خلال رحلتنا الى جمهورية باكستان الإسلامية لحضور "مؤتمر الإمام الحسين(ع) الدولي على ضوء دائرة المعارف الحسينية" الذي انعقد في مدينة لاهور للفترة 15 و16 حزيران يونيو 2013م، التقينا بوجوه كثيرة تمثل أطياف المجتمع الباكستاني بأديانها ومذاهبها وقومياتها ولغاتها، كما كان المؤتمر الدولي مناسبة طيبة ليعرض كل متحدث على مدار أربع جلسات نهارية ومسائية ما في حوزته بخصوص النهضة الحسينية وشخصية الإمام الحسين(ع) ودور الموسوعة الحسينية في توثيق الحركة الحسينية والجهد اللامحدود الذي يبذله مؤلفها الفقيه المحقق الدكتور آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي في هذا الطريق، ولعل واحدة من الشخصيات التي أثارت الإهتمام هو الدكتور خليفة سيد عباس إقبال النقوي رئيس معهد العلوم الطبية في باكستان (PIAMS) (Pakistani Institute of Advance Midical Sciences)، الذي قاده البحث الطبي خلال عمره المهني الى اكتشاف عشرات الأدوية للأمراض المختلفة، وهي مسجلة رسمياً في باكستان، ولكن المفارقة فيها أن تربة الإمام الحسين(ع) تدخل عاملاً مشتركا فيها بنسب مختلفة خاضعة لمعادلات طبية مختبرية، مستوحياً ذلك من الأثر الشريف: (إنَّ الله عوّض الحسين من قتله أن الامامة من ذريته والشفاء من تربته وإجابة الدعاء تحت قبته)، وهو الى جانب اكتشافاته الطبية يمارس مهنته في عدد من المشافي في لاهور، وكان قبل ذلك له حضوره الطبي في عدد من البلدان كالعراق الذي قضى فيه عقداً من السنين يمارس في جامعاته ومستشفياته التدريس والطبابة.
ولمّا كنا ضيوف دائرة المعارف الحسينية على الشعب الباكستاني، فإن الدكتور النقوي وهو من وجهاء لاهور المولودين بها عام 1948م استضافنا قبيل عودتنا الى لندن على مائدة العشاء في حفل توديع أقامه في فندق پرل کونتنتال الدولي (PC Hotel) (فندق اللؤلؤة القارية) بحضور راعي المؤتمر العلامة الشيخ محمد حسين أكبر، وأهدى إلينا عينات من الأدوية، وما لفت نظري فيها احتواؤها على قصاصة ورق فيها دعاء مأثور في الاستشفاء، وسألته عنها، فقال بوثوق: إننا نؤمن أن الشفاء من الله والدواء من الإنسان، وحتى يأتي الدواء مفعوله قرنّاه بالدعاء، ولهذا أوصي مرضاي قبل تناول دورة من الدواء حسب المرض قراءة الدعاء المعني المستل من أدعية أهل البيت عليهم السلام، فشجعني جوابه على السؤال مرة أخرى عن المرضى الآخرين من غير الديانة المسلمة الذين يعيشون بين ظهراني المسلمين في الباكستان، فرد قائلا: إنَّ طريقتي في العلاج هو أن أقرن الدعاء بالدواء طلباً للشفاء من رب الأرض والسماء، فإن قبل به المريض فبها وإن رفض فهو وشأنه ولا أجبره على قراءة الدعاء ولكني أقدم له النصيحة في هذا السبيل وأشدد عليه لإيماني الكامل بأن الدعاء هو العلاج الروحي والنفسي الذي يمهد ويساعد على العلاج الجسدي عبر الدواء المادي.
ومما يُلاحظ في عمل الطبيب الباكستاني الدكتور خليفة سيد عباس إقبال النقوي أنه التقى مع الطبيب الفرنسي الدكتور الكسيس كارل (Alexis Carrel) (1873- 1944م) -الحائز على جائزة نوبل في الطب عام 1912م لاكتشافاته البيولوجية (علم الأحياء)- في أهمية الدعاء في حياة الإنسان السليم والمريض معاً، وتزداد الاهمية لدى الثاني، وهو ما حدا بالدكتور كارل بعد سنوات طويلة من المهنة الى تأليف كتاب عن دور الدعاء في الإستشفاء أسماه "الدعاء" وضع فيه تجاربه ووصاياه، ونحن نعلم أن الطبيب من طبقة المتعلمين الذين يدركون قيمة العلم والتجارب، وإذا كان الطبيب من شاكلة الدكتور النقوي صاحب التجارب الكثيرة في الدواء وصناعاته والدكتور الكسيسس كارل صاحب التجارب الطبية والمؤلفات الكثيرة، فإن رأيه في الدعاء وتأثيره على صحة المريض يتطابق مع رأيه الطبي واكتشافاته الدوائية، لكن الدعاء دواء روحي غير مرئي ذات شفرة خاصة يتحسسها المريض نفسه تظهر آثارها المنظورة عليه صحة وشفاءً.
