قبل أكثر من سنتين قلتها؛ إن المثقف العربي طائفيٌّ بامتياز، فقامت عليّ الدنيا ولم تقعد. قلتها، ثمَّ فصّلت في الأمر زاعما أنَّ أشجار الثقافات الاجتماعية، في العالم العربي، التفّتْ على حديقة الثقافة العالمة والتهمتها فتحولنا إلى ماركسيين وقوميين، حداثويين وتقليديين، بينما نحن في الواقع سنّة وشيعة، مسلمون وأقباط . قلت هذا فتحفظوا عليّ لدرجة أنَّ إحدى أهم الناقدات العراقيات اتهمتني بالطائفية. تذكرت أقوالي تلك بينما أنا أقرأ مقالة تضحك الثكلى كتبها عبد الرحمن الراشد، المثقفُ السعودي المحسوب على دعاة التحديث والعلمانية. الإعلامي الذي كنت أحببته قبل سقوط النظام السابق يوم كان يعمل مقابلات رائعة في فضائية (المستقبل) اللبنانية فيحاور بشكل ذكي ويسأل بروح منفتحة.
لقد كتب الراشد قبل أيام ممتدحا يوسف القرضاوي فقال إنَّ مراجعاته "حدثٌ مهم". وكان يقصد خطبته الأخيرة في مسجد عمر بن الخطاب في الدوحة، ودعوته الصريحة لحرب الشيعة وتحريضه المخزي للسنة كي يذهبوا لسوريا ويقاتلوهم.
ما أحزنني وأحبطني أن الراشد لم ينتبه لهذه الدعوة الخطيرة، إنما الذي استثاره هو ندم الشيخ كونه دافع، قبل سنوات، عن حسن نصر الله واعترافه ـ أي القرضاوي، بصواب رؤية "المشايخ الكبار في السعودية" إذ كانوا "أنضج مني وأبصر منّي؛ لأنهم عرفوا هؤلاء على حقيقتهم.. هم كذبة".
نعم، مثقفٌ بحجم الراشد لم يستثره قول القرضاوي إن العلويين "أكفر من اليهود والنصارى"، ولم ينتبه لخطورة دعوته "كل المسلمين حول العالم إلى التوجه نحو مدينة القصير السورية لمقاتلة حزب الله". لم تحزنه ولم تخفه النبرة الطائفية المقيتة في هذا الطرح رغم أنَّ الأمر، في سوريا، كما دأب الراشد نفسه على القول، يتعلّق بصراع بين شعب ونظام، فما شأن المليار و300 مليون مسلم الذين يدعوهم الشيخ للتطوّع في الحرب؟
كانت الخطبةُ مخزية، وقد ذكرتني شخصيا بحروب القرون الوسطى، يوم كان أئمة السوء يجمعون الناس كالغنم ويحرضونهم ليتقاتلوا انطلاقا من اختلافاتهم الدينية والمذهبية. مع هذا، لم ير أحدهم من الخطبة سوى اعتراف قائلها إنه خُدع بفكرة التقارب بين السنة والشيعة. وهذا معناه أن إبادة الآخر هو الحل.
لا أريد أن أظلم الراشد فأقول إنه يداعب مشاعر (المشايخ الكبار) في السعودية. لكنني حزنت بسبب فضيحة المثقف العلماني، هذا الذي انتصرت ثقافته الشعبية على ثقافته العالمة، وظهر، خلف بدلته ورباط عنقه، جلباب قصير ولحية كثة، ومعهما نداء عتيق لقتل الآخرين تحتَ مسمّى طائفي. نداءٌ مكانه متحف الأفكار الواطئة حيث ذبح تحت لوائه ملايين الناس من كلِّ الأديان والأعراق والأصول، بدءا من إبادة الزنوج، مرورا بحرق اليهود، وليس انتهاءً بقتل الشيعة والسنّة في حربنا الطائفية اللعينة.
لست مع تدخّل الآخرين في الشأن السوري وتحويله لبؤرة صراع إقليمي يأخذ طابعا طائفيا. لا يحقّ لأحد ذلك، لا شيعة ولا سنة. فالشأنُ محليٌّ محض، ونحن، في العراق، جربنا ذلك قبل السوريين، ولطالما شتمنا القادمين لساحتنا وقلنا لهم ـ مالكم ولنا أيها المتخلفون القتلة؟ إذهبوا عن بلادنا أذهب الله بصيرتكم.
نعم، القرضاوي الذي حرّضَ علينا، وسفكت دماؤنا بسبب خطبه، يعود اليوم ليغذّي حربا طائفية عارمة في المنطقة. تراه يخطب ويفتي مكفّرا الناس جهارا نهارا. ثم رغم ذلك، يأتيك مثقفٌ ليبرالي قضى نصف حياته في الغرب، فيمتدحه ويضرب (تعظيم سلام) لواحد من أسوأ اعترافاته، أعني الندم عن حمل فكرة التقاربِ المذهبي والدعوة إلى إبادة طائفةٍ بأكملها. قلت ذلك إذن وتحفظوا عليّ لكنني أكرره؛ جزء كبير من المثقف العربي طائفيُّ، وما زال حبيس مرويات عمرها من عمر مآزقنا. قد يتغنّى بقيم الحداثة ويرتدي البدلة الأوروبية، قد يقرأ ماركس أو هيغل، كانط أو نيتشه، لكنه، في الجوهر، يتمايل طربا حالما يسمع خطبة القرضاوي أو نقيضه.
تراه ينصت للنشيد البربري فينتعش. ثم يختار زاوية ما تناسب أقنعته. وفي الأخير، يقول ما يقول، مستلهما صدى ثقافته الشعبية، ذلك القادم من كهفنا القديم.. ويا عجبي!
مقالات اخرى للكاتب