ورد عن أبي عبد الله الحسين (صلوات الله وسلامه عليه) أنه قال في خطبته يوم عاشوراء: «ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين، بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون وحجور طابت وطهرت وأنوف حمية ونفوس أبية من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام، ألا وإني زاحف بهذه الأسرة مع قلة العدد وخذلان الناصر»] بحار الأنوار. ج45، ص83[.
في الصراع تكون هناك مراحل وبرامج، والحرب هي آخر مرحلة من مراحل الصراع، عادة ما يسعى المتصارعون إلى تأجيلها وتأخيرها، حينما يكون هناك شيء من التفكير والواقعية، يكون هناك سعي لتأجيل حسم المعركة؛ لأن الدخول في المرحلة النهائية هي مغامرة لطرفي الصراع أو على الأقل أحدهما، ولذلك يسعى لتأجيلها، إذا كان الطرف المقابل لديه استعداد للتأجيل، يستمر الصراع ولا ينتهي، ولكن يدار بالوسائل المختلفة، كلّ طرف يحاول أن ينمي قوته أكثر، يراهن على ضعف الطرف الآخر، يراهن على الزمن لمعالجة المشكلة التي يصارع عليها او يختلف فيها، يراهن على عوامل تأتي مفاجئة فتغير المعادلة، في هذا السياق تذكر قصة قد تكون أسطورة:
يقال إن سلطانًا طلب من حكيم من الحكماء، قال له: أريد منك أن تنطق هذا الحمار وإلا ضربت عنقك،
قال الحكيم: على الرحب والسعة، ولكن أمهلني خمس سنوات حتى أعلِّمه وحتى أحقق لك ما تريد.
قال السلطان: خمس سنوات وتستطيع أن تنطق الحمار، وتتعهّد بذلك؟
قال له الحكيم: نعم، أمهلني خمس سنوات، وأتعهد.
بعد ذلك عاتبه البعض: كيف أنت تعهدت وقبلت أنك بعد خمس سنوات ستنطق الحمار، ماذا ستعمل؟
قال لهم: من الآن إلى خمس سنوات، إما أن يموت السلطان، أو أموت أنا، أو يموت الحمار، سنراهن على الزمن من أجل أن تنحل المشكلة، أما إذا رفضت الآن يضرب عنقي، لماذا أحسم الموقف الآن؟ سأراهن على المستقبل.
وعادة ما كلا الطرفين أو أحد الطرفين، يسعى في هذا الاتجاه، لا يحسم الصراع، يعطي فرصة، يكون هناك نوع من المرونة، ليس معنى ذلك إنهاء الصراع، يبقى لكن يستمر بالوسائل المختلفة.
الصراع بين أهل البيت (ع) والطغيان:
بين أهل البيتB وبين بقية الحكام الأمويين والعباسيين، كان الصراع قائمًا وموجودًا، في عهد معاوية بن أبي سفيان، أهل البيتB كانوا يعرفون أنفسهم أنهم في خط آخر يواجه معاوية وكذلك بقية أئمة أهل البيتB، حيث كان الصراع يدار غالبًا ليس بطريقة الحسم، لكن بالوسائل المختلفة، وأهل البيتB لهم طرقهم وأساليبهم، وأولئك المتسلطون لهم أساليبهم.
في واقعة كربلاء أراد الإمام الحسينE ألا يظن الناس أن المسألة في مستوى الحسم والاندفاع للقتال من جهته، ولذلك تكرر منه القول للجيش الأموي: أنتم كتبتم لي رسائل وطلبتم مني القدوم إليكم ـ إن تغير رأيكم ـ إن كنتم لمقدمي كارهين فدعوني أنصرف من حيث أتيت.
الإمام الحسينE ما بدأ القوم بقتال، بل أكثر من ذلك حصلت محادثات بينه وبين عمر بن سعد، وأوشكت أن تصل إلى اتفاق، جلس مع عمر بن سعد،
عمر بن سعد سأله: يا أبا عبد الله، لماذا قدمت؟
قال له الإمام الحسينE: «إني لم آتكم حتى أتتني كتبكم ورسلكم أن أقدم إلينا فليس لنا إمام، لعلّ الله أن يجعلنا بك على الهدى، فقد جئتكم، فإن تعطوني ما أطمئن إليه من عهودكم أقدم مصركم وإن لم تفعلوا أو كنتم لمقدمي كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي أقبلت منه» ] الكامل في التاريخ ، ج ٤، ص٤٧[.
عمر بن سعد تقبل الفكرة، كان لا يريد أن يتورط في هذه المعركة القذرة، فكتب لابن زياد، وهذا موثق في التاريخ، أنا جلست مع الحسين، والحسين مستعد أن يرجع، لا يدخل العراق ولا الكوفة، وسعى في رسالته إلى إقناع ابن زياد، ولما قرأ ابن زياد الرسالة تحمّس لها في البداية، لكن شمر ابن ذي الجوشن دخل على الخط وقال لابن زياد: يا ابن زياد، الآن وقد حلّ الحسين بساحتك تتركه، فلإن ابتعد ورجع ليذهبن إلى أماكن أخرى ويحشد له أنصارًا ويقاتلكم فلا يكون لكم قبل به. وإنما أحسم المعركة معه الآن، وأقنع ابن زياد ألا يقبل هذا الطرح، وكما يتحدث التاريخ كتب ابن زياد إلى ابن سعد رسالة أنه لم نرسلك للحسين حتى تسالمه وتهادنه وإنما أعرض عليه أن يبايع يزيد بن معاوية وإلا ناجزه القتال، ليس هناك أي حلّ آخر، وإن لم تشأ أن تتحمل هذه المسؤولية، تبتعد عن قيادة الجيش، وشمر ابن ذي الجوشن يقود الجيش بدلًا عنك. كان هناك تنافس بين عمر بن سعد وشمر، كلاهما يريد القيادة، وابن سعد أيضًا خاف على موقعه، والجوائز التي كان ينتظرها، وكان مترددًا في داخل نفسه، حيث قال:
فوالله لا أدري وإنني لحائر *** أفكر في أمري، على خطرين
أأترك ملك الرّي والرّي منيتي *** أو أرجع مأثومًا بقتلي حسين
هذا الوضع دفع ابن سعد للحسم في خياره، باتجاه الخيار السيئ، خيار الشقاء، وحصلت المعركة، الإمام الحسينE لم يجد مجالًا، إما الحسم وإما الإذلال، وما كان ممكنًا من أبي عبد الله الحسينE أن يقبل موقف الذلة، ولذلك قرر أن يضحي بنفسه، التضحية كانت صعبة وخطيرة، ما أصاب الإمام الحسينE وما أصاب عائلته لم يكن بالأمر الهيِّن، لكن لم يكن هناك خيار آخر، رأى الحسينE أن هذا الخيار هو الأفضل للانتصار للدين والقيم.
وإننا نرى بوضوح لو لم يكن من تلك الشهادة ومن تلك التضحيات، سوى أنها شقت الطريق أمام الأحرار على طول التاريخ لكفى، الأحرار والثائرون في كل عصر وزمان يجدون في أبي عبد الله الحسينEقدوة لهم.
مقالات اخرى للكاتب