حين يخلو الإنسان إلى نفسه يفترض أن يكون صريحاً معها وهو يدرس بعناية الملاحظات التي ترد إليه من اصدقاء ومعارف حول الآراء التي يطرحها والمواقف التي يتخذها وأساليب تناول تلك الآراء والمواقف. ولا شك في أن الإنسان وهو يمارس السياسية في بلادنا يمكن أن يرتكب الأخطاء، إذ إن الإنسان العراقي يواجه سياسات مجنونة وسياسيين أنصاف آلهة وأخطاء لا أول لها ولا آخر. ومن هنا ينشأ الاحتمال بارتكاب خطأ هنا أو هناك.
في الغالب الأعم كنت وما زلت وسأبقى شديد المحاسبة مع النفس، وحين أجد نفسي قد أخطأت في مكان ما أو قضية ما، أكف عن الكتابة لفترة لأفكر في القضايا والأساليب التي يفترض بي تناولها حين أطرح أفكاري وأعترف بالخطأ، إذ إن مسؤولية الكتابة كبيرة أمام القارئات والقراء والكتاب والكاتبات، خاصة إذا كان الإنسان من المشاركين في معمعان النضال السياسي والحياة السياسية العراقية منذ ما يزيد عن ستة عقود.
قبل يومين اتصلت بصديق عزيز، ينحدر من ذات المدينة التي ولدت فيها ويعيش في ألمانيا، أسأله عن حالته الصحية وإذا به يعاتبني على شدة نقدي لرئيس مجلس الوزراء العراقي نوري المالكي. ناقشته في ما أرى في سياسات نوري المالكي، ولكنه كان مصراً على رأيه واكتفيت بالقول: لكل منا رأيه. وبالأمس اتصلت بصديق آخر مشترك بيننا ومن جنوب العراق ويعيش بالأردن، أسأله عن حالته الصحية بسبب مرض ألم به، وإذا به يقول لي بأننا نحن بعض الأصدقاء نرى بأنك شديد على المالكي وبنفس الأسلوب والحجج التي طرحها الصدق الأول، إذ بينهما اتصال مستمر. لم أشأ أن أعكر صفو الصداقة مع الأخير ورجوته، وهو المالك للخبرة السياسية أن يعيد النظر بما يراه في كتاباتي. وليس أمام إلا أن أقول لهم لكم رأيكم ولي رأيي، وكما جاء في القرآن، لكم دينكم ولي دين!
ورغم ذلك فكرت كثيراً في ما قاله الصديقان وخلوت إلى نفسي حقاً أكر في ما قالاه لي والحجج التي استندا إليها. توصلت إلى ثلاث حقائق مرَّة في ما طرح عليَّ من ملاحظات:
1ـ إن الصديقين يعتقدان بأني ومن منطلق التأييد للكرد من جهة، ولأياد علاوي من جهة أخرى، أقف هذا الموقف من نوري المالكي.
2ـ وإن الصديقين وهما ضمن المتعلمين والمثقفين قد أثرت فيهما بهذا القدر أو ذاك الموجة الطائفية السائدة حالياً بالعراق، وهو أمر لم يعد خافياً على المجتمع العراقي بأن جمهرة من المثقفين أنجروا بهذا القدر أو ذاك خلف الصراعات الثقافية والخطاب السياسي الطائفي، وهذا الأمر غير محصور بالشيعة فقط، بل يشمل السنة أيضا.
3ـ وإن هذين الصديقين لم تؤذيهما سياسية نوري المالكي ولم يتضررا من جراء ما يجري بالعراق حتى الآن.
