جاء من مدينة في جنوب العراق , يتحدث بلهجة الجنوب البريئة , الى العاصمة بغداد و قد سمع عنها ما سمع حين كان فتى من الاحاديث و القصص من اهالي مدينته الذين كانوا يذهبون لبغداد للحصول على عمل او للدراسة او للتجارة ... بغداد , مدينة السلام , و الخير الكثير .. بغداد مدينة الشعر و الحب , بغداد , بغداد ,ازقة بغداد ومحلاتها ,بيوت بغداد و حدائقها , نساء بغداد و هكذا ظل اسم بغداد يتردد في ذهنه كسمفونية بيتهوفن , صار يتخايل تلك المدينة كما لو أنها أنثى لا تنام , أنها تعيش بداخله و ذات يوم قرر أنه لابد ان يحظى بزيارتها , لا ليس زيارتها بل العيش فيها , و صار يحكي عن احلامه لأقرانه
_ حين اكبر سيكون لي بيت في بغداد و سأدعوكم اليه , بيت كبير و له سور و حديقة و يطل على نهر دجلة و فيه سرداب كما حكى لي العم ابو مسلم عن بيوت بغداد الفخمة التي تطل على دجلة ( ابو مسلم احد اصدقاء والد مصطفى ليست صداقة قوية و لكن ابو مسلم كان يجلس في المقهى في وقت العصر و يحكي للناس عن بغداد و يزينها لهم و يصفها كما لو أنها عروس في ليلة زفافها , رغم أن ابا مسلم كان مجرد رجل فقير ذهب لبغداد ثلاثة اعوام و عمل حمالاً في سوق الشورجة و عاد بعدها لمدينته التي نشأ فيها و تزوج ابنة عمه و استقر معها في بيت العائلة مع اخويه و والديه و لكنه ظل يحكي الحكايات عن العاصمة كما لو انه كان سلطانا لا حمالا مع أنه لم يذق فيها إلا الجوع و التعب )
_ ما الذي تقوله يا مصطفى ؟! هل فقدت عقلك لتحلم بشيء كهذا , اسكت ايها المعتوه
لقى سخرية من اصدقائه فقرر ان يكتم حلمه في صدره و يحيله حقيقة في يوم من الأيام
و هكذا مرت السنوات , و مصطفى يجتهد بدراسته و يثابر و يتعب نفسه , و يقمع عينيه بالسهر غير مبالٍ بنظره الذي قصُر و اجبره على وضع النظارة الطبية و صار لقبه مصطفى ابو نظارة
و اكمل مصطفى المرحلة الإعدادية و حصل على معدل اهله لدخول كلية الطب في بغداد
و اخيرا سيرى معشوقته و سيقضي فيها سنوات طوال من الكفاح في سبيل العلم ليكون طبيبا تفتخر به عشيرته
عند محطة القطار يودعه والديه , والدته تغطي دموعها بطرف العباءة السوداء تدعو له بالخير و ان يبعد الله عنه اولاد الحرام , تضع يدها على رأسه كي ينحني فيستجيب لها و ينحني ليقبل كفها و لكنها ترفع جبينه الأسمر و تضع قبلة عليه ممزوجة بدموعها و خوفها على ابنها الوحيد الذي رزقها الله به بعد ستة بنات , تدس في جيبه حجاب جلبته من احد السادة ( السيد رجل دين , هكذا يلقبوه في العراق ) ثم تجهش باكية
فيأتي صوت والده الحنون الهادئ :
_ما هذا يا ام مصطفى ؟! هل ولدنا سيذهب لارض الواق واق , انها بغداد و هي ليست بعيدة جدا (يتوجه الى ولده) ولدي كن حذرا و حين تصل اذهب الى رجل اسمه محمد ابو جاسم انه صديق قديم في ال( يعطيه العنوان )...... محمد ابو جاسم رجل من الجنوب كان صديق ابو مصطفى منذ الطفولة حتى مرحلة الشباب و قد سافر لبغداد للعمل و استقر في احد المناطق الشعبية البغدادية مع عائلته المكونة ابنة عمه كزوجة له و ثلاثة اطفال...