على أن الدعاء ليس خاصاً بالمرض، فهو يدخل في كل صغيرة وكبيرة في حياة الإنسان، لكن السقم هو الحالة الأكثر ظهوراً في مسيرة الإنسان، ومن هنا جاء ضرب المثل في تناولي لكتيب "شريعة الدعاء" الصادر حديثا (2013م) في بيروت عن بيت العلم للنابهين في 72 صفحة للمحقق الفقيه آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي مع مقدمة و44 تعليقة للقاضي الفقيه آية الله الشيخ حسن رضا الغديري أبان فيها رأيه على 111 مسألة تضمنها الكتيب مع تمهيد للمؤلف تطرق فيه إلى حقيقة الدعاء وأهميته من خلال العناوين التالية: الأدعية المأثورة، الأدعية المخترقة، حقيقة الدعاء، فوائد الدعاء وآثاره، حدود الدعاء، وعوامل عدم استجابة الدعاء.
سلاح االمقهورين
ربما يظن المرء أن الدعاء خاص بالفقراء والمعدمين والمقهورين، وهي الصفة العامة، ولكن ما بال الأنبياء يدعون؟ وما بال المعصومين يدعون؟ وما بال الأئمة يدعون؟ وما بال الأولياء يدعون؟ وما بال الكفار يدعون، وما بال الموحدين يدعون؟ وبشكل عام، ما بال بني البشر يرفعون أيديهم بالدعاء أو يفتحون قلوبهم الى السماء؟ فهل الكل من طبقة الفقراء؟
بالتأكيد هم ككل ليسوا فقراء بحساب الربح والخسارة الدنيوية، فالناس طبقات فيهم الغني وأكثرهم الفقراء، فيهم العلماء والأطباء والمهندسون ورجال الأعمال وغيرهم وأكثرهم ما دون ذلك، فيهم الموحدون وفيهم الملحدون، فيهم المسلمون وفيهم المؤمنون، فيهم وفيهم، ولكنهم بالتأكيد كلهم وبحساب الربح والخسارة الأخروية هم فقراء، من صغيرهم وكبيرهم، من عالمهم ومتعلهم: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) سورة فاطر: 15، فالكل محتاج الى الله، والكل يدعو، ولكن بالتأكيد أن الدعاء بحد ذاته سلاح صارم لا يحسّ بفِعال شفرته إلا مَن تذوق طعم الدعاء والإستشفاء، ولهذا قال النبي محمد(ص): (الدعاء سلاح المؤمن، وعمود الدين، ونور السماوات والأرض) مكارم الأخلاق: 286، وفي ذلك يقول الإمام علي(ع): (الدعاء ترس المؤمن) عدة الداعي: 16.
وبالطبع لا يعني الدعاء الجلوس في محراب الصلاة وطلب الإماني الدنيوية والأخروية دون عمل وحركة، وإلا أصبح سلاح العاجزين وبضاعة القاصرين، ولهذا يؤكد الفقيه الكرباسي أنه: (لا يصح الإعتماد الكلي على الدعاء، بمعنى عدم العمل في تحقق الموضوع الذي يدعو له، إذ لابدّ من مقارنة الدعاء بالعمل) إلا اذا كان الدعاء لرفع العجز أو المانع الذي يحول دون الحركة، وبتعبير الفقيه الغديري معلقاً على المسألة: (إلا إذا لا يقدر على العمل لمانع صحي أو قانوني أو آخر نحوه، فيدعو الله تعالى لرفع موانعه لكي يستطيع أن يعمل)، وتقتضي توأمة العمل بالدعاء الموازنة بين الجلوس على مائدة الدعاء والحركة في ميدان العمل، إذ: (لا يجوز الإنشغال بالدعاء كلياً وترك العمل ليكون كلاّ على الناس)، ويضيف الكرباسي أيضا: (لا يجوز الإخلال بالحقوق المفروضة عليه بحجة انشغاله بالدعاء لأنّ المستحب لا يقارع الواجب) فيتخلى عن واجباته المنزلية والاستحقاقات الزوجية وغيرها من أمور الحياة اليومية.
ولعلّ من الراسخ في أذهان الناس أن الدعاء خاص بالموحدين، ولا ينبغي الدعاء للآخر غير المسلم أو غير المؤمن بالله، بل ويجب الدعاء عليهم لاستئصالهم من على وجه الأرض، وهذا جزء من ثقافة العنف التي يُراد أن تسود في مجتمعاتنا المسلمة بعيداً عن حقيقة الرسالة الإسلامية السمحة، بل الدعاء ينسحب للمؤمن وغير المؤمن، وهنا يستمد الفقيه الكرباسي من السيرة الشريفة ثقافته ليؤكد أنه: (يجوز الدعاء لهداية غير المسلمين)، إذ كان الرسول الأكرم(ص)، رغم الأذى الذي يتلقاه من المشركين، دأبه الدعاء لهم بالهداية: (اللهم اهدي قومي فإنهم لا يعلمون) حلية الأبرار: 305، لأن الرسالة الإسلامية لم تأت لأهل مكة أو المدينة فحسب إنما هي عامة شاملة لكل البشرية، ومن سمات الشمولية أن تضم تحت جناحيها كل الأمم، فيدعو المرء له وللأمة المؤمنة بالخير والسعادة في الأولى والأخرى، ويدعو للأمة غير المؤمنة بالهداية على طريق سعادة الدارين.
ولكن الدعاء لغير المؤمن لا يعني تركه على الظالم، بل أن دعوة المظلوم هي سلاحه عندما تنعدم الأسلحة لرفع الظلم أو دفعه، والدعاء في جوف الليل بمثابة السهام التي تصيب أهدافها إذا توفر على كامل شروطه، ومن الدعاء على الظالم لعنه، ولذلك يرى الكرباسي أنه: (يجوز لعن الظالم، وإن خاف ظلمه، أو لم يتمكن تشخيصه قال: اللهم العن الظالم أو الظالمين)، في المقابل: (لا يجوز الدعاء للظلمة والحكام الجائرين) ولذلك: (من دعا لحكام الجور باختياره تسقط عنه العدالة)، وحتى في هذه الحالة فإن الدعاء لهداية الظالم تقع في محلها، حيث: (يجوز الدعاء للحاكم الجائر بما لا يخالف الشرع كقوله: اللهم أصلح السلطان، وحنّن قلبه على الرعية وأمثال ذلك).
ولا يذهبن الظن بأحد أن الدعاء باللعن يبيح السب والشتم، لأن: (اللعن غير السب، فاللعن هو الطلب من الله لإبعاد المدعو عليه من رحمته، والسب: هو توجيه الكلام البذيء إلى الطرف الآخر)، بل الامر كما يؤكد الفقيه الكرباسي: (السب لا يجوز مطلقاً لا للمؤمن ولا للمسلم ولا لأهل الكتاب ولا للكافر) ويعلق الفقيه الغديري: (بل والسابّ ملعون مُبعّد من الخير، وقد يكون فيه حجة القذف المحرّم فيوجب الحد أو التعزير)، وهذه في واقع الأمر أخلاق القرآن الذي يعلن على رؤس الأشهاد: (ولَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) سورة الأنعام: 108، ولكن كم من الأدعياء يلتزم بخلق الإسلام فلا يجري السب على لسانه، ويكون ديدنه دعاء الخير لمن يخالفونه في المعتقد لعلّ الله يأخذ بأيديهم الى سبل الخير والسلام، وقليل ما هم!
جهل وتجهيل
استطاعت وسائل الإتصال الحديثة أن تقرب إلى الاذهان الكثير من المفاهيم السائدة في الأدبيات الإسلامية، ومن ذلك مسألة الدعاء ومناجاة الرب الجليل، وبتعبير الكرباسي: (يمكننا أن نصوّر جانباً من حقيقة الدعاء بشكل تقريبي مادي، وهو أن الدعاء رمز يستخدمه العبد في اتصالاته بالرب، فبدونه لا ترتبط الذبذبات اللاسلكية ولا تتصل الأمواج الروحية بالعالم العلوي للتحاور وعرض الطلب)، وعليه فإن: (الله الذي هو أعظم من كل عظيم اختصر الطريق لعبده وجنّبه المعاناة للوصول إليه، فجعل الدعاء الذي لا يكلّفه طي زمان ولا مكان وسيلة للتحدث معه)، فهو إذن: (اتصال حقيقي بالله).
وأفضل الدعاء والمناجاة مع ربّ العزة، ما كان مقطوع الصدور، وهو آيات الدعاء في القرآن الكريم كقولنا: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) سورة البقرة: 201، أو الدعاء بالمأثورة عن النبي الأكرم محمد(ص) وأهل بيته كما يؤكد الفقيه الكرباسي: (أفضل الأدعية ولا يعادله أي دعاء آخر) ولا يعني ذلك عدم شرعية الأدعية المولَّدة والمخترعة شريطة أن تكون صادرة من العلماء الأعلام وغير متقاطعة مع العقيدة والشرع وغير مختلّة اللغة والأدب وتكون على ضوء القرآن والسنة الشريفة.
ومن المظاهر الباعثة على القرف، استخدام وسائل الإتصال الحديثة للترويج الى أدعية مغلوطة أو مولدة ومخترعة وإلباسها لباس الحق أو نسبتها زوراً الى المعصوم أو بما يوحي الى ذلك، وكل مروج لدعاء يضع من نفسه شروط الرضا والقبول، والرحمة والنقمة، ويدخل أناساً جنة نعيم ويسوق آخرين الى عذاب مقيم، وبعضهم يروّج لدعاء سليم ولكنه يشترط في قبوله نشره وارساله لعشرين أو أربعين أو مائة شخص حسب الرغبة وإلا حلّت به الندامة ولا ملامة، وهذه واحدة من وسائل الجهل التي تشيع لها جهات مشبوهة لتركيز الجهل في الأمة، ففي الأمس القريب كانوا يضعون قصاصة الدعاء بين طيات نسخ القرآن الكريم وكتب الأدعية المنتشرة في المساجد والجوامع والمراقد ويحمّلون قارئها ضرورة استنساخ العشرات منها وتوزيعها وإلا ضاقت به الدنيا(!) واشتبكت عليه الأعصر، واليوم راحوا يستخدمون وسائل الإتصال الحديثة للغرض الجاهل والتجهيلي نفسه، ولهذا يقرر الفقيه الكرباسي بهذا الخصوص أنّ: (هناك ادعية تُنشر ويُطلب من القارئ أن يسعى إلى نشرها وفيها الكثير من المبالغات في تأثيرها على الناس، فإنّ غالبها يتضمن الكثير من الإنحرافات، فلا يجوز الدعاء بها والسعي في نشرها)، ويضيف الغديري معلقاً: (وكذلك بعض الأوراد المنقولة من الناس المجهولين لإغواء المؤمنين وإغرائهم بالجهل كما هو المتعارف حالياً عبر الهاتف ويذكر فوائد كثيرة موهومة ومنها من الوعد والوعيد في عدم المبالاة بها، فلا قيمة لمثل تلك الأوراد والأدعية والأعمال الخاصة مثل ما يذكر بأنّ هذه الكلمات إذا تُقرأ مرة فتقضى الحاجة خلال أربع وعشرين ساعة وإذا أُهملت فقد تكون سبباً للهلاك خلال كذا مدة) ويؤكد الفقيه الغديري مضيفاً: (فهذا التطمع والتخويف يحرم قطعاً).
يا ليت قومنا يعون حقيقة الدعاء ولا يستخدمونه سلعة لترويج الجهل وتجهيل الناس واللعب بالعواطف والمشاعر، بل تكاد الأمة في زمن الضعف والخوار، وهو ما نعيشه في أكثر من بلد، بمسيس الحاجة الى الأدعية الصحيحة المأثورة حتى يعود إليها توازنها وترتوي النفوس الجدبة ويثمر زرعها في الأرض الخصبة، تماماً كما فعل الإمام علي بن الحسين السجاد(ع) بعد استشهاد أبيه(ع) في كربلاء حيث عمد إلى سلاح الدعاء لتشذيب نفوس الأمة التي شابها الكثير بما جرّأها على قتل ابن بنت نبيها..