وجدت ضروريا أن أكون صريحاً كعادتي في ما أطرحه من أفكار وملاحظات بغض النظر عن العواقب التي يمكن أن تواجهني. وسأحاول أن أتحدث عن هذه القضايا الثلاث في الآتي وبالتسلسل السابق:
1/ أرى بأن الصديقين قد ارتكبا خطأ فادحاً في عدم تمييزهما بين موقفي من الشعب الكردي وقضيته العادلة، وبين موقفي من سياسة رئاسة وحكومة الإقليم والأحزاب السياسية العاملة في إقليم كردستان. وهذا التمييز ضروري بالنسبة لي ولكتاباتي لأن الدمج بينهما خطأ فادح. من الممكن أن يلتقيا أحياناً في الموقف، وأقصد هنا الشعب الكردي والحكومة والقوى والأحزاب السياسية، ومن الممكن أن يختلفا بحكم الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والبيئي القائم في إقليم كردستان. ومن المؤسف حقاً إن الكثير من الأخوة لا يقرأون مقالاتي النقدية لسياسات الإقليم، أو ملاحظاتي النقدية التي اقدمها لمن ألتقي بهم من المسؤولين أو ما نعبر عنه في “التجمع العربي لنصرة القضية الكردية”. وأميز هنا بين النتائج المتحققة للناس في المناطق التي تحت الحكم الاتحادي والمناطق الأخرى تحت حكم الإقليم. ويمكن أن يقرأ من يرغب الكثير من مقالاتي المنشورة في الحوار المتمدن وصوت العراق وغيرهما والتي تتسم بالرؤية النقدية لسياسات التحالف الكردستاني أو رئاسة وحكومة الإقليم، سواء بالنسبة لغياب التحالف مع القوى الديمقراطية بالعراق، أم بالنسبة للسياسة النفطية الكردستانية، أم بالنسبة للحريات العامة بالإقليم، إضافة الى العلاقات العشائرية السائدة في الإقليم والحزبية الضيقة وتوزيع الوظائف السياسية الأساسية إلى حدودالمستشارين والخبراء والمدراء العامين والمدراء بين الحزبين الحاكمين نزولا الى ابسط المناصب في دوائر الحكومة، وكذلك وجود انتشار واسع للفساد المالي والإداري يعترف به المسؤولون ولكنهم يطالبون بعدم المبالغة!! وأشرت الى إن الأسباب وراء الصراع الدائر بين حكومة الإقليم والحكومة الاتحادية ناشئ عن أسباب كثيرة منها بشكل خاص: صياغات دستورية غير دقيقة وغالباً ما تكون حمالة أوجه في مسألة تحديد الصلاحيات للحكومتين الاتحادية والإقليم؛ غياب القوانين الضرورية المنظمة لهذه العلاقات؛ رغبة الحكومة الاتحادية بفرض المركزية الشديدة كتقليد عراقي قديم، ورغبة رئاسة وحكومة الإقليم بالاستقلالية الزائدة وما ينشأ عن ذلك من اختلاف وصراع؛ وهو ما نلاحظه بين الحكومة الاتحادية ومجالس المحافظات والمحافظين أيضاً، وكذلك الابتعاد عن إيجاد حلول عملية للمشكلات القائمة والتسويف بها، ومنها ما يطلق عليه بالمناطق المتنازع عليها، وتراكم هذه المشكلات وتفاقم عواقبها السلبية… الخ، إضافة إلى انعدام الثقة المتبادلة بين القوى والأحزاب السياسية الحاكمة، وكذلك بالنسبة للاختلاف بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم التي لم تنشا من طرف واحد، بل إن الطرفين مسؤولان عن التوتر الجاري في هذه العلاقات، وبالتالي من الخطأ الفادح التفكير بأن موقفي ناشئ عن انعكاس لمواقف الكرد من حكومة نوري المالكي. إن سياسة المالكي تكسب الأعداء والمعارضين يوماً بعد آخر وعاجزة عن كسب الأصدقاء والمؤيدين والمؤازرين.
في هذه الأيام قررالطرفان (الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم) التهدئة بينهما, لأن نوري المالكي متورط في المشكلة مع القائمة العراقية وقوى أخرى في المحافظات الغربية، وبالتالي فهو يريد أن يتفرغ لهم من خلال فترة استراحة مع الإقليم ومساومة معينة، ولكن سرعان ما يتراجع عنها. وقلت إن موقف القيادة الكردية غير سليم لأن هذا يضع الجماعات الأخرى في مواجهة حكومة المالكي التي سوف تزيد اللوحة تعقيداً، ومن ثم يتحول الملكي صوب إقليم كردستان بعد أن ينتهي من القائمة العراقية ومن المعتصمين في المحافظات الغربية، تماماً كما كان يفعل صدام حسين في تكتيكاته المجنونة والخائبة. وقد نشرت هذا الرأي قبل عدة ايام في مقال لي تحت عنوان “الكارثة المحدقة.. كيف يعالجها الشعب”.
