كل شيء حدث بسرعة مذهلة ولم يستغرق الامر سوى يوم واحد منذ ان مرضت كلبة ابنتي رغدة فتوفيت قبل يومين في عيادة الطبيب البيطري الذي لم يفلح باسعافها بعد ان أصيبت بنزف معوي حاد . لقد ربت رغدة تلك الكلبة الوديعة منذ ولادتها قبل اربع سنوات وأطلقت عليها اسم "فيدا" واعتنت بها كما تعتني الام بطفلها لذا فقد حزنت هي وزوجها على فقدانها أشد الحزن بعد ان أصبحت جزءً جميلا من مقتنيات منزلهما الذي لا يبعد عن منزلي كثيرا . التقيت رغدة صباح الأمس ورأيت اثر الدموع في عينيها المتورمتين من البكاء فلم أجد ما أخفف عنها سوى قولي " ان هذه سنة الحياة ولا مناص من ان نقبل بها" .
ولم تمضي سوى ساعات حتى جاءني ابني بسام هاشاً مستبشرا وهو يحتضن في ذراعيه قفص طيور الكناري وقد فقست ثلاث بيضات فرأيت الأفراخ الثلاثة الذين رأوا النور قبل ساعات فقط وهم يفتحون أفواههم في عشهم نحو الأعلى يستعطفون الام والأب ان يزقوا في حوصلتهم حبات الدخن كي يبدأوا دورة الحياة . وكما قلت لرغدة في الصباح وجدتني أقول لبسام هذه المرة " ان هذه سنة الحياة وما أجمل من ان نفرح بها".
ان موت الكلبة وولادة الكناري في نفس اليوم ومنظر أوراق الشجر المتساقط هذه الأيام معلنا قدوم الخريف جعلني اخلد الى النوم ليلة أمس وانا اعلم ان في داخلي وعاء مليء بالمشاعر والأحاسيس و تدور في داخله بهدوء محتوياته وكأنه قدر كبير للشوربة وفيه ملعقة كبيرة تخلط مكوناته بلطف كي لا تترسب في القاع . صحوت اليوم و ذهني يجتر جملة كنت قد كتبتها يوم أمس عن الخريف في احد مواقع التواصل الاجتماعي وقلت فيها ان خريف الطبيعة يعقبه بعد بضعة أشهر ربيع جميل متجدد . وهذا هو الفرق بين خريف الطبيعة وخريف العمر الذي لا نلمس وجوده الا بتناقص عدد الأصدقاء والأقرباء الذين يرحلون بهدوء ... وزيادة عدد الأطباء الذين يفحصوننا وكثرة الأدوية التي يصفونها لنا .
لن استغرب ابداً ان قال احد قرائي ولاسيما من هو لايزال في العراق انني بطران اذ أكتب مقالا عن موت كلبة وولادة كناري والبشر تموت هناك يوميا بالتفجيرات والاغتيالات والخطف . بل لن استبعد ان تنالني زخة من السباب العراقي الشهير على هذا المقال ولكن دعوني أخبركم ان المهاجرين الذين يفرون الان من سوريا والعراق ويركبون البحر باهواله ويمشون أياما على غير هدى بحثا عن الأمان لدى اصحاب المروءة في العالم المتحضر ،،، هؤلاء أيضاً ما ان يستقر بهم المقام هناك وتعود اليهم إنسانيتهم التي افتقدوها في بلدانهم سيبكون يوما على موت كلبهم او قطتهم الأليفة وسيفرحون بقدوم كناري جديد .
لقد حطمنا بأيدينا هناك في بلداننا التي جئنا منها بوصلة الحياة وجعلنا سفننا تتجه مترنحة نحو الصخور التي ستشبعها تحطيما وغرقا . لقد بتنا نعيش لكي نلطم على امواتنا .. نعيش لنأكل وليس نأكل لنعيش ... نعيش لنتغنى بالماضي التليد ونلعن الحاضر البليد ... نتبادل بغباء مفرط دور الضحية والجلاد ... الامر الوحيد الذي كنا فيه منصفين هو دعوة الروس للمساهمة في قصف بلداننا كي لا يقال عنا اننا سرسرية نحابي أمريكا وأوروبا الغربية ونتلذذ بقصفهم بل جعلنا الروس ينالون شرف ذلك أيضاً .
لقد شاخ كل الوطن العربي وأمسى في مرحلة خريف العمر وليس هناك ثمة من يوقف سريان شلل الموت في جسده المتهالك... هذا الموت الذي بات قاب قوسين او أدنى ... مع شديد الاسف .
مقالات اخرى للكاتب