يقترب يوم تحرير الموصل ومناطق أخرى من نينوى وأجزاء أخرى من محافظات كركوك وصلاح الدين والأنبار، يقترب يوم النصر على قوى الظلام والتكفير والجريمة المنظمة، يقترب يوم ترفع مختلف صنوف القوات العراقية المسلحة والپيشمرگة الكردستانية والشبيبة المتطوعة وكل المقاتلين في جبهات القتال الأعلام العراقية والكردستانية جنباً إلى جنب لترفرف في سماء العراق وتحت أشعة الشمس المحرقة للأعداء وضوء القمر، يقترب اليوم الذي يُمسح عن جباه الجيش العراقي والشرطة ما علق بها من أدران وعار بسبب تسليم العراق دون مقاومة لعصابات داعش المجرمة، رغم إن المسؤولين عن ذلك ما زالوا أحرارا يمرحون ويسرحون في ربوع العراق ويحتلون أعلى المناصب وكأنهم قادة شجعان، في حين كان الجبن والكراهية والحقد دافعهم الأول في دفع القوات المسلحة والشرطة للهروب من الموصل الحدباء ومناطق أخرى من نينوى، وكانوا السبب، ومن جاء بهم إلى السلطة، وراء كل ما حصل هذا البلد والشعب المستباحين.
والسؤال الكبير الذي طرح عليّ في ندوات عقدت ولقاءات ومناقشات جرت في أربيل في شهر تشرين الأول/اكتوبر بعنكاوة: وماذا بعد تحرير أرض العراق من دنس العصابات المجرمة؟
الإجابة المباشرة التي لا بد من تأكيدها: إن بقاء العوامل التي تسببت في اجتياح العراق من بوابة الفلوجة بالأنبار وصلاح الدين والموصل، وهي ما تزال قائمة حتى الآن، بل وبعضها متفاقم بالتآمر المتواصل، يعني أن طرد المحتلين من تلك المناطق من أوسع الأبواب، سوف يلجون العراق من أوسع شبابيكه ثانية، وتحت واجهات قديمة وجديدة دون أدنى شك. وأصبح الكثير من العراقيات والعراقيين يدركون إلى حد مناسب بأن الطائفية السياسية والمحاصصة والتمييز الديني والمذهبي والفساد ووجهه الآخر، الإرهاب، الداخلي والقبول بالتدخل الخارجي واستمرار وجود ميليشيات طائفية مسلحة تحتل وتراقب الشعب والمحلات ببغداد وفي بقية محافظات الوسط والجنوب، تماماً كما كان يفعل حزب البعث وأجهزته القمعية والأمنية والجماهيرية، إضافة إلى الدمج غير المشروع بين الدين والدولة وسلطاتها الثلاث وممارسة الأحزاب الإسلامية السياسية المتعارضة مع الدستور العراقي في وجودها وأسس عملها ودعاياتها ...الخ، والصراع الحزبي المتفاقم على السلطة والمال والنفوذ وتحت واجهات شوفينية وضيق أفق قومي بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم ...الخ، هي وراء كل ما حصل ويحصل في العراق خلال السنوات التي أعقبت سقوط الدكتاتورية البعثية الصدامية الغاشمة وإلى الآن.
وهذا يعني، إن الخروج من هذه المِحنة الكبرى يستوجب التغيير الفعلي في طبيعة النظام السياسي القائم وإجراء إصلاحات جذرية عميقة، عمودية وأفقية في البلاد. والوصول الى هذا الهدف يستوجب تحقيق تغيير في موازين القوى لصالح التغيير والإصلاح الجذري. وبدون ذلك سيبقى العراق معرضا للخطر الأكبر، خطر داعش وامثاله وما ينشأ عن ذلك من عواقب مدمرة للعراق وشعبه بكل قومياته واتباع دياناته ومذاهبه الدينية والفكرية. وعملية تغيير موازين القوى تستوجب تعبئة واسعة جداً لأوساط الشعب على وفق أهداف وشعارات واضحة ومؤسسة بواقعية وموضوعية وفضح القوى التي تعرقل عملية التغيير. إن على القوى الأمينة لشعب العراق ووحدة أرضه تحمل مسؤولية رفع شعارات وطنية ومهنية متناغمة وممكنة تستجيب لمصالح الشعب والوطن وتساهم في التعبئة لأوسع الأوساط الشعبية دون الوقوع في فخ الشعارات المشوهة والمتقلبة التي تحاول حرف النضال باتجاهات غير مسؤولة وغير قادرة على تحقيق المنشود للشعب والوطن.
المخاطر التي تواجه العراق، عدا بقاء خطر عودة داعش او ما يماثله من فكر وسياسات، تبرز في عدد غير قليل من التناقضات والصراعات والنزاعات المحتملة التي من السهولة تفجيرها من الداخل، أو من قبل دول الجوار، أو السياسات الدولية الراهنة، أو بتوافر جميع العوامل السلبية.
أحد العوامل الحاسمة والمباشرة لتحديد اتجاه تطور الأوضاع بالعراق يبرز في الموقف من الموصل ونينوى بعد تحريرهما. فكل عوامل تفجير الوضع فيهما جاهزة ومحتملة: الوجود التركي المسلح والاستفزازي المتفاقم وبإصرار لعين وسكوت دولي مشبوه، وجود العشائر العربية المسلحة بجوار وجود الحشد الشعبي المسلح، إضافة إلى وجود الپيشمرگة المسلحة، ووجود الدور الإيراني والسعودي والقطري على قوى بعينها في العراق وفي المنطقة عموماً، ووجود الجيش والشرطة العراقية، وكذلك وجود القوات الامريكية، التي تتعامل ببراغماتية عالیة على وفق مصالحها المباشرة والملموسة إزاء العراق وتركيا وإيران وقطر و"الدولة الإسلامية اللقيطة!"، وليس وفق مصالح العراق وشعوبه، فهل ستسود الحكمة عبر خارطة طريق منسقة وواضحة في الموقف من الموصل واهله ومن النازحين وسبل التعامل مع المفخخات السياسية التي تواجه الوضع، وخاصة في الموقف من سكان تلعفر والمناطق المتنازع عليها و...الخ.
الصراعات المحتملة بين القوى أو الأطراف الحاكمة المنتمية لأحزاب طائفية على مواقعها في السلطة، وفي ما بين الأحزاب والقوى في كل طرف منها، احزاب شيعية ضد احزاب سنية، وداخل التجمعات السنية والشيعية، بين القوى الحاكمة وميليشياتها المسلحة المرتبطة بالحشد الشعبي، والمستقلة عنه بقياداتها المعروفة، الصراع بين الحشد الشعبي والسلطة الراهنة ذاتها على السلطة حالياً وبعد الانتصار، الصراع المحتمل بين الحشد الشعبي والپيشمرگة حول ما يطلق عليه بالمناطق المتنازع عليها، الصراعات العشائرية بسبب الثارات والانتقام والرغبة في السلطة والمال.
ثم هناك الوضع الاقتصادي البائس الذي يمر به العراق والذي تعاني منه أوسع أوساط الشعب في مواجهة قلة قليلة فاسدة ومتربعة على قمة السلطة وحواشيها ومتخمة بالسحت الحرام وسارقة لقوت الشعب. إذن هناك مخاطر جدية جاهزة لتفجر صراعات سياسية واقتصادية واجتماعية، صراعات دينية ومذهبية وقومية، وتحولها إلى نزاعات دموية، وهناك تحديات هائلة لاسيما الأوضاع الاقتصادية المالية واوضاع النازحين والمهجرين قسراً والتغييرات الديمغرافية الجارية والمتوقعة وعواقبها، وحملات الاغتيالات والتفجيرات ...الخ. فما العمل إزاء كل ذلك؟
ليست هناك صيغة واحدة جاهزة لمعالجة الوضع. فكل طرف من أطراف المعادلة لديه مشروعه ورغباته وسعيه لتنفيذ ذلك، والذي يمكن ان يصطدم بما لدى الأطراف الأخرى من مشاريع ورغبات ومسعى والذي يمكن أن يقود بعضها الى المزيد من الموت بشعب العراق والدمار بالعراق. وهذه المشاريع تتبلور في العمل غير السؤول للتمسك بالنظام الطائفي ومحاصصاته، وهي الأحزاب والقوى الطائفية التي يتنافى وجودها مع الدستور العراقي وحقوق الانسان والشرعية الدولية. وهناك الحل الذي يفترض ان تطرحه القوى الواعية والنزيهة والمسؤولة عن العراق وشعبه، ومنها القوى الديمقراطية واليسارية والليبرالية والدينية المتفتحة التي ترى في العلمانية، في فصل الدين عن الدولة، وفي إقامة المجتمع المدني والدولة المدنية الديمقراطية الحل الأمثل للمرحلة الراهن وللمستقبل. والصراع الفعلي الراهن والقادم سيبقى بين هذين الاتجاهين والذي يستوجب تغيير ميزان القوى لحسمه سلميا وديمقراطيا لصالح الدولة المدنية الديمقراطية.
تواجه المجتمع ثلاثة احتمالات في أعقاب تحرير الموصل وبقية اجزاء العراق المحتلة من داعش:
ان يسعى كل طرف مشارك في المعارك التخلي عن التنسيق الجاري حتى الآن وفرض ارادته ورغبته وروحه الانتقامية والثأرية، بحيث تعم الفوضى ويسود القتل العشوائي. وهذا الاحتمال سيحول الموصل دون أدنى ريب الى ساحة حرب متشابكة ودامية، إلى حلب جديدة ثم ينتشر النزاع المسلح الى مناطق اخرى من العراق. وفي ظل النظام الطائفي الحالي لا يستبعد نشوء مثل هذه الحالة بأي حال!
