يتذكر أهل البصرة الكرام جيدا شوربة السيد في حقبة منتصف الستينيات , ولو أن العراقيين جميعا يميلون إلى نسيان الأهوال المزعجة ولكن في الوقت نفسه لا يتخلون عن تذكّر أهوال أخرى أو يلقوا بها في خانة النسيان , بالطبع , بل يحفظونها لتعيش في أكنافهم مع السيف والرمح حتى وإن بلغت من العمر مائة عام .
شوربة السيد ليست لرجل مجهول , بل لبطل حقيقي في مجال مهنته . هذا الرجل لم يتردد يوما واحدا عن موعد إعداد عربة الشوربة لتنتصب وسط ساحة أم البروم قبل آذان المغرب ليبدأ البيع مع انطلاق صوته المروّج لها : شوربة عدسسسسس .. شوربه عدسسسسس .
يقف السيد خلف عربته بهيئته البدينة , مرتديا دشداشته البيضاء وواضعا طاقيته البلورية فوق رأسه . وهو في كل مرة يقدم فيها طبق الشوربة لأحد الزبائن , يتناول خاوليآ صغيرآ يضعه فوق كتفه ليمسح به يديه . لم يكن السيد حاملا لأية شهادة عليا أو ابتدائية .
لذا فهو حينما يأتي إلى الساحة لم يكن فمه محشوا بتيار التفكيكية أو السيميائية والحركات السردية أو بأسماء كبار العلم والأدب ليقذف بها على زبائنه أثناء جلوسهم على الأرض وهم يتناولون وجبة عشائهم المتواضع , لأنه لا حاجة له في إنشاء علاقة ساخرة خارج إطار تلك الجلسة التي لا يحتاج فيها الناس إلى الرطانة في التعبير عن واقعهم بعد أن رشحهم بعون من الدولة ووجدانها المنعدم لتبوأ ذلك المكان .
وهذا ,طبعا, بفضل الحكومات غير الرشيدة السابقة ومعها رجال أصحاب كروش ذات ثَرب عفن ورؤوس صلعاء خاوية ,أولئك البدناء ,المنتمين إلى الجهالة والمنضوين تحت أجنحتها .
ليس لأن أكثرهم قد تخطى الخمسين من العمر أو أنهم من دون حجر يشحذون عليه حظهم العاثر, بل لأنه, أولا, مثلهم يرى فيهم ماضيه المملوء سرابا وغيظا فنزل معهم على حكمه وانقضى الأمر. وثانيا , لأنهم العمال الذين يأتون برزقه إليه في الصيف القائظ برياحه الجنوبية وغبار صحرائه وفي الشتاء القارص بأمطاره وأوحاله .
إلا أن السيد كان يفهم بتلقائية نفسه التي لا تقبل بلائمة ترجع عليها, وبلغة واحدة هي لغة الوجدان لأنها هي أم اللغات ومنبعها الصافي الذي يشرب منه الناس, ويفهم أيضا أن عقوق الناس الفقراء هو أمر كبير.فالشوربة لم تكن سوى عدس وماء
وقليلا من الزيت وذرات من التوابل , لكنها تفطر صائما وتشفي عليلا وتطعم مسكينا ولها في هذا قدر كبير .
هذه التلقائية والوعي الفطري بضرورة احترام هؤلاء الناس هي التي جعلتها بهذه الصفة الشهيّة وبسعرها البالغ ثلاثون فلسا. فهم أصحاب حق وعلى الأخص في التعليم الذي حرموا منه أو تغاضوا عنه لأن المتعلمين من اقرأنهم قد التقطتهم الأيادي المجرمة بإلصاق شتى العناوين الإيديولوجية عليهم من أجل ملء السجون بهم , فجاء هؤلاء يبايعون الواقع الذي لم يحسن استقبالهم إلا بهذا الطبق البسيط الذي صنعه السيد من وجدانه ومن دون أي قصد أيديولوجي.
وفي يوم من الأيام لم يخرج السيد كعادته لينصب عربته وسط ساحة أم البروم . وعند أذان المغرب تجمع الزبائن في موقع ألعربه الخالي وهم في حالة مقلقة . ترى هل كانوا ينتظرون عودة الرجل القوي, الخطيب, المنظّر الذي سيلملم أوصالهم ؟
كلا , بالطبع , إنهم ينتظرون السيد بسبب سؤال الذات التي خضعت لسنين لآلية الجلوس في هذا المكان , هذا السؤال هو : كيف نغيّر الجوهر الوجداني بعد هذا التأريخ والتجريب بعربة أخرى غير عربة السيد . هذه هي الآلية التي أوجدها السيد .
يتكرر مشهد الزبائن في جلوسهم وعيونهم تترقب ظهور السيد لثلاثة أيام دون أن يتناول أحدهم وجبته من العربات المجاورة. البعض من هؤلاء ضاق بهم الوقت فتفرقوا دون الولوج في تجربة أخرى. أما الباقون فلم يركنوا إلى التأويل فتفرقوا بعد ساعة من انتهاء الآذان , إذ لم يجرؤ أحدا بالإنصات إلى صياح البعض من الباعة الذين قالوا بجزع : السيد مات ياعالم !!
