حينما يرغب المرء بالسفر الى بلد معين وزيارة معالمه الحضارية، ويرغب المسافر/ الزائر، في أن يتعرف على مدى تطور المجتمع ونظامه السياسي الديمقراطي، ينبغي عليه أولا زيارة مكتباته العامة، والخاصة التي تعرض للبيع المؤلفات بشتى علومها، وإذا عثر على كل مايريد السؤال عنه، من الكتب الأدبية والاجتماعية والعلمية وبالأخص الدينية منها، بكل مدارسها وتياراتها وتفاصيل متناقضاتها، يمكن له ان يقول لنفسه انه في بلد ديمقراطي متحضر.
لم يكن سوق الوراقين المعني بـ(أصحاب المكتبات) والذي يضم المخطوطات والكتب القديمة والنادرة، المعروضة للبيع، واقعا في شارع (درب زاخا) أي في (شارع المتنبي حاليا) من جانب الرصافة، أيام العهد العباسي، بل كان في منطقة الكرخ القديمة، وقد عرف (شارع المتنبي) في القرن الأخير من عهد الدولة العثمانية، ببيع المخطوطات والكتب، كونه قريباً من شؤون (سرايا الدولة العثمانية) وسمي بشارع المتنبي العام 1932م في السنة ماقبل الأخيرة من حياة الملك فيصل الاول، بحسب ما أشار اليه بائع الكتب نعيم الشطري (70) عاما مؤسس مكتبة (الشطري) بعد أيام من اندلاع ثورة تموز العام 1958م.
مزاد للكتب
يعد نعيم الشطري، أول من قام بفتح مزاد لبيع الكتب، أواخر ثمانينات القرن الماضي، يقام صباح الجمعة من كل أسبوع، وحدث المزاد، كان وقعه مؤثراً سلبا في نفوس العديد من الأدباء والكتاب، ودار حوله جدل ولغط كبيران، إذ من غير المعقول أن يباع العلم والأدب بهده الطريقة البخسة وغير اللائقة، حيث يقوم صاحب المزاد، الشطري، بمسك الكتاب المراد بيعه ويرفعه بيده للأعلى، ويعلن عن تفاصيله المتعلقة بلون ورقه وعدد صفحاته وعنوانه واسم مؤلفه، ثم يوجز بحديثه عن الموضوعة التي يتحدث بها الكتاب.
وقوبل مزاد الشطري بانتقادات لادعة، واعتراض على بيع الكتب على الرصيف، وبهذه الطريقة الرخيصة، فيما علق لسان الآخرين من المبدعين، على ان هذا الأسلوب يعد حضاريا، ومن خلاله يتاح التعرف على محتوى الكتاب لكل زائري شارع المتنبي حتى ان لم يبادروا الى شرائه، وتمثل طريقة أفضل من وضعه على رف خزانة العرض عند صاحب المكتبة واصحاب هذا الرأي هم ممن شجع نعيم الشطري وحفزه على تبنيه لهذه الفكرة، وكان من بينهم العلامة حسين علي محفوظ والمحقق جلال الحنفي والباحث عادل العرداوي على حد تعبير الشطري.
كتب ممنوعة
لقد حظى مزاد الكتب في كل صباحات العطلة الأسبوعية، باقبال كبير من قبل المتابعين والمهتمين والقراء، وراج بيع كتب علم الاجتماع والفلسفة والأدب، المعروفة عناوينها ومؤلفيها مثل، كتب عالم الأجتماع د. علي الوردي، والكاتب الأميركي والمؤرخ المعروف (ويل ديورانت) الذي تتحدث كتبه عن قصة الحضارة ومباهج الفلسفة، والعديد من المؤلفات المعنية بهذا اللون من الأدب ولكن على نطاق ضيق، كون النظام المباد، قد فرض حظراً على العديد من المؤلفات من هذا النوع، وأيضا فرض حظراً وحصارا تامين على بيع وتداول بعض الكتب الدينية التي تخص طائفة مستهدفة، فيما ساهم بانتشار الكتب الدينية الاخرى، ودعمها بأسعار مقبولة، في محاولة للحث على قراءتها، وكانت متداولة اكثر من غيرها في مكتبات شارع المتنبي واستمر المزاد لسنوات عديدة.
ويختم الشطري حديثه: اليوم أصبح العراق، يكتب ويطبع ويقرأ.
اقدم بائع كتب
أحمد حسين (85) عاما ويكنى بابي علي، بائع كتب مستعملة منذ خمسينات القرن الماضي، كان يبيع الكتب على ناصية رصيف شارع السعدون ثم انتقل الى أحد أرصفة شارع الرشيد، يقول أبو علي: كانت الكتب المستعملة، تأتي بكميات كبيرة من لبنان، محملة في خزانة حافلات نقل المسافرين اللبنانيين القادمين الى العراق، وبعد نزول المسافرين في محطتهم الأخيرة في علاوي الحلة، تفرغ حمولتها من الكتب والمجلات، ويهرع اليها العديد من باعة الكتب يجرون عرباتهم، للتنافس على شراء كمية منها، كونها تباع بأسعار زهيدة جدا، وكانت تحتوي على الكتب الروائية العربية والغربية المترجمة وكميات أخرى من المجلات النسائية والطبية.
وأضاف أبو علي: كان الاقبال كبيرا على الكتب الروائية، ومعدل سعر بيعها يتراوح بين (10 الى 50) فلساً، في أفضل حالاتها على حد قوله.
أتخذ أبو علي اخيرا مساحة من الأرض لا يتجاوز طولها مترين داخل سوق (السراي) يفترش عدداً من الكتب المستعملة، من المؤلفات والأبحاث المترجمة والمجلات القديمة الطبعة، وبضاعة ابي علي المقروءة، بالتأكيد فيها الغث والسمين، وحالما يضع المشتري يده على كتاب أو مخطوطة مترجمة أو مجلة معينة، وقبل أن يسأله عن الثمن، يعبر أبو علي عن الرضا بما قسم له، ويبادر باجابته العفوية: بكيفك.!
باسم غفوري