الحقائق من حولنا تشبه الهرم. كلٌّ منا يرى وجهاً منه مع أن الهرم واحد. نتحدّث عما رأينا بصوتٍ عالٍ مرّة حدّ الصراخ، ومنخفضٍ حذرٍ أخرى كأنه الهمس، ونصمتُ أحياناً مكتفين بالدمع صوتاً وحديثاً، وربما نزفاً.
الصوت الأول والأوضح
بحبرٍ فيروزي اللون وورقٍ فاخر شديد البياض، كتبَ المسؤول الأكاديميّ إلى الوزير، الذي قطع إجازته في احدى دول الجوار ليشرف بنفسه على سيرها: أُجريت الامتحاناتُ على أتمِّ وجه. كانت نسبةُ الغيابِ شبه معدومة برغم الخروقات الأمنيّة الكثيرة والتفجيرات, وقد توزّع الطلبة على أكثر من عشرين قاعة إمتحانية.. ارتدى الجميع الزيّ الجامعي. وعلى الرغم من قلق الامتحان المعروف الذي يعتري الطلبة وقت إجرائه, غير أن البِشر كان طافحاً على وجوه الطلبة (يمكن التأكّد من ذلك من عشرات الصور المرفقة مع تقريري هذا، وقد التقطتْ في أثناء تفقدنا لسير الامتحانات). الجهود المبذولة لإنجاح الامتحانات كانت جبّارة. كان هدفنا راحة الطالب. لقد وفّرنا مكيّفات الهواء والمراوح وقناني الماء كما أمرتم. أنتم تعرفون سيادة الوزير أن الامتحانات ليست هدفاً بذاتها, بل هي وسيلة للوقوف على أن الأهداف التربويّة والعلميّة قد تحقّقتْ. وها أنا أزفُّ البشرى لكم، لقد نجحتْ كلُّ أهدافنا. آه يا سيدي، ما أرجح حكمتكم وبُعد نظركم، فكرة توزيع قناني الماء على الطلبة كانت تجربة رائعة.
أودُّ أن أقول لكم أن النتائج الأوليّة، بعد تصحيح ما نسبته أكثر من 60 % من الدفاتر الإمتحانية، تشير إلى نسبةِ نجاحِ عالية ومتوقّعة. لم نكتشفْ سوى حالتي غشٍّ امتحاني فقط. وبعد التحقيق الأولي، الذي أُجري مع الطالبين (كانا طالباً وطالبةً)، تبيّن أنهما كانا متردّدين جداً وخائفين، الأمر الذي سهّل على المراقب اكتشاف محاولتهما الدنيئة للغشّ. لقد أبديا ندماً وتوبةً نصوحاً, ومع هذا فقد اتخذتْ بحقّهما الإجراءاتُ الأصوليّة وعُدّا راسبين في صفهما على الرغم من أنهما في المرحلة الرابعة, وأن غشهما جاء في يوم الامتحانات الأخير. اطمئنوا سيادة الوزير، كلُّ شيء على ما يرام.
الصوت الثاني:
كتبَ أحدُ المدرّسين ممن راقبوا في القاعات الامتحانيّة إلى صديقه رسالةً على الفيس بوك: توتري يصل إلى مديات خطيرة.. للوقتُ ثقل الرصاص حتى أني ظننتُ أن ساعتي عاطلة.. لا تفترُ شفتاي عن الدّعاء لله الواحدِ الأحدِ أن يمرّ كلُّ شيءٍ بهدوء، وأن يستجيب الطلبةُ لتعليماتي لحماية القاعة من الغشّ المتفشي. ليتك تأتي يا صديقي لترى بعينك الملازم الهزيلة وهي تفترش أرض الممرات. لا يكلّف الطلبة أنفسهم عناء حملها إلى بيوتهم. تصبح أشياء زائدة لا تزيد عن أن تكون قمامة تملأ براميل الحرق، ترتفع دوامات دخانها لتغطي سماء الكليّة صباح كلّ يوم.