أشعر بأن جواً قومياً ضيقاً وشوفينيا ينمو بين مجاميع من العراقيين العرب موجه ضد الشعب الكردي بذريعة سياسات حكومة الإقليم. يفترض بهؤلاء أن يمارسوا النقد ضد سياسات رئاسة وحكومة الإقليم, إن كانت لديهم ملاحظات كما أفعل أنا، بدلاً من اتهام الشعب الكردي بالانتهازية وعدم التمييز بينه وبين الحكومة أو التحول ضد الشعب الكردي من منطلق شوفيني مرفوض.
أما بالنسبة للموقف من القائمة العراقية فقد أشرت وفي أكثر من مقال بأن القائمة العراقية تلهث وراء السلطة، تماماً كما تلهث قائمة دولة القانون، وكلاهما لا يعمل لصالح الشعب، حسب رأيي، بل لصالحه الخاص، أي لصالح المالكي وعلاوي وكلاهما انتهازي ومستبد وقد جربنا الاثنين. كلاهما ينطلق من مواقع ذاتية ولا يمكن تأييد علاوي أو أسامة النجيفي وأخيه لأنهما طائفيان وشوفينيان بامتياز، وأرى إن هؤلاء الساسة غير صالحين لحكم العراق. وهم يشكلون جزءاً من المحاصصة الطائفية المسؤولة عن مصائب البلاد.
أما نوري المالكي فهو رئيس الوزراء وتمنيت له حين جاء الى الحكم أول مرة أن ينجح في الابتعاد عن الطائفية التي وقع فيه رئيسه السابق، إبراهيم الجعفري، وأن يسلك سلوكاً مدنياً ديمقراطياً رغم صعوبة هذا الموقف عليه بسبب طبيعة الحزب الذي يترأسه والتربية التي نشأ عليها طيلة حياته والهيئات التي قادها في حزب الدعوة قبل الوصول للحكم وبعده. ولكنه برهن بما لا يقبل الشك بأنه ليس برجل دولة وهاجسه الأساسي هو الأمني والقوة وليس الحوار. والمصائب التي تواجه الشعب في هذه الأيام لعب المالكي دوراً كبيراً في إيصال البلد إليها، وهو من دعاة التقسيم الطائفي للبلاد عملياً، رغم اتهامه للآخرين بذلك. ولهذا أنا ضد سياسات نوري المالكي ولست ضد شخصه. فأنا لا أعرفه شخصياً ولا أحتاج إلى التعرف عليه، ولكني أتعرف عليه يومياً من خلال المنهج الذي يسلكه والسياسات التي يمارسها والعواقب التي نجمت حتى الآن من تلك السياسات واتوقع المزيد من المشكلات إن واصل الحكم بهذا النهج.
أقول للجميع وبصراحة تامة ما يلي: لو إن المالكي توفرت له ما توفر لصدام حسين من ظروف لأصبح مثله وأكثر منه، ولكن ظروف البلاد والاتفاقية الأمنية مع الولايات المتحدة ومسؤولية الأمم المتحدة ووجود العراق تحت مطرقة البند السابع ووجود إقليم كردستان العراق ووجود معارضة سياسية لم ولن تسمح له في أن يكون صدام حسين الثاني، ولكنه يمتلك مستلزمات تؤهله لتقمص مثل هذه الشخصية السياسية.
إن الدولة العراقية حبلى بالأحداث الخطيرة والتي لم تكن لتصل إليها إلا بسبب سياسات المحاصصة الطائفية المقيتة والركض وراء المصالح الحزبية والشخصية الضيقة من جانب الأحزاب الحاكمة، وهي ليست مسؤولية نوري المالكي وحده، بل مسؤولية القوى السياسية المشاركة في الحكم كافة. ويبقى رئيس الحكومة يتحمل المسؤولية الأكبر لأنه يشدد من الصراع الطائفي ويدفع بالآخرين لتشديده لأغراض تكتيكية قصيرة النفس تذكرنا بتكتيكات الحكم السابق وإن كانت باتجاهات أخرى ولكنها تخلق ذات العواقب.ولا شك في إن مستشاريه سيحاسبهم الشعب على طريقة عملهم معه والعواقب الناشئة عن دورهم في ما يجري بالبلاد.
