عندما عادت زوجتي «عليا» في ساعات المساء من العمل في ارضنا الزراعية مع صديقتها، جارتنا، ام محمد، كنت قد عدت لتوي من عملي المكتبي، وارتديت بيجامتي، واخذت اتصفح احد الكتب الذي تناول في صفحته الاخيرة قصة حب الفيلسوف اليهودي النمساوي الاصل، اندريه غورتس.
كنت قررت في وقت سابق ان لا اصاحب زوجتي في الذهاب الى احدى قاعات الافراح في البلدة المجاورة لحضور سهرة «سلوى» احدى قريبات العائلة.
بعد هذا العمر الطويل لم يعد لي صبر ولا لي جَلَد، على حضور الافراح والاتراح. فالناس في بلدنا غريبون عجيبون في طباعهم وسجاياهم. هم يحقدون ويكرهون، ويحسدون دونما سبب. كنتَ تستطيع ان ترى اثر طباعهم هذه في نظراتهم، وعلى اجسادهم. وكنتُ أنا اخشى على نفسي من العدوى: فهناك علماء يعتقدون ان الامراض النفسية تعدي مثلها مثل الامراض العضوية. فما لي ولهذه الاجتماعات؟!.
ومما زاد الطين بلة ان صديقي الاستاذ ابو عاطف احزنني جدا عندما اثبت لي من خلال سرد تجربته الحياتية «ان فارسنا مذبوح، وكريمنا مفضوح». فقررت بيني وبين نفسي ان اتجنب الناس واعتزل، لاتفرغ للقراءة والكتابة.
قبل ان تذهب زوجتي للاستحمام وتغيير ملابس العمل بملابس السهرة سألتْ ابنها البكر الذي كان يعيش معنا في بيتنا الريفي المؤقت :» شو رأيك تيجي معي؟! بتشوف الناس، وهناك تلتقي اقاربك.. مش مليح اروح لحالي.. شو انا مقطوعة من شجرة؟!
وقد سمعته يقول لها بهدوء: انا لا احضر حفلات الاعراس،منذ متى اشارك بمثل هذه المناسبات؟!.
ثم ان زوجتي ذهبت لتستعد للسفر، بينما بقيت انا جالسا اقرأ عن اندريه غورتس الذي وضع عدة مؤلفات في مواضيع مختلفة. احد مؤلفاته كتاب مؤثر جدا عنوانه Letter to D: A Love Story- « رسالة الى د. قصة حب». وهو عبارة عن رسالة مفتوحة الى زوجته المحبوبة دورين»، بعد ان كانت اصيبت بمرض عضال لا شفاء منه.
وهكذا كتب اندريه: "انتِ بعد قليل ستبلغين الثانية والثمانين، لقد تقلصت بستة سنتمترات. وزنك بصعوبة يصل الى خمسة واربعين كيلوغرام، لكنك جميلة، كلك عطف وحنان، ومحبوبة اكثر من اي وقت مضى. حظيت بالعيش الى جانبك ثمانية وخمسين عاما، ومحبتي لك الان اكبر من اي وقت. لا شيء يملأ فراغ صدري غير دفء جسدك الضعيف الذي يتكىء على جسدي. انني اسمع الان بمخيلتي صوت كاثلين فراري وهي تصدح باغنية «العالم فارغ، لا اريد ان اعيش بدونك». اصغي لانفاسك، واتحسس جسدك برقة وعطف. لطالما قلنا لبعضنا: لو هييء لنا، بطريقة عجيبة، ان نحيا مرة ثانية من جديد، لاخترنا العيش معا".
وقبل ان تخرج زوجتي من البيت كنت قد اتممت قراءة الصفحة: اندريه ودورين قررا في النهاية ان ينهيا حياتيهما في آن وحد معا. لم يكن احدهما على استعداد ان يعيش ولو يوما واحدا بدون الاخر، لفظا انفاسهما الاخيرة في لحظة واحدة. وعندما بحثت عنهما وكيلة البيت وجدتهما نائمين بجانب بعضهما وعلى وجهيهما سيمات الرضا والسكينة الابدية.
عندما جاءت زوجتي بعد ان انهت استعدادها للسفر وجدتني قد خلعت بيجامتي وارتديت ملابسي للخروج معها. عز علي ان تذهب لوحدها بعد ثماني واربعين سنة من العيش معا.
في الطريق سألتني: ما الذي جعلك تغير رأيك؟ قلت: لم احب ان أُسْلمكِ للشارع وللمجهول، فالحديث يقول:»المسلم اخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه» وارجو ان نبقى معا، فلا يفرق الموت بيننا،كما فعل اندريه.
سألتْ: مين اندريه هذا؟ قلت: عاش مع زوجته اكثر مما عشنا معا بعشر سنين، ولم يستطع الموت ان يفصل بينهما.
لكننا عندما وصلنا القاعة ذهبت زوجتي يمينا، وذهبت انا يسارا، فالعادة تقضي بفصل الرجال عن النساء!.