صوت صافرة القطار تنبه المسافرين للحظة وداع اخيرة
و سافر مصطفى و في حقيبته ملابس جديدة و لوازم يحتاجها كل يوم و بعض الزاد من الخبز العراقي و لحم دجاج مشوي بنار التنور الطيني الذي لطالما شاهد والدته و هي عاكفة عليه حين تخبز لهم الخبز و لكن غلة زاده كانت في مخيلته , كان ذلك الحلم ان يكون له بيت كبير في بغداد يطل على ضفاف دجلة الخير كما قرأ عنه في درس اللغة العربية في المدرسة
_ حييت سفحك عن بعد فحييني ... يا دجلة الخير يا أم البساتينِ
.....
استقل القطار اخيرا
ارتجل مصطفى من المقطورة , الهواء , السماء ... ليستا نقيتين كمدينته المليئة بالخضرة و الاشجار
اهكذا المدينة ... شوارع مزدحمة , ضجيج في كل مكان , انه يفتقد اصوات الدجاج و الحيوانات التي اعتاد على سماعها , اما صوت المآذن فيختلط او يتشوه بأصوات السيارات
يشعر مصطفى برغبة لإغلاق أذنيه إذ أنه لم يعتد الأصوات العالية
ثم أين الراعي الذي يعزف على نايه ... أي ناي يا مصطفى أنك في المدينة ...
و بدأت رحلة طويلة , ابتدأت بلقاءه بصديق والده ابو جاسم الذي استضافه في بيته عدة ايام حتى استقر في السكن الداخلي المعد لطلبة الكلية
و بدأت الأعوام تعد نفسها الواحدة تلو ألاخرى .. كان طالبا نجيبا مجتهدا محافظا على الاخلاق العامة , لم يشاهد يوما بموقف مبتذل و لم يصدر منه الا الخير و نال اعجاب زملاءه و زميلاته
اعجبته احدى الزميلات تعرف عليها في المرحلة الثالثة , كانت من الجنوب كذلك لكنها من مواليد العاصمة فقد استقر والديها في المدينة قبل ان تولد ..
_ لا يا مصطفى لا ... أنت لك هدف , لا وقت للمشاعر , لا تدع قلبك يقف عائقا في طريق طموحك , فهذه ابنة بغداد و ان كانت تحمل دما جنوبيا مثلك , ستطلب مهرا غاليا كقريناتها البغداديات , تزوج إبنة خالك , فنحن مخطوبان منذ الصغر و هي تعرف القراءة و الكتابة فقد دخلت المدرسة رغم انها لم تنهِ الابتدائية إلا أن المهم أنها تعرف طباعي و لن تعارضني كما تعارض نساء بغداد أزواجهن
اضطر مصطفى لكبح دقات قلبه اليافع و التركيز على دراسته و عمله , حيث صار يعمل اي عمل شريف يجني منه المال كي ينفق على نفسه و ذلك بسبب مرض والده الذي منعه من ارسال المال اليه بإستمرار , فصار مقتصدا جدا او شحيحا إن صح التعبير ...
تخرج من كلية الطب , طار ذلك العصفور من عش والديه ..كالنسر و لكن خبرا غير سارا
أتى كالصاعقة على فرحة النجاح ...
والدته ترسل اليه ... عد يا ولدي فوالدك مريض و يريد رؤيتك قبل ان يموت
توفي والد مصطفى ... و لكن وفاة والده لم تثنيا عزيمته و ما ان انتهت مراسيم العزاء ودع والدته و عاد الى العاصمة ليعمل طبيبا في احد المستشفيات
الكل بدأ يلاحظ شحة مصطفى في الخير , لا يرسل المال لوالدته , لا يرسل لها سوى رسائل سلام و تحايا و في احد الرسائل ذكر أنه سيأتي لخطبة إبنة خاله زهراء
تزوجا بسرعة ... و أخذ عروسه لبغداد و عاش معها في شقة صغيرة بالإيجار
و ظل يزاول مهنته كطبيب و صار طبيبا مجتهدا يشار له بالبنان , و لكن لقب مصطفى ابو نظارة استعيض عنه بلقب الدكتور البخيل ...
مصطفى بخيل جدا ... حتى على نفسه و زوجته و بيته الصغير الذي اشتراه بعد ثلاثة اعوام من زواجه ..
