ربما، ان من اهم ما انجزته الدولة العراقية الجديدة، هو تنظيمها العلاقة بين عراق ما بعد الطاغية الذليل صدام حسين، والولايات المتحدة الاميركية، في اطار ما يعرف باتفاقية الاطار الاستراتيجية، والتي نظمت العلاقة الاستراتيجية والشراكة طويلة الامد بين بغداد وواشنطن على اسس واضحة وثابتة تعتمد مبدا الاحترام المتبادل بين البلدين، بما يحقق مصالحهما المشتركة كدولتين صديقتين.
ولقد انتظر العراقيون كثيرا لحد الان من دون ان يلمسوا نتائج هذا الاتفاق الذي نص على دعم العراق كدولة ذات سيادة على مختلف الاصعدة، التعليمية والبيئية والتكنلوجية والامنية والعسكرية والنفط والاقتصاد والتجارة والطاقة وفي كل المجالات، ليتبين لهم، فيما بعد، بان واشنطن ركنت الاتفاقية على الرف ولم تعد تعمل بها الا بالنزر اليسير، بما يحقق مبدا (اسقاط الواجب) ازاء اتفاقية موقعة بالفعل ربما لا يسمح القانون الاميركي بالغائها او تجميدها بالكامل، فلماذا ركنت واشنطن هذه الاتفاقية الحيوية بالنسبة للعراق على الرف؟ لماذا لم يتم تفعيلها على الرغم من الزيارات المتكررة التي قام بها رئيس الحكومة العراقية وعدد من الوفود التي مثلته شخصيا الى واشنطن والبحث في آليات تفعيل الاتفاقية؟.
لا شك ان هناك عدة اسباب لذلك، والذي تسبب في خسارة العراق الكثير من فرص الاستثمار واعادة البناء والتنمية والتطور، على اعتبار ان مصلحة العراق الجديد تكمن في تفعيل الاتفاقية حصرا، وان اي خلل في تنفيذها سيدفع بالعراق الى المجهول على صعيد التنمية، لما لتجارب الدول والشعوب مع مثل هذه الاتفاقيات التي وقعتها مع الولايات المتحدة الاميركية من مصداقية عالية، كما هو حال اليابان والمانيا وعدد من الدول الاسيوية وكوريا وعدد من دول العالم الثالث، منها عدد من دول الخليج وغيرها الكثير.
من هذا المنطلق اعتقد ان على العراقيين التفكير جديا في الاسباب التي دعت الولايات المتحدة الى ان تبادر الى ركن الاتفاقية على الرف، لان في احيائها واعادة تنشيطها وتفعيلها مصلحة كبيرة لهم.
وبرايي، فان هناك اسباب كثيرة لهذا الموقف الاميركي، ساحاول ان احصرها في عدة نقاط على سبيل خلق نوع من الاثارات التي اتمنى على كل العراقيين، وبالاخص اصحاب الشان ومصادر القرار والمعنيين بشكل مباشر، ان تحفزهم للتفكير الجدي بالموضوع من اجل ازالة العقبات التي تقف حائلا دون تنفيذ الاتفاقية، وتاليا تحريك عجلة البناء والتنمية في العراق الجديد.
قبل كل شئ علينا كعراقيين تحديدا ان نتذكر بان الولايات المتحدة ليست مؤسسة خيرية ولا هي منظمة حقوقية لتقرر اسقاط نظام الطاغية فقط من اجل سواد عيون العراقيين، او لانها اكتشفت فجأة بان نظام الطاغية ينتهك وبشكل صارخ حقوق الانسان في بلاده، ابدا، وانما اقدمت على ذلك الفعل وفي حساباتها انها ستحصل على نظام سياسي جديد حليف لها او شريك او على الاقل صديق ينسجم مع سياساتها العامة في المنطقة تحديدا، ويسعى لايجاد القواسم المشتركة بينه وبينها بما يحفظ مصالحها الاستراتيجية في المنطقة.
بعد مرور عشر سنوات على التغيير، وبالرغم من كل ما ضحت به الولايات المتحدة من اموال وارواح، وكذلك على الرغم من كل ما ضحى به العراقيون من ارواح عظيمة وتدمير للبنى التحتية وما تعرضت له البلاد من غزو عسكري وحرب جماعات العنف والارهاب والهجمة الشرسة التي تعرض لها العراق على يد الجماعات التكفيرية التي يحرضها نظام القبيلة الفاسد الحاكم في دول الخليج بفتاوى فقهاء التكفير المدعومة بالاعلام الطائفي والعنصري التحريضي، بعد كل ذلك اذا بواشنطن تكتشف بانها فشلت في اقامة نظام في العراق لا هو بمستوى الحليف ولا هو بمستوى الشريك ولا هو حتى بمستوى الصديق، الامر الذي دعاها الى اعادة النظر بعلاقتها مع بغداد من دون استعجال او ردود فعل غير محسوبة ابدا، فليس من عادتها ان تتخذ مواقفها بانفعالية او باستعجال كما هو حال الانظمة في العالم الثالث، والذي يعتبر فيه الحاكم هو السلطة الاعلى في البلاد اذا قال قالت البلد وقال الشعب واذا سكت سكتت البلاد وسكت الشعب.
