المرأة العراقية مسكينة وكل ما فيها يصرخ بمسكنتها، بدءا من ملامحها مرورا بمشيتها وانتهاءً بـ"دلغمتها" وخوفها من الآخرين. مرّ هذا الخاطر بذهني اليوم وأنا أضطر لأن أحشر نفسي في "كيا" قرب الجامعة المستنصرية مليئة بالطالبات والنساء، كن خرجن من دوامهن وأسرعن عائدات إلى البيوت وكان حظي أن أحاذي فتاة صغيرة محجبة بدت مرعوبة ولا هم لها سوى أن تصنع فجوة أو فراغا بيني وبينها. كانت ربما تصغرني بربع قرن ومع هذا بدت لي قلقة، مطرقة وكأنها كبست في وضع مزر أو كأن وحوشا تريد الهجوم عليها. كنت أنوي التدخين مستغلا النافذة المفتوحة لكنني لعنت الشيطان وقلت لنفسي - مو وكتها. ثم ظللت "محنبطا" في مكاني كالتمثال فالصبية متوجسة وقد قدرت وضعها وأشفقت عليها، لكنني مع هذا انزعجت وشعرت بتأنيب ضمير بسبب ذنب لم ارتكبه، بل تمنيت أن تنزل بأسرع وقت ممكن كي تتحرر من خوفها المريع من أي ذكر يحاذيها، وهذا ناجم ربما عن تنشئةٍ اجتماعية خاطئة تعرضت لها الفتاة مثل معظم النساء اللواتي نصادفهن هنا وهناك. أما العلة فتعود لقيمنا الاجتماعية التي ألبسناها ثيابا أخلاقية أضيق منها.
المقصود تحديدا هي الثقافة الذكورية التي سُجنت فيها الأنثى منذ قرون وقرون حتى باتت مجبرة عبرها على تلبس قيم موروثة عن آبائنا وأجدادنا، قيم انتصرت بها الذكورة ومفاهيمها وفهمت بها المرأة على أنها مجرد جسد يحمله كائن متشيطن وإغوائي ارتبط بالرذيلة والكذب والكيد. كل ثقافتنا تدور حول هذه الدائرة وهو ما يشير له باحثون وباحثات كثر كرجاء بن سلامة ونوال السعداوي وخالدة سعيد وفاطمة المرنيسي وغيرهم.
إن خالدة سعيد، وهي ناقدة عربية شهيرة، تقول بهذا الصدد ان "الأحكام والتصورات التي التصقت بكيان المرأة عبر العصور تبنى على الخصوصية الأنثوية الجنسية، إذ تضخم هذه الخصوصية تضخما يلغي بل يبتلع البعد الإنساني العام للمؤنث، وهذا التوكيد على الخصوصية تمثل بتقويم المرأة حصرا بمظاهر الفيزيولوجيا بوظائف الجنس وإنتاجيته". ومن ثم انتقلت هذه الصورة السلبية المعممة عن المرأة إلى مرحلة تبنيها من قبل المرأة نفسها فصارت الأنثى في موقف مذعن راضخ وموافق على هذه الصورة. لقد اقتنعت المرأة تماما أنها، بالنسبة للذكر،أشبه بالكبريت الذي يمكنه إشعال البنزين، ولكي تتخلص من هذا الهاجس أو تجهضه، كان عليها تلبّس قناع صنعته لها الثقافة الذكورية، أعني قناع الشخصية الأنثوية المبالغة في تمترسها من الآخر، "الثكيلة" الكيسة التي لا تبين فيها مزايا "شيطانية" كالتبرج والميوعة والوقاحة في النظرات والتحرر في الجسد. وفي الوقت عينه، عليها أن تبدي أكبر قدر من عدم الثقة بالآخرين، فهم، بنظرها، خصوم كلهم ولا يتورعون عن إغوائها إذا وجدوا الفرصة لذلك. انها في حرب ضروس، إن خرجت إلى الشارع، فتسير مطرقة مسرعة، تتصنع الصلابة والتحجر، لا ينفتح فمها إلا للضرورة القصوى، ولا توجه كلامها للذكر ولو كان بسن جدها.
إذا أرادت النزول همست لنفسها - نازل، فيتكفل أحدهم بإيصال الرسالة للسائق - يابه عندك نازل نازل. وهذا ما فعلته جارتي بعد حين. همست - نازل فسمعها السائق لأن مقعدنا "المشترك" كان خلفه.
الحقيقة أن نمط هذه الشخصية الصامتة يختفي تماما في البيت أو في مجتمع الإتاث داخل الشعبة فتظهر الصبية مرحة لطيفة يمكن إن تلقي النكات أو تغني أحيانا. لكن بمجرد الخروج إلى الحياة العامة تعود لتلبس تلك الصورة التي حدثتكم عنها، فهي خرساء طرشاء وشبه عمياء. ولدي بهذا الجانب حكاية شعبية جميلة رواها لي أحدهم ذات يوم ولعلي راجع لها في وقت لاحق فانتظروني بارك الله ببناتكم.
مقالات اخرى للكاتب