوز أن يتحملها النظام الحالي. لكن مشاركاً في الندوة تدخل في نهاية الأمر ليوضح للعراقيين بأن هذا المنطق غير مقبول في الأنظمة الديموقراطية، سواء أكانت رئاسية أم برلمانية، ويتم فيها تداول السلطة سلماً. وهذا ما يحدث حتى الآن في العراق الجديد أيضاً في ظل دستوره الضامن لإجراء انتخابات منتظمة مرة كل أربع سنوات، وقد شهد منذ 2005 ثلاث حكومات ورئيسين للوزراء. ففي الولايات المتحدة مثلاً، والكلام للباحث نفسه، لا يجوز لإدارة جديدة أن تبرر مشاكل تواجهها بأنها ورثتها عن الإدارة السابقة إلا في السنتين الأوليين بعد وصولها إلى البيت الأبيض. وطبعاً لا يختلف هذا التقليد في أي نظام ديموقراطي آخر في الغرب، إذ تصبح مواجهة المشاكل كلها، بعد مرور فترة محدودة توصف عادة بأنها شهر عسل بين الحكم الجديد والناخبين، مسؤولية الحكومة المنتخبة بالكامل، وأي تبرير لعجزها عن الحل بذريعة أنها إرث الحكومة السابقة تُسجل نقطة ضعف مدعاة للانتقاد والسخرية.
طبعاً لا يمكن التقليل من شأن الإرث الثقيل الذي تركه النظام البعثي السابق، الذي استمر 35 سنة منها 24 سنة بزعامة صدام حسين، إن على صعيد السياسة الداخلية أو الاقتصاد أو العلاقات الإقليمية والدولية، الأمر الذي أدى إلى أوضاع كارثية معروفة عانى منها العراق ومؤكد أن عواقبها الوخيمة ما زالت ملموسة. إلى ذلك ليس إنصافاً تشبيه النظام البرلماني العراقي الجديد بنظرائه في الغرب، فالأول عمره قصير والثاني أعمارها تراوح بين عشرات العقود ومئات السنين. لكن ما سلف لا يعطي أهل الحكم الجدد في العراق ذريعة تبرير فشلهم وعجزهم عن إخراجه من أزماته المتتالية ورفعه من المستوى المتدني إلى حد الكارثة لقطاع الخدمات الأساسية للسكان، على رغم العائدات الضخمة للنفط التي توفر للبلد موازنة غير مسبوقة في تاريخه بلغت أكثر من 118 بليون دولار للسنة المالية الجارية.
مضت 10 سنوات على إطاحة نظام صدام حسين و8 سنوات على إجراء أول انتخابات تعددية حرة وفقاً للدستور الذي أقر في 2005 في استفتاء شعبي وتشكيل أول حكومة منبثقة من الانتخابات رأسها إبراهيم الجعفري، أعقبه قبل نحو 7 سنوات نوري المالكي الذي ما زال رئيساً للوزراء. لكن في هذا المقال لن أتطرق إلى الوضع المنهار للعملية السياسية التي تتزايد وتيرة انهيارها بصورة مخيفة منذ عام على الأقل، ومن أفدح مظاهره الصراعات المتفاقمة بين المكونات الشيعية والسنية من جهة وبين إقليم كردستان والحكومة المركزية التي يهيمن عليها الشيعة من جهة أخرى، ناهيك عن تهميش، كي لا يُقال قمع واضطهاد، المسيحيين وجماعات اتنية ودينية أخرى لم يجد أبناؤها وسيلة لحماية أنفسهم سوى بالفرار إلى دول مجاورة وإلى إقليم كردستان حيث وجدوا ملاذاً آمناً وأماناً بين أهله. إلى ذلك أدخل سلوك النخبة الحاكمة العراق في مآزق لا تحصى مع جميع الدول المجاورة باستثناء الحليف الإيراني الذي هُيئت له سبل التدخل والتوغل عميقاً في الشأن الداخلي وفقاً لمصالحه الخاصة. وينطبق الأمر ذاته على دول جوار أخرى اهتماماً بمصالحها لا بمصالح العراقيين.
لكن لنترك الحديث عما سلف إلى مناسبة أخرى ونتحدث بدلاً من ذلك عن حال العراقيين على مستوى الخدمات والهموم المعيشية العادية التي تحولت كلها إلى مآس يعيشها العراقي يومياً. خلال العقد الماضي دخلت إلى موازنة العراق مئات البلايين من الدولارات كان يمكن في حال إنفاقها بشفافية ونزاهة على المشاريع أن توفر النسبة العظمى من الخدمات الأساسية للسكان. أما واقع الحال فأن هذه الخدمات ما زالت أقرب إلى الصفر. السبب بكلمة واحدة: الفساد وسوء الإدارة، ودائماً وضع الرجل غير المناسب في المكان غير المناسب لاعتبارات تتعلق بالانتماءات الحزبية والطائفية والمحسوبية، وبعبارة أخرى بكل ما ليس له علاقة بالكفاءة والخبرة والتخصص. ولا عجب في أن العراق يحتل أسفل قائمة الدول الأكثر فساداً في العالم، وهو مرشح لأن يوصف رسمياً بأنه دولة فاشلة.
هنا وصف مؤلم لحال الفساد في العراق عبر مثال إحدى الوزارات لعله ينطبق على غالبية الوزارات والمؤسسات الأخرى. رجل أعمال أميركي قال إنه يتعامل مع إحدى الوزارات التي يعتقد أن 10 في المئة فقط من العاملين فيها مرتشون، «أما الـ 90 في المئة الآخرون فيعرفون أنهم سيكونون مستهدفين ويتعرضون للتحقيق، لذلك فالأسلم لهم أن يسكتوا ويتسلموا رواتبهم من دون أن يفعلوا شيئاً. هذه الوزارة عملياً مصابة بالشلل». كلام رجل الأعمال الأميركي هذا نقله في تقرير نشر الشهر الماضي لباتريك كوبورن المراسل المخضرم لصحيفة «انديبندينت» البريطانية الذي يعرف العراق جيداً، وقد زاره عشرات المرات على مدى ربع قرن لتغطية التطورات والأحداث فيه، وله كتب ومقالات لا تحصى عن أوضاعه وأحواله وأهواله.
أعود للاقتباس من باتريك كوبورن الذي ختم تقريره المنشور قبل أسبوع بأن الجواب البسيط الذي يسمعه من المسؤولين العراقيين عن سبب الفساد هو أن العقوبات الدولية دمرت المجتمع في التسعينات، ثم جاء الأميركيون في 2003 ليدمروا الدولة. أما الواقع، بحسب كوبورن، فهو أن الولاءات القائمة على أساس الحزب والعائلة والجماعة هي التي تقرر من يحصل على وظيفة. ويضيف أن هناك رابحين وخاسرين وكل شيء يعتمد على أسعار النفط وبقائها مرتفعة. وينقل كوبرن عن وزير سابق قوله: «مرة واحدة فقط شهدت حالة ذعر في مجلس الوزراء وذلك عندما حدث انخفاض حاد في أسعار النفط»!
ونسأل مجدداً: هل عراق «البعث» القديم مسؤول عن فشل العراق الجديد؟
مقالات اخرى للكاتب