لست من دعاة التقسيم بالتأكيد وإن كنت لا أجد ضيرا من الفيدرالية بوصفها نظاما إداريا. أقول هذا اليوم في ضوء ما أسمعه من دعوات لما يطلقون عليه "إقليم سومر" أو "دولة سومر" أو ما شاؤوا من تسميات تختلف شكلا وتتفق مضمونا.
ذلك أنها تنطلق جميعا من رؤية تجزيئية ليست سوى نتاج للتغيّرات الجوهرية في أفكار العصر. الحال أن الموضوع معقد وليس كما يبدو عليه من تبسيط يشيع في ردود الأفعال على الدعوة وتسفيه للقائلين بها أو تخوين لهم بوصفهم يرغبون في تفتيت البلد بإرادة خبيثة أو تنفيذا لأجندات خارجية.
رأيي في الموضوع ينطلق من فهمٍ لما يسميه الباحثون بـ"تاريخ الأفكار"، وهو تاريخٌ متغير بتغير الظروف ومتأثر بها. في كل عصر ثمة أنساق تسود وأخرى تختفي، وهذه الأنساق هي التي تنظم رؤى الجماهير ومواقفها في ما يتعلق بهوياتها الوطنية وانتماءاتها، علاقتها بالهويات الأخرى، قريبها وبعيدها. وعادة ما تكون هذه الأنساق متحكمة بحيث لا يمكن الخلاص منها. إن تكن منتميا لسياق ثلاثينيات القرن العشرين أو أربعينياته فإنك ستجد نفسك منسجما مع مقولات تبدو سخيفة ممجوجة بالنسبة لحفيدك الذي يعيش في بداية القرن الحادي والعشرين. والسبب لا يعود لسخف رؤى هذا أو ذاك قدر ما هو عائد لاختلاف الأنساق الفاعلة في كلا العصرين.
الأحرى، أنه إذا ما كان نسق اليوم هو النزوع للاستقلال وتجزئة الهويات الكبرى وتكوين هويات جديدة قد تبدو صغيرة ضيقة الآن، فإن آباءنا كانوا عاشوا في عصر ساد فيه نسق مناقض من كل الوجوه، نسق ينزع إلى توحيد هويات فرعية وقسرها على الذوبان في هوية شاملة. كان النسق قد ابتدأ منذ بواكير القرن العشرين وترسّخ بشكل نهائي في نهاية الأربعينيات، أي مع بداية حقبة الاستقلال من الاستعمار وتكوين الدول ذات النزعة الوطنية وأغلبها انطلق من فكرة سيادة الهوية القومية على باقي الهويات الفرعية.
أقول انه منذ الخمسينيات وحتى بداية التسعينيات كان نسق العصر، في العالم العربي، لاسيما في مشرقه، هو التوحّد، وكان من الطبيعي، وفق ذلك النسق، أن يرفع العراقي في مظاهرة شعارا يقول - ندعو إلى الوحدة الفورية مع الشقيقة سوريا، وفي الوقت ذاته، قد يصرخ المصري في مظاهرة أخرى ـ ندعو إلى الوحدة الفورية مع السودان. بل في أيامها، قد نصحو صباحا على وقع خطاب انقلابي خلفيته توحيد قطرين "شقيقين"، أو على بيان عسكري يعلن ضم دولة صغيرة في جسم دولة أكبر بداعي الحلم الوحدوي، الحلم الذي ورثه ذلك الجيل من عصر تذويب "الأقطار" فيما سُميّ "الوطن العربي" تخيليا لا واقعيا، فنحن لم نرَ مثل هذا الوطن في التاريخ إلا اللهم في دولة خلافة دينية غير قومية، دولة تقاسمها العرب والفرس والأتراك حتى سقوط الامبراطورية العثمانية.
ما جرى بعد ذلك كان نقيض هذا النسق؛ بدلا من فكرة التوحّد على حساب الهويات الفرعية، حلّ عصر التجزئة على حساب الهوية الكبرى، والبطل هذه المرة جمهور محلي ناقم على كيان يؤمن أنه اضطهده طويلا وأضاع حقوقه ودمر هويته.
الآن أتساءل: ماذا لو أن أحد دعاة "إقليم سومر" وجد نفسه، بانتقالة فنطازية، وسط مظاهرة خمسينية ببغداد تدعو للوحدة مع سوريا؟ بالمقابل، ماذا لو أن الداعي لتلك الوحدة يقفز به الزمن ليجد نفسه في محفل "سومري"، في بصرة 2014، يدعى فيه لإقليم منفصل عن العراق؟ لابد أن كليهما سيضحك طويلا؛ ذاك من دعوة "الخونة" الانفصاليين، وهذا من شعار القوميين "السذج"!
نعم، كلاهما سيضحك وسيغضب وسيسب صاحبه متهما إياه بشتى التهم. في حين أن المنطق يقول انهما، الإثنين، لا يختلفان عن بعضهما بعضا في الجوهر، ذلك أنهما ابنان شرعيان لعصريهما وثمة أنساق تتحكم فيهما، وهذه الأنساق تتبع لتاريخ الأفكار لا الأشخاص.. فتأمل أدامك الله.