ان مشكلة العراقيين بشكل عام تكمن في انهم للان لم يتعلموا حقيقة في غاية الاهمية هي التي تحكم العلاقات بين الدول، الحقيقة التي تقول ان السياسة تقوم على اساس المصالح المشتركة وليس على اساس القيم والمبادئ، ولذلك فاذا اراد العراقيون ان يخدموا انفسهم وبلدهم فان عليهم ان يستذكروا هذه الحقيقة دائما، فالمصالح هي التي تحكم العلاقة بين الدول وليست القيم والمبادئ، فلماذا يحق لكل دول العالم، بما فيها الدول ذات الانظمة الثيوقراطية في المنطقة، ان تقيم علاقاتها مع بعضها على اساس المصالح المشتركة ولا يحق ذلك للعراقيين؟ الى متى يبيع العراقيون قيم ومبادئ في علاقاتهم الدولية؟.
الم يتعلم الكرد هذه الحقيقة لينجحوا في بناء الاقليم وتنميته بشكل يتحسر عليه بقية العراقيين؟ لماذا تعلموا ذلك ولم يتعلم الاخرون؟ الى متى يظل العراقيون ، خاصة في الجنوب والوسط، يبيعون قيم واخلاق ومبادئ في علاقاتهم الدولية؟ لماذا لا يفكرون بطريقة جديدة تقوم على اساس المصالح المشتركة مع بقية دول العالم، وعلى راسها الولايات المتحدة، فيضمنون مصالح بلدهم ومصالحهم ومصالح الاجيال القادمة؟.
ان مشكلة العراق الحالية تكمن في اربع، والتي تحول دون تفكير المجتمع الدولي باعادة النظر في علاقاته الايجابية معه، من اجل مساعدته على النهوض والتنمية، وهي:
اولا: انعدام الحد الادنى من الانسجام في المواقف الاستراتيجية بين الكتل السياسية، من جانب، وبين مؤسسات الدولة من جانب آخر، فالعالم بات يستغرب من حالات التسقيط التي يتعرض لها الزعماء على يد زملائهم حصرا، وبمتابعة سريعة لتصريحات نواب البرلمان مثلا، وهو اعلى مؤسسة تشريعية في البلاد، للمسنا هذه السياسة ضد بعضهم البعض الاخر وبشكل مخجل خاصة ضد رئيسهم.
وكذا الحال سنكتشفه بالنسبة الى الحكومة اذا ما تتبعنا بعض تصريحات الوزراء ضد بعضهم البعض الاخر وخاصة ضد رئيسهم كذلك.
هل سمعتم ان وزيرا ينتقد بل يتهجم ويسب رئيسه في اعتى الدول الديمقراطية؟ وهل سمعتم ان نائبا في البرلمان يتهجم ويسب ويسقط ويغتال رئيسه سياسيا كما يحدث في العراق الجديد؟.
ان كل ذلك اعطى صورة سيئة جدا لحال السياسة في العراق ما يدفع بالمجتمع الدولي الى ان يفكر بصوت عال ويعد للمئة قبل ان يتعامل مع العراق الجديد، الامر الذي اضاع كل الفرص امام العراقيين.
ثانيا: الاضطراب السياسي والازمات السياسية المتتالية، فما ان يتنفس العراقيون الصعداء مستبشرين بنهاية ازمة حتى تتفجر اختها، وهكذا منذ عقد كامل من الزمن ولحد الان.
ثالثا: الانفلات الامني الذي طرد كل فرص الاستثمار، وقتل كل المساعدات الدولية الرامية الى الاخذ بيد العراق صوب التنمية واعادة البناء، وقديما قيل ان راس المال جبان، فما بالك اذا كان اجنبيا؟.
رابعا: واخيرا، الفساد المالي والاداري المستشري بشكل غريب في كل مفاصل الدولة العراقية.
لقد بات العراق اليوم يفتقد الى اهم عنصرين استراتيجيين تقوم عليهما كل دول العالم التي تحترم نفسها، وهما، الهيبة والاسرار، فالعراق اليوم دولة بلا هيبة كما انه دولة بلا اسرار، ولك ان تتصور اية دولة هذه التي ليس لها هيبة وليس فيها اسرار؟.
مقالات اخرى للكاتب