يجد الطلبة، لاسيما الكبار منهم، متعةً كبيرةً في مناكفة المراقبين، يتذمّرون من أدنى طلب.. يحاولون دوماً زعزعة ثقة المدرّس بنفسه وبصلاحياته في حماية القاعة الامتحانية كي يغضَّ الطرف عن كثير مما يجري. ليتني أستطيع وصف ما يجري. أشعر أني أحتاج لبراعة الروائي والشاعر والرسام كي أصف لك فنون الطلبة في سرقة المعلومات من بعضهم.. أما قصاصات الورق، أو ما يسمونها براشيم، فتأخذ لون ملابسهم ولون جلودهم.. أحتاج لحواسي كلّها مستفزةً كي أعرف كيف تخرج من مخابئها القصيّة لتستقرّ طيّعةً بين أصابعهم أو بين طيات دفاترهم الامتحانية. وحين أكتشف أحدهم يكشّرُ عن أنياب ذئبيّة ومخالب أدركُ حالاً أنه جادٌ في استخدامها إن اقتضى الأمر. هممتُ بالقبض على أحدهم متلبساً بالغشّ المشهود، غير أنه دفع يدي بصلافة ووقاحة وابتلعَ براشيمه بزمن يساوي صفراً. كان قد أمضى نصف الساعة الأول من زمن الامتحان وهو يرمقني. فتحَ أزرار قميصه لتظهر سلسلة ذهبيّة متدليّة على صدره، وكان فكّاه لا يفتران عن مضغِ لبانةٍ بطريقةٍ فيفي عبده. لوجهه حمرةٌ نافرةٌ أجّجتها خيوطُ الحلاقين، وقد صفّف شعره بطريقةٍ غريبة. ومن نظراته إليّ تيقّنتُ أنه لن يتورّع عن ضربي إن أنا سحبتُ دفتره.. عدتُ أجرجرُ ساقيّ إلى بداية القاعة وأنا ألعن الساعة التي قادتني لأكون أستاذاً جامعيّاً. كم تمنيتُ لو أن بي قوّة، لو أن لي سلطة الكلمة الحقّ كي آمر بإخراج هذا الحثالة. وحين طلبتُ من آخر يشبهه يكثرُ من النظر في دفتر زميله الذي أمامه أن يغيّر مكانه رفضَ بوضوحٍ وتحدٍ وعناد: ما أكَوم! بعدها فقدتُ السيطرة تماماً، لم يطعني أحدٌ، فكففتُ عن أن أعطي أمراً.. لقد استضعفني هؤلاء.. هؤلاء الذين سيبنون العراق. لم أجد بدّاً من الصراخ مذكّراً هؤلاء الأبالسة بأن الأمم لا تُبنى بالغش.. اختنقَ صوتي وكدتُ أنتحبُ باكياً، لقد فقدتُ قدرتي على قول جملتين متناسقتين.. كنتُ ارتعشُ يا صديقي, محبطاً, وشعوري طاغ بالامتهان والضعف. وفي هذه اللحظات دخلَ السيّد العميد محفوفاً بموكبٍ مكوّن من معاونيه وحرسه وسائقه فامتلأتْ أرضُ القاعة بكراتٍ ورقيّة صغيرة جداً، مضغوطة بشدّة.. قال العميد من دون أن يسلّم عليّ: على كيفك دكتور.. لا تنسه ذول ولدنا. اقترب من أحد الطلبة، وضعَ يده على كتفه وتبادل معه حواراً قصيراً مليئاً بمودّة فائضة. كان وميض الكامرة لا ينقطع. أزاح المصوّرُ الكامرة المصوّبة نحو إحدى الطالبات الجميلات وقال لها: ابتسمي.
وكتبَ مدرّسٌ آخر لزوجته رسالةً في هاتفه، الذي لم يفارقه طيلة مدّة مراقبته: لا جدوى.. الطلاب يغشون يغشون.. بالقوّة بالعيني وأغاتي يغشون. لهذا لم تنزل عيني من على السقف.. لقد اكتشفتُ الكثير من عيوب الطلاء، وأحصيتُ العشرات من بيوت العناكب الصغيرة.. الكثير من الطلبة غير مؤدبين.. ما الذي طبختيه اليوم لغدائنا؟
حدّق في ضوء شاشة هاتفه, ثم جاءته العبارة التي انتظرها كثيراً: تمَّ إرسال رسالتك إلى أم علاوي، في الوقت الذي كان الطلبة يتعاونون جهاراً على الإجابة على أسئلتهم.
الصوت الثالث:
خارج القاعات
قال أحدُ الطلبة لزميله بصوتٍ مسموع في أثناء مرور مدرّس المادّة التي امتحنوا فيها قريباً منهما: ها بشّر؟ قال الآخر: شبشر؟ ولا وحدة من براشيمي اجت. فقال له على الفور: الذنب ذنبك. قلت لك الحلّ بـ"المصغّرات" وليس بالبراشيم، لقد غدت البراشيم شيئاً قديماً. وقال طالب آخر في جمع من زملائه: المدرّس الذي راقب علينا اليوم "عجس" و"عكرة"، لم أنقل غير سؤالين فقط.
وقال آخر: اختلطتْ عليّ براشيم الامتحان السابق مع امتحان اليوم.. لهذا ضاع وقت طويل في التصنيف.
وقال آخر في الصف الرابع وهو يمرّ بأصبعه على حاجبيه اللذين يحاكيان حاجبي مغنيّة من الدرجة الرابعة: لو أن كلَّ المراقبين مثل الذي راقبنا اليوم سأضمن الدراسات العليا.