برغم كل شيء، تقدّم لنا الحكومة وقواتها المسلحة خدمة كبيرة، بإظهار كل هذا الضيق في التظاهرات السلمية وكل هذا العداء للمتظاهرين السلميين في بغداد خصوصاً.
الحكومة وقواتها المسلحة انما تسهّل علينا بهذا الموقف من التظاهرات والمتظاهرين أمر مواصلة انتقادها ومعارضة سياساتها، وتبرّر لنا هذا الانتقاد وهذه المعارضة. فهي تقدّم الدليل على أننا على حق في ما ننتقد ونعارض، وتفشل في المقابل في تقديم ما يثبت دعواها، أو يسوّغ مخاوفها، من ان التظاهرات غير سلمية وان المتظاهرين تحركهم أجندات داخلية أو خارجية.
الذين تابعوا مشاهد المعاملة السيئة غير المبررة بالمطلق من قبل قوات (سوات) لمتظاهري بغداد يوم السبت ازدادوا نقمة على الحكومة ورئيسها وكبار مسؤوليها المعنيين بشؤون الأمن، فلم يكن هناك أدنى سبب لمنع التظاهرات وللقسوة حيال من أراد أن يتظاهر في ساحة التحرير أو ساحة الفردوس أو ساحة الأندلس. لم يحدث أبداً هذه المرة أيضاً، في بغداد وفي غيرها، أن أساء متظاهر التصرف حيال القوات الأمنية أو خرج على القانون.
في المرة السابقة (31 آب) برّر رئيس الحكومة والقائد العام للقوات المسلحة منع التظاهرات وتشديد الاجراءات الأمنية باحتمال توجيه ضربة عسكرية الى سوريا.
أجزم ان رئيس الحكومة لم يكن صادقاً، فالموقف العدائي تجاه التظاهرات يمتد تاريخه الى ما قبل اندلاع الأحداث في سوريا، وتواصل الى يوم السبت الماضي حيث تراجع كثيراً احتمال الضربة المفترضة لسوريا. ومما يلاحظ ان بعض القوات الامنية وضباطها وعناصرها بدأوا يدركون هذا جيداً، فهم يحرصون دائماً على ابلاغ المتظاهرين بانهم مرغمون على ما يفعلون، وانهم يتفهمّون دواعي التظاهر، ولكن "ما في اليد حيلة"، فالأوامر الصادرة "من فوق" غير قابلة للنقاش والعصيان.
حقيقة الأمر ان الحكومة لا تُطيق فكرة حرية التعبير ولا تريد ممارستها. هذا ما تشهد به مشاريع القوانين التي تقدمت بها الحكومة الى مجلس النواب خلال السنتين الأخيرتين.. كلها قاطبة ترفع أكبر الهراوات في وجه وسائل التعبير عن الرأي بأنواعها وأشكالها المختلفة. قانون حقوق الصحفيين كان في غاية السوء، ومشروع قانون حرية التنظيم والتعبير سيئ جداً هو الآخر، ومشروع قانون جرائم المعلوماتية أشد سوءاً ولا نظير له ابداً. وبينما اضطر مجلس النواب الى ردّ المشروعين الأخيرين فانه ارتكب خطأ جسيماً بتمريره القانون الأول الذي يظهر كل يوم تقريباً الدليل على سوئه. فمنذ تشريع قانون حقوق الصحفيين حتى اليوم ارتفع عالياً معدل الاعتداء على الصحفيين والمؤسسات الاعلامية، فيما لم يتراجع معدل قتل الصحفيين.
شكراً للحكومة عن موقفها حيال التظاهرات السلمية والمتظاهرين السلميين، فهو يأكل من رصيدها، وفي المقابل يضيف إلى رصيدنا الانتقادي لها.
مقالات اخرى للكاتب