زوجته تذمرت ذات يوم فصفعها , ما زال ذلك الرجل البدوي بداخله رغم العلم الذي يملأ رأسه
رزق بطفل و طفل آخر و حين حملت زوجته بالطفل الثالث غضب و اكفهر وجهه و صار يصرخ
_ هل تظنين اننا في القرية , كي تنجبي طفلا كل عام , الم أحذرك و اطلب منك منع الحمل , أنتِ ستبقين قروية غبية مهما علمتكِ , غبية و جاهلة
زهراء لا تملك إلا الدموع ... تنزوي في غرفتها و تكمم فمها براحة يدها و وجهها يحتقن و هي تسكب الدمعة تلو الأخرى
و تضع زهراء بنتا" جميلة , سمراء ذات بشرة جنوبية رغم أنها ولدت في بغداد
_ أنظر يا مصطفى , أبنتك تبتسم لك , أنها تقول با با .. أنها اول كلمة تنطقها
_ تقول بابا تقول ماما , لا يهمني , المهم ان تكون هذه آخر مولود و لا أريد اعذارا منكِ يا زهراء
_ لك ما تريد عزيزي
............
هل الغاية تبرر الوسيلة ؟
هل طموح الإنسان للنجاح و بلوغ المجد تشترط عليه ان يتناسى إنسانيته ؟ أن يدوس على الضعيف أمامه ؟ أن لا يعطف على الفقراء ؟
تلك القصور الشاهقة التي تركتها لنا اجيال سبقتنا , الخاوية من الحياة , ماذا كان يدور بين جدرانها في ذلك الزمان الغابر ؟ هل كان اهلها سعداء أم أشقياء
إن السعادة ليست بالمال تشترى و لا الغنى للسعادة يجلبُ ... لكن هذه الحقيقة يجهلها الكثيرون , نجد كل إنسان منا ينظر الى ما ينقصه و ينسى ما عنده من خير فيلعن حظه و يكره حياته و يبطش بمن حوله كي يحقق اغراضه النفعية ..
و هذا كان حال د.مصطفى الذي بات جراحا" عاما" له سمعة علمية تجتذب المرضى اليه
لكنه متعطش للمال ... غايته المال و وسيلته العلم
لقد اتعب و اجهد نفسه بالعمل , في مستشفى حكومي و مستشفى خاص و عيادته الخاصة
, صار بيته الصغير كفندق او مطعم يأتي اليه لبعض السويعات كي يستريح ..
الحقد داخل زوجته زهراء نما يوما بعد يوم , تعيش معه بلا مشاعر فبخله معها قضى على كل معنى للحب تجاهه ..
إشترى مصطفى قطعة أرض على ضفاف دجلة و بنى بيته و اكمل بناء البيت , احتاج الامر عدة سنوات ...
_ياله من بيت كبير , كيف سأنظفه , سيرهقني بيتك يا مصطفى ؟ ( هذا ما قالته زهراء حين شاهدت البيت اول مرة )
_ هذا كل ما في عقلك , التنظيف و الطبخ و و و , انتظرِ حتى أريكِ السرداب ...
هكذا كانت البيوت البغدادية القديمة , لها سراديب , كانت العائلة تستخدم السرداب كمخزن احيانا و كانوا غالبا ما يبيتون فيه و ذلك لإنخفاض حرارته لأنه يكون تحت البيت
و استقرت العائلة في ذلك البيت الكبير و بعد اسبوع واحد أصيب د.مصطفى بجلطة دماغية اقعدته في الفراش فقد تسببت تلك السنوات الطوال من الجهد و السهر بإعياء دفين لمصطفى ظهر بعد تلك السنوات ...
و ما هي إلا أيام حتى وجد نفسه لا يستطيع النطق و لا الحركة فقد شلت اطرافه الأربعة لكنه يعي ما يحدث له , فحقد زوجته عليه و رغبتها للإنتقام لتلك الاعوام المجحفة بحقها جعلها تصنع من السرداب غرفة له , أقام فيها بقية حياته , لابد انه قضاها و هو يتذكر فيها حلمه بأن يكون مالكا" لبيت في بغداد يطل على نهر دجلة له سرداب
و لكنه لم يحظَ في البيت غير ذلك السرداب ...
( القصة حقيقية جرت احداثها من الثلاثينيات حتى سبعينيات القرن العشرين )
اقرأ ايضاً