نفهم من التحديد الذي ربطنا به بين السيد وزبائنه أن الوجدان بعلاقته مع الناس يؤسس إلى فهم الواقع برؤية عميقة لجوهره ( = كنهه ) وهذا ما لم نجده في العلاقة بين وزراء المطبخ العربي وشعوبهم . لأنهم لا يفهمون العمل المرتبط بالوجدان الذي يعبّر عن مشاعر هذا الوزير أو ذاك ممن جلبهم الوزراء الأصلاء ليدلون بدلوهم في الاستشارة الرشيدة .
لكنهم ينصحون بإقامة أحلاف مع دول استعمارية لإنشاء قواعد عسكرية, مثلا, في بلدانهم. وهناك صنف يدفع بالنصيحة إلى إقامة علاقات مع إسرائيل من باب العلمانية والليبرالية الغبية . وهناك دول تتبنى لغة وثقافة غير العربية تصحبها خطط استثمارية ترمي إلى البديل لتامين حياتهم على المدى البعيد وهذه عملية جماع غير شرعي ينجم عنه نظام هجين يؤسس إلى إسرائيل جديدة .
يتجسد هذا التطبيق لدى البعض من دول الخليج بسبب نبذهم للمذاهب التي لاتتهاون مع الصهيونية مما يكشف النقاب عن دورهم في تفكيك النصوص القرآنية
وربطها بسياقات هجينة من أفكار وأصداء جاهلة هنا وهناك . والحق هنا يقال أن دولة واحدة لاغير رغم صغرها وقليل فعالها إلا أنها جذبت من محيطها أحسن المقال.
وهناك من يحرّض دولته إلى إحياء إمبراطورية سلاطينهم الأوغاد لاسترجاع الأراضي التي انسلخت منها كما يزعمون وذلك بتبني حثالات الأرض ومدهم بالأسلحة وبث روح الفتنة الطائفية في بعد تأويلي نابع من ذهان مرضي .
ومن هؤلاء المستشارين ممن يحرّض النساء للمطالبة بالمساواة مع الرجل في الإرث في إطار خطاب سفسطائي يعمد إلى إلغاء كلام الله في هذا الشأن. أما في دول أخرى فالتحريض يأخذ أشكالا أخرى كاستقطاع رواتب الفقراء وفرض الضرائب وتبادل المراكز بين الوزراء كما يفعل لاعبو كرة القدم في الملاعب.
وفي نواح أخرى يدعمون الفساد في دوائر الخدمات العامة وذلك بتلقي الرشاوى من قبل البعض من الموظفين لقاء انجاز أعمال ذات صلة بحياة المواطنين .. والقائمة تطول .
في هذه العملية نراهم يسخرون من الشعب وغير عابئين بتفكيك علاقته مع نفسه. ومن ناحية أخرى فان الضربة التي يوجهها هؤلاء الوزراء للشعب في ترك من تسبب في ضياع ثروته واستيفاء هذه الثروة من الشعب في فهم زائف وبرنامج فاشل لا يعد الشعب في العير ولا في النفير أنما هي استشارة الشياطين للشياطين
ومن جهة أخرى يعارضون الإصلاح في دولهم الذي يسهم في تحسين المستوى ألمعاشي لمن يعيش الفاقة والحاجة. وهناك وزراء للمطبخ ممن يبيع أراضي بلاده لسنين طويلة ناسفا فيها تراث بلاده في هذه الأرض أو تلك من اجل فرض حياة متدنية وخلق طبقات تمتاز بالتصدعات النفسية والغربة في مجتمع لا يتطابق معه وضياع الثروات التي تحتويها.
وبسبب الضبابية الفكرية في تجاوز الحاضر , يلجأ وزراء المطبخ بالدعوة إلى تعطيل المصانع والمعامل حسب نظريات مغلقة وتجريبات أميبية وذلك لإضحاك الدول المناوئة والسخرية من تاريخها بعدما كانت مهيبة.
هؤلاء الفتية الممتلئين بالغرائز المكبوتة هم ليسوا بالفتية التي ذكرها الله , بل هم فتية السناتر والمولات الذين يحملون البضاعة للمالكين ويكدسوها في الأماكن المخصصة ثم يلصقون عليها الأسعار التي يأمرهم بها المالك .
وهم يعلمون أنهم في حال انتهائهم من تفريغ البضاعة ورصّها في جحورها ووضع التسعيرة عليها يتوجب عليهم المغادرة. لكن منهم من تحفزه آرائه وتأويلاته
فيسرق كل ماتقع عليه يده دون أن يتقي الله ويفصل بين الأسود والأبيض لكي لا تطول حسرته يوم الحسرة.
وهذه هي الخطورة التي تطفوا في مثل هذه المفاهيم الخاطئة مما يحتاج فيه المالك إلى تعديل في جوهر العقد المبرم بينه وبين المجهّز, وهذه ثقافة ربما يجهلها المالك كما تجهلها الحكومات المصونة الحالية التي لم تستطع مجاراة وجدان بائع واحد للشوربة اسمه سيد دون أن يفصح عن أسمه الكامل وشهاداته وأوسمته ومجلدات نضاله المرير في حي سوهو أو الطرف الأغر أو مانهاتن أو مونمارتر أو .. أو ..كما يفعل مرضى هذا العصر , الخوابل الشياطين الذين تجلوا بصور شتى للإنسان .
مقالات اