طرحت التغييرات التي حصلت في العديد من البلدان العربية موضوع الحرية الفكرية في الاطار الجامعي والأكاديمي على بساط البحث، خصوصاً في ظل الجدل المُثار سابقاً وحالياً حول النظام التعليمي والتربوي، ومنطلقاته الفكرية السياسية والاجتماعية والاقتصادية، لا سيّما موقفه من الآخر ومن الاختلاف والتنوّع والتعددية، وكل ذلك له علاقة بالثقافة وارتباطها العضوي بالحرّية، حيث تشكّل حرّية البحث العلمي ركناً مهماً وأساسياً من أركان تطور الجامعات والمؤسسات الأكاديمية، بل والمجتمع ككل.
لقد نما التعليم الجامعي بشكل كبير وبجميع مستوياته في الوطن العربي ، سواء خلال المؤسسات الجامعية ومراكز الأبحاث والدراسات العلمية، وكذلك من خلال الارتفاع الهائل في عدد الطلبة وازدياد أعداد الأساتذة الجامعيين وتعاظم خبراتهم. ومع هذا النمو برزت مشكلات نوعية، لعلّ أهمها موضوع الحرية الفكرية في اطارها الجامعي والأكاديمي، حيث لم يرافق التطور الكمّي في التعليم الجامعي تطوّراً نوعياً، لا في أقطار اليُسر ( الغنية بالنفط ) ولا في أقطار العُسر ، بل أن بعض أقطار اليُسر بددت الثروات الهائلة على الحروب والمغامرات والصراعات الداخلية والاستخدامات غير الرشيدة واللاعقلانية وغيرها.
وخلال ربع القرن الماضي ازداد عدد الجامعات العربية ومراكز الأبحاث الأكاديمية، زيادة ملحوظة، بالنسبة للجامعات الرسمية أو الأهلية، في حين كان هناك تسرّباً، بزيادة هجرة العقول والأدمغة المفكّرة، تساوق طردياً مع اندلاع الحروب والنزاعات وانفلات الوضع الأمني في بعض البلدان، فضلاً عن شحّ الحرّيات وضعف الحوافز المعنوية والمادية.
وكان المجتمع الجامعي يأمل في وضع حد لمحاولات احتواء وتأطير أساتذة الجامعات والباحثين الأساسين في مراكز الابحاث والدراسات التي راجت في سنوات السبعينيات والثمانينيات ولا سيّما في بعض البلدان التي حدثت فيها تغييرات مؤخراً، والتي قابلها عزوفٌ شديد من جانب الأساتذة والباحثين عن المشاركة في الحياة العامة كردّ فعل طبيعي ضد محاولات قسرية لاجبارهم على تطويع وسيلتهم الابداعية والأكاديمية، الاّ أن أشكالاً جديدة من التسيس أو التديين أو التمذهب برزت لدى أوساط جامعية وأكاديمية لم تعرفها أروقة الجامعات من قبل، وانقسم المجتمع الجامعي، إلى أنصار الأنظمة القديمة وأنصار الأنظمة الجديدة، وبين الاتجاهات الإسلامية والعلمانية، وأحياناً بين أتباع هذه الطائفة أو تلك وغير ذلك.
وولّد الانغمار سابقاً في المهمات الوظيفية والابتعاد عن الأضواء شعور باليأس والانكفاء على الذات والانفصام عن المجتمع أحياناً، وذلك تلافياً لمحاولات السلطات توظيف نتاجات الأساتذة والباحثين واستغلال أسمائهم لمصالحها الخاصة ، خصوصاً في ظل أنظمة تعليم عتيقة وادارات بيروقراطية ومناهج لا تستجيب لروح العصر وأجهزة لا تعرف الرحمة وغياب أو ضمور للحرّية الفكرية وضعف المبادرة وعدم تشجيع حرّية البحث العلمي والاكاديمي.
لقد ظلّ الباحث الأكاديمي والأستاذ الجامعي يعاني من غياب الحرّية مثلما يعاني اليوم من التعصب والتطرف والغلو ومن القيود المفروضة عليه للالتزام بالمناهج " المقررّة " التي غالباً ما تكون ذات اتجاه محدد "ضيق" ومن الرقابة المختلفة التي جعلته يعيش في بعض البلدان تحت هاجس الرعب، لا سيّما إذا ترافق الأمر مع تهديدات وانفلات للعنف وظلّت حرّية البحث العلمي محدودة، إضافة إلى الانظمة الجامعية الادارية ، كالتعيين والدوام والاجازات والمرض والترقيات والتفرّغ، وهذه كلّها معوّقات أمام الباحث وعامل كبح يحدّ من إبداعه ، فضلاً عن ضعف الحوافز في الكثير من الأحيان وتقديم الولاء كشرط أساسي لتولّي المسؤوليات والترقيات وذلك على حساب الكفاءة والاخلاص للوطن.
وانتشرت العديد من الاعتبارات الجديدة – القديمة – التي سبق للكثير من البلدان العربية أن سلكت طريقاً يساعد على تخطيّها أو يخفف من تأثيراتها السلبية بعد أن عانت منها في حقبة سابقة، الطائفية والشوفينية والعشائرية والجهوية، وقد لعبت الاعتبارات الحزبية والدينية والطائفية السياسية الضيقة، دوراً كبيراً في التأثير على حرّية الجامعات والبحث العلمي، وعلى الاستفادة من الطاقات والكفاءات العليا لحسابات بعيدة كل البعد عن التقييمات العلمية والاكاديمية.