2/ من تابع بإمعان مجرى الانتخابات السابقة، وكذلك الأخيرة إلى حد ما، سيجد نفسه أمام حقيقة مفادها أن جمهرة من المتعلمين والمثقفين قد اتجهوا صوب الالتزام بالطائفة والطائفية وانجروا وراء الشعارات التي تتحدث عن “يريدون السنة أخذ السلطة منا ولن نعطيها لهم”، تماما كما قالها نوري المالكي في إحدى تجليات صراحته القليلة. وما تزال هذه الظاهرة فاعلة إلى حد كبير بين أوساط أشباه المثقفين وبعض المثقفين والانتهازيين. وقد كتب عن ذلك الصديق الدكتور فالح عبد الجبار بصواب في مقالته الأخيرة الموسومة “في تقسيم الأوطان: خبل السياسي وارتباك المثقف” المنشورة في الحوار المتمدن يوم 2/6/2013 حيث كتب يقول بصواب “وإذا كان خبل السياسي في جنوحه الى التقسيم خوفاً على ضياع سلطته المباشرة جلياً ومفهوماً، فإن ارتباكات المثقف وأوهامه بصدد الانقسام الطائفي وسبل ترميمه، تطفح أحياناً بسذاجة كاملة في الأوساط العراقية كما السورية. فهناك غياب شبه تام لأي حس نقدي تجاه الظاهرة، بل ثمة تماهٍ احياناً مع الانتماءات الطائفية بحجة وجود «وعي» سنّي أو شيعي، أو بحجة حداثة مفتقدة في وعي وفي حركة النشطاء (الأولى نقد الحداثة المفتقدة في وعي المثقف)”. أكتفي بهذا القدر. اتهمني أحد الكتاب مرة بأني مصاب بعقدة “الشيعة”، وأجبته على اتهامه، واقتنع بأجوبتي وكف عن ذلك وأصبح اليوم أحد اشد الناقدين لسياسة الحكومة المالكية.
3/ أدرك إن الصديقين لا بد وإنهما يحسان بآلام وآمال الشعب العراقي والكوارث التي يعاني منها الشعب، باعتبار أنهما يقفان في مواقع وطنية وتقدمية، ولكن مع ذلك يجدان في كتاباتي النقدية الأخيرة لسياسات المالكي زيادة عن اللزوم! ولكن أين هي الزيادة وأين الخطأ في مواقفي؟ يتفقان بالوضع الكارثي الذي يعاني منه العراق ولكنهما لا يجدان البديل غيره، وهذه الحجة يوردها أنصار المالكي ذاته، ولكن ليس المعارضين له. لو غير المالكي سياساته باتجاه تصويبها وحل المشكلات القائمة على أسس فكرية وسياسية وليس أمنية وعسكرية لما وقع في هذا الوحل الراهن ولحل الأزمات المتشابكة والمستعصية سياسيا واقتصادياً واجتماعياً.
إن الصديقين مثلي يعيشان في الخارج، ولكني أقوم بأكثر من أربع الى خمس مرات في السنة بزيارة العراق وتصلني عشرات الرسائل شهرياً حول الوضع بالعراق وحول سياسات المالكي واقرأ كتابات القوى والأحزاب الحاكمة والمعارضة وأتابع سياسات الحزب الشيوعي العراقي والتيار الديمقراطي والشخصيات السياسية المستقلة. وكلها تشير إلى الكارثة المحدقة التي وضع العراق بها كل من المالكي وغيره من الحاكمين بسياسة المحاصصة والصراع على السلطة والمال والتحكم بهما.
لو غير المالكي نهجه وسياساته الراهنة ومارس السلطة بحكمة وعقلانية وتجنب الفردية في الحكم هل يمكن تأييده؟ لماذا لا؟ طبعاً ممكن تأييده، ولكه هل هو قادر على ذلك، وهل يسمح له من هم حوله في الداخل والخارج أن يغير هذه السياسات؟ وهل تسمح له طبيعته الإيديولوجية وتربيته “الدينية” المشوهة؟ هنا هو المقتل وليس في مكان آخر.
ورغم هذا أقول للصديقين وفي خلوتي التي اطرحها بصوت مرتفع:
لكم حقكم في ما تذهبون إليه ولي حقي في الرؤية والتحليل والاستنتاج والكتابة والنشر. ونترك للزمن أن يقرر من كان منا على حق! شريطة أن يسود الاحترام المتبادل في تبادل وجهات النظر وبعيداً عن الاتهامات والإساءات التي لا تستند إلى حقائق الأمور.
مقالات اخرى للكاتب