منذ سبعينيات القرن الماضي كنا نسمع عن كركوك المدينة الكردية التي هجّر النظام اهلها واتى بقوم آخرين يسكنون ديارا خاوية على عروشها تشكوا تهجير اهلها الاصليين وابعادهم الى مدن في الجنوب العراقي لتلتقي مأساة الاستبداد بحق الكرد المهجرين والشيعة المقهورين بشتى صنوف القهر البعثي المليئ بالحقد والاجرام .
واستمرت الذاكرة تختزن اساليب الظلم والقهر والجوع والحرمان التي استغلها الصداميون بأبشع صورة عندما سن النظام البائد قانونا شيفونيا يقضي بتعريب كركوك وتغيير الطبيعة السكانية فيها وذلك بتوزيع اراضي ومنحة بناء مقدارها عشرة آلاف دينار عراقي وهو مايعادل الثلاثين الف دولار حينها وقد عرف المستفيدين من ذلك القانون السيئ الصيت بـ ( عرب عشرة ) اي العرب الذين اتت بهم العشرة آلاف دينار .
لانريد هنا ان نثير المواجع والآلام ولكننا نريد ان نؤشر الى قضية هامة قد تطيح بالعملية السياسية في العراق الجديد برمتها وعندها سيكون الجميع خاسرا الا المتربصين بنا من البعثيين ومنظمات الارهاب الدولية المتمثلة بتنظيم القاعدة الاجرامي فهي الوحيدة المستفيدة من تناقضات الحالة العراقية التي هي بحقيقتها نزاع مصالح شخصية وان ارتفعت فلا تبتعد كثيرا عن كونها مصالح فئوية او حزبية ضيقة .
اننا اليوم امام واقع جديد لابد ان نعترف به عاجلا ام آجلا فكركوك مدينة تعايش سلمي بتنوع مكونتها الا ان الصبغة الكردية هي اللون الظاهر على اطارها العام تأريخيا واجتماعيا ولاتختلف كثيرا عن واقع مدينة بغداد، فبغداد يعيش فيها كل الطوائف والاثنيات العراقية لكن لا يمكن ان يختلف اثنان على ان صبغتها العامة هي صبغة شيعية، تأريخيا كونها مركز المرجعية الشيعية قبل انتقالها الى النجف لظروف سياسية قاهرة وكذلك من ناحية الطبيعة السكانية التي يمثل الشيعة قرابة الـ 70% من عدد سكانها .
ولا نأتي بجديد لو قلنا ان العهد السياسي الديمقرطي بعد سقوط النظام لم يكن جادا في انهاء مشكلة كركوك بالرغم من تعهد كافة السياسيين بتنفيذ المادة 140 من الدستور العراقي القاضية بأجراء استفتاء يٌقرر على اساس نتائجة تابعية المدينة الى اقليم كردستان بل لم تخجل عضو مجلس النواب السيدة حنان الفتلاوي من التصريح علنا انها كانت تحيك المؤمرات طيلة الاربع سنوات الماضية من اجل عدم تطبيق المادة 140 وهي مخالفة دستورية صارخة كفيلة بأحالتها الى المحكمة الاتحادية لرفع الحصانة عنها والغاء عضويتها في مجلس النواب .
اليوم وبعد ان شرخت اسماعنا تصريحات النواب الضباع طيلة السنتين الماضيتين بأن المادة 140 اصبحت لاغية قانونيا بتقادم السنين نراهم اليوم بوجوه نكرة لا حياء لها وبعويل جديد متباكين على المادة 140 ووجوب اللجوء اليها لتقرير مصير هيكل العرب المزعوم في كركوك والمناطق المتنازع عليها الاخرى، هذا بعد ان دخلت قوات البيشمركة الكردية الى المدينة لحمايتها من الدواعش الذين كانوا قاب قوسين او ادنى لدخول المدينة بعد هروب جماعي للجيش العراقي المتمركز فيها ... وكلنا يعلم ما ستؤول اليه الامور فيما لو دخل الصداميون ورفقائهم الدواعش الى المدينة المكبلة بجراحاتها التي كانت تنزف على مدى العشرة سنوات الماضية .
الحقيقة لم اكن اعلم ماكان يفكر به وما الذي كان ينتظره القادة السياسيون المتغلغله في نفوسهم الثقافة البعثية الشيفونية من نتيجة الاستفتاء الذي قررته المادة 140 وما هي ردود افعالهم فيما لو نجح الاستفتاء بضم كركوك الى كردستان لكنني علمت اليوم جيدا بأنهم لم يكونوا جادين في تنفيذ المادة 140وانما استثمروا هذه المادة كبقرة حلوب تدر عليهم مزيدا من المناصب التي كانوا ينتزعونها من المكون الكردي مقابل وعود كاذبة ماكرة في تطبيق المادة 140 علما ان المادة 140 لا تختص بكركوك فقط وانما هي تشمل مناطق اخرى في الجنوب العراقي تنازعت عليها محافظات شيعية الطابع كعائدية قضاء النخيب الى كربلاء المقدسة وعائدية قضاء سامراء والدجيل وبلد الى بغداد.
اننا اليوم امام حالة جديدة وهي اصرار الحكومة المركزية على تطبيق المادة 140 والتي كانت تسميها بالمادة الميتة المنتهية الصلاحية بعدما دخل الكرد الى كركوك وانقذوا اهلها من الذبح على الهوية علما ان المستفيد الاول من وجود البيشمركة في كركوك هم الشيعة العرب والتركمان الذين تستهدفهم السكاكين الداعشية بعد ان تخلت عنهم جيوش الحكومة المركزية وتركتهم يواجهون مصيرهم مع الغزاة الدواعش .
ارجوا ان تلجئ الحكومة المركزية الى نداء العقل والضمير وتترك لكركوك هويتها التي عملت الحكومات العراقية السابقة على مسحها من الذاكر التأريخية عبثا فالتأريخ بكل آلامه لكنه ليس حكرا على المستبدين وانما للمضطهدين فيه فسحة تٌسجل فيه حقوقهم والتراب الذي يذره الظلمة في العيون هو نفسه ستمتلئ به الافواه .
مقالات اخرى للكاتب