ففي العراق مثلاً وبعد الاحتلال الامريكي عام 2003 ، تم إعفاء نحو 3 آلاف أستاذ جامعي من مواقعهم ، بسبب الاتجاه السياسي وليس بسبب ارتكابات أو إدانات قضائية، ورغم أنه أعيد الكثير منهم ، الاّ ان الجامعات العراقية ما تزال تعاني من نقص فادح في مستوى الكفاءة ، ولعلّ بعض التعيينات الجديدة لأسباب سياسية أو طائفية أو إثنية قد لعبت دوراً في ذلك، ناهيكم عن اغتيال نحو 450 عالماً واستاذاً جامعياً، وهجرة أعداد كبيرة إلى الخارج بسبب تصاعد أعمال العنف من جهة وممارسات الاحتلال من جهة أخرى، فضلاً عن الفوضى الأمنية، وكذلك بسبب موجة التطهير الطائفي وما رافقها من أعمال عنف منفلتة من عقالها، مما أضاف عبئاً جديداً على المستوى الجامعي والأكاديمي، خصوصاً وأن هناك آلاف من أساتذة الجامعات والباحثين كانوا قد غادروا العراق بسبب سياسات النظام السابق وبسبب الحروب والحصار.
لقد جرت عمليات "تخريب" للجامعات منذ السبعينيات وتم تفريغ الكثير من أصحاب الكفاءات والمواهب منها ومن مراكز الأبحاث، لا سيّما اذا كانت لا تتفق مع الاتجاه السائد، مما أدى إلى هبوط المستوى الدراسي الجامعي، فضلاً عن نكوص النظام التعليمي، وانعكس ذلك بشكل خطير على الحرّية الفكرية، بالترافق مع عدم مواكبة التطور الدولي، وخصوصاً منجزات العولمة وثورة الاتصالات والتدفق الهائل للمعلومات وتكنولوجيا المعلومات والطفرة الرقمية "الديجيتل"، الأمر الذي أدى إلى تخلف البرامج الدراسية والمناهج الجامعية، وأصبح بعضها يفوح برائحة النزعات الطائفية والعسكرية أو العنصرية أو العشائرية، وبما يضرّ بمصلحة المجتمع، ويفقده التعايش والسلام الأهلي والاجتماعي، ويؤثر في شخصية الطالب التي ينبغي ان تنمّى لتكوين شخصية عصرية منفتحة وقادرة على استيعاب الجديد وروح العصر.
وبسبب غياب الحرّية الفكرية وفقدان حرية التعبير، فان هجرة كبيرة شهدتها البلدان العربية والبلدان النامية عموماً للعقول والأدمغة المفِكَّرة Brain Drain، إضافة إلى تأثير ذلك على الطموح الشخصي للاستاذ والباحث ( موضوعياً وذاتياً ) وإغراءات أخرى دفعت بأصحاب الكفاءات إلى ترك أوطانهم، حيث يتسرّب سنوياً العديد من العلماء والنابغين والباحثين وأساتذة الجامعات بحثاً عن الحرّية الفكرية والأمان، وتحسين أوضاعهم من الناحية الابداعية والشخصية، من خلال الفرص التي تتاح لهم خارج بلدانهم ، وفي ذلك نزيف خطير للكفاءات وهدر كبير للموارد.
إن الغالبية من أصحاب العقول لا يرغبون في ترك بلدانهم ولا يطمحون بالهجرة ، ولكنهم اضطروا للرحيل بسبب مشكلات ومعوّقات صادفتهم لدى عملهم ، سواء مشكلات البحث العلمي وضيق فسحة الحرّية والتجاوز على حقوقهم الشخصية والعامة ، والتعامل البيروقراطي ، والنظام الاداري ، وحقوق التفرغ العلمي وغيرها.
إن علاقة الباحث بالسلطة هي علاقة ملتبسة في الغالب، خصوصاً ما يتعلق بحرّيته في البحث والتعبير واستقلاله ، فضلاً عن القيود المفروضة عليه وهاجس المراقبة، لدرجة أنها أصبحت أكثر تعقيداً وارتياباً من جهة، وعدائية من جهة أخرى. ومؤخراً استشكل الأمر مع جماعات التطرف والتعصب، فأصبح هناك شكل من العداء بينها وبين الجامعات ومراكز الأبحاث والدراسات الأكاديمية والفكرية ، لعدم قبولها الرأي الآخر.
وتحتكر السلطات أحياناً بعض المعلومات أو مصادرها ، وتحجبها عن الباحث وتحظر عليه الوصول إليها تحت حجة " أمن البلد " ومتطلبات " الصراع الخارجي " و" العدو " الذي يدق على الأبواب، بل يقرع الطبول . وهو ما تضع عليه خطّاً أحمراً، وتحاول بعض السلطات ان تسخّر الباحث لأغراض الدعاية ، بحيث يصبح داعيةً سياسياً فاقداً بذلك موضوعيته ، الأساس في تكوين شخصية الباحث ، وبالتالي بحثه. وقد كشفت أحداث الربيع العربي هشاشة العديد من الأنظمة التي كانت تبدو منيعة ومحصّنة، فضلاً عن حجم الاختراقات التي كانت فيها.
الباحث يتعامل مع الحقائق دون أن يروّج لآيديولوجية معينة ، في حين أن الداعية السياسي يحاول نشر آرائه السياسية والترويج لها ، بل تسويقها أحياناً وهو ما يتناقض مع مهمة الباحث الذي ينبغي عليه التمسك بالحيادية والموضوعية ونتائج البحث التي يتوصل إليها. إن ذلك لا يعني دعوة إلى الحيادية المطلقة للعلم ووظيفته ذات البعد الاجتماعي، فالعلم له علاقة وطيدة بالأخلاق، ولا يمكن فصلها وإلاّ فإنها تحوّل إلى النقيض، باستخدام نتائج العلم والبحث ضد المجتمع والانسان ، ولأغراض عدوانية وشريرة.
مقالات اخرى للكاتب