ان يسعى كل طرف إلى السيطرة على المناطق التي حررها قبل ذاك وتوقف عند نقاط جرى الاتفاق عليها. ومثل هذا لاحتمال يمكن حصوله، بسبب الأوضاع السائدة وانعدام الثقة بين جميع الأطراف المشاركة علنا او سرا في المعارك الحالية. ولكن مثل هذا الحل دون عودة كل طرف إلى أوضاع ما قبل اجتياح داعش واحتلال نينوى، سرعان ما يفجر نزاعات دامية تقود إلى ذات العواقب في الاحتمال الأول.
ان يسود الشعور بالمسؤولية وتتغلب الحكمة والعقلانية لدى الجميع ويبتعدوا عن الصراع ويعود كل طرف الى مواقعه السابقة ويترك العمل للجيش والشرطة العراقية وأهالي المناطق المحررة لتنفذ خطة طريق عقلانية لإعادة الحياة الطبيعية وعودة النازحين ثم البدء بتنظيم ومعالجة المشكلات آلتي كانت السبب وراء كل ما حصل بالعراق عموما وبالمحافظات الغربية ونينوى وفي العلاقات بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم ومنع تدخل دول الجوار كلها بالشأن العراقي. هذا الاحتمال يتطلب مستلزمات أساسية:
ا. وجود خارطة طريق للموصل ونينوى، ثم للعراق كله، بما فيها المحافظات الغربية وجدول زمني لتحقيق ذلك. وهذا يعني إعادة النازحين إلى مدنهم وقراهم وإعادة إعمار المناطق المدمرة وتعويض الأهالي وانتهاج سياسة حكيمة في التعامل مع البشر كمواطنين متساوي الحقوق والواجبات.
ب. تحقيق التغيير المطلوب في النظام السياسي فعليا وليس كما حصل حتى الان، أي التخلص من الطائفية السياسية والمحاصصات الجارية في الحكم وسلطات الدولة الأخرى ومؤسساته والإصرار على إقامة الدولة المدنية الديمقراطية التي تفصل بين الدين والدولة وتحت شعار: "الدين لله والوطن للجميع".
ج. حصول تحول نسبي في ميزان القوى الشعبية الضاغطة على الحكم لفرض التغيير المطلوب والالتزام بما يجب فعله على صعيد العراق والمصالحة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية وتشغيل العاطلين ومكافحة فعلية للفساد ووجهه الثاني الإرهاب. ويستوجب هذا تصعيد العمل الشعبي المناهض للقوى المضادة العازمة على وقف عجلة التغيير والذي بدأ بوضوح كبير في الوقت الحاضر.
د. ضمانات دولية من مجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة بمنع تدخل الدول المجاورة في الشأن العراقي الداخلي، ولاسيما تركيا والسعودية وقطر وإيران، إضافة إلى إجراء تغييرات فعلية في الاتفاقية الأمنية مع الولايات المتحدة التي لم يكن العراقيون والعراقيات يثقون بها، وهي التي لعبت دوراً سيئاً وصارخا في كل ما واجه العراق خلال العقود الخمسة المنصرمة.
ويبدو ضرورياً ومنذ الآن التفكير بثلاث قضايا جوهرية:
** سبل تكريس علاقة دستورية وعقلانية واعية بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم وحل جميع نقاط الخلاف بينهما على أسس ديمقراطية وسلمية تضامنية.
** العلاقة المطلوبة والمنشودة بين القوميات والجماعات الدينية والمذهبية في محافظة نينوى، لاسيما النواحي الإدارية والثقافية والتربوية والتعليم، ومواجهة ما حصل فيها وعليها من تغيير ديمغرافي مخل بأصحاب الأرض على امتداد العقود التي أعقبت انقلاب شباط 1963 حتى الآن. علماً بأن هناك مطالبات وحلول فرعية مطروحة على الساحة السياسية العراقية من جانب المكونات القومية والجماعات الدينية في نينوى، والتي يفترض أن تدرس بعناية ومسؤولية على المستوى الوطني ووفق التجارب المريرة المنصرمة التي تعرض لها العراق وعاشها أتباع القوميات والديانات والمذاهب في العراق.
** العلاقة المطلوبة بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم من جهة، والمحافظات العراقية والكردستانية العراقية التي يفترض أن تتخذ صيغة الإدارة اللامركزية والتضامنية والتعاون والتنسيق والتكامل من جهة أخرى.
** إيجاد الحلول العملية للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية الراهنة والمتفاقمة بسبب طبيعة الاقتصاد العراقي الريعية والاستهلاكية وغياب الإنتاج المادي والانكشاف على الخارج من حيث المورد المالي النفطي والاستيراد السلعي لإشباع حاجات السكان وعواقبهما على المجتمع.
مقالات اخرى للكاتب