حشْدٌ كبيرٌ من النمل, كان يتوزّع على صفين غير منتظمين تماما, فبديا كخيطين أسودين, وما بين هذين الصفين, شكّلتْ مجموعة أخرى من النمل, ما يشبه الدائرة المغلقة, وقد توسطتها نملة واحدة, كانت على ما يبدو, قريبة جدا من حافة الموت..... (تشييع الجنازة كان مهيباً حقا, وقد توزع أربعةُ رجالٍ على الجهات الأربع للتابوت, الذي غُطّيَ سطحه العلوي, بشرشف جديد بألوان متعددة, وبين الحين والآخر, كان يخرج من بين المشيعين, أحد الرجال, ويتوجّه نحو حَمَلة الجنازة, فيستبدل أحدهم لينسل الأخير بدوره, فيحشر جسده وسط حشد المشيعين الذين شاركتهم ايضا, في التشييع, الكثير من النسوة المتلفعات بالسواد, وقد كان البعض منهن يبكين بشكل اقرب الى العويل, بحيث كان نحيب بعضهن, يُسمع بوضوح, على الرغم من الضجة التي كانت تنبعث من أفواه الرجال المشيعين, الذين ما زالوا يردّدون خلف الملبّي: لا إله إلاّ الله لا إله إلاّ الله. كان الرجل الملبّي طويلا وضخم الجثة, وبوجه قروي أسمر ومغبر, وكان الحماس واضحا في ثنايا صوته الجهوري, بحيث ان من يلحظه، يلمس التناغم والتناسب جليا بين ضخامة جسده وخشونة صوته الجهوري, الذي يتناهى الآن حتما, الى أسماع من هم داخل البيوت القريبة, التي يمر بموازاتها موكب التشييع, فضلا عن منْ تجمعوا أمام بيوتهم أو الذين يتابعون المشهد من خلال النظر عبر النوافذ...).. حركة أرجل النملة أخذت تتباطأ شيئا فشيئا في هذه اللحظات, وربما سكنت بالمرة, وكان حشد النمل على الجانبين, وإنْ لم يكن منتظما, لكنه ولكثرته, كان يوحي باهتمامهم الزائد بمن احتشدوا لأجله, حتى إن أعدادا أخرى ما زالت تتوافد للانضمام الى الحشد... (حشد المشيعين رغم حرارة الجو اللاهبة, فإنه قطع مسافة طويلة بعض الشيء من الشارع العام, وهم يهتفون بأعلى أصواتهم: لا إله إلاّ الله, وكان هتافهم وهم يرددون وراء الملبي, يشعر بأنه يخرج من قلوبهم قبل السنتهم, وقد أرتسم الحزن على معظم وجوههم ليختلط بالعرق وبالغبار الذي تثيره أقدامهم, الأمر الذي يدلّل على منزلة المتوفى....).. انتظم صفّا النمل بشكل أكثر انسجاما واتساقا من السابق, بينما تحركت المجموعة التي كانت تشكل دائرة حول النملة بشكل اسرع مما كان عليه, ومن خلال هذا التسارع, يبدو ان النملة قد ماتت.. وفعلا فقد انفرط عقد الدائرة التي كانت تحيط بها ودخلت مجموعة منها فرفعتها عن الأرض بعد أن سحبتها قليلا الى الوراء, وها هي المجموعة التي كانت قبل قليل, تشكل دائرة, تسير في المقدمة, ومن ورائها سار الصفّان, وكان اتجاه سير الحشد باتجاه معاكس لسير موكب المشيّعين, ولكن في نفس الشارع الذي مال صدر الموكب الآن نحوه, وقد يكون سبب الانعطاف نحو هذا الشارع, لتجنب زحام السوق الذي هم على مقربة منه, والذي يزدحم عادة في مثل هذا الوقت من النهار. الرجل الملبي بجسده الضخم وصوته الجهوري ما زال يصدح بـ لا إله إلآّ الله, وما زال الحشد ايضا يردد خلفه, وكان عدد المشيعين قد ازداد, وخاصة حينما اقتربوا من الجهة القريبة والمقابلة للسوق. المسافة ما بين الموكبين بدأت تتقلص تدريجيا بينهما, واذا ما استمر مسير الموكبين دون توقف, فإنهما سليتقيان حتما بعد قليل, ولكن ما بين هذه المسافة, كان ثمة رجل لم يلتفت الى موكب النمل ولكنه كان يرقب باهتمام بالغ موكب المشيعين من الرجال والنساء, الذين يتعالى من أفواههم: لا اله الا الله, فهو ما زال على وقفته, وقد تسمرت نظراته باتجاه موكب المشيعين الذي اوشك على الوصول اليه, بينما موكب النمل, هو الآخر أوشك على الوصول اليه, ولكن الرجل لم ينتظر, فقد سار بخطوات مرتبكة, نحو الرجال, وها هو يتوسط الحشد ليضيع بين الأجساد التي اختلط العرق المتصبب منها بالغبار المتصاعد, وبعد ثوان فقط, ارتفع دويّ انفجار هائل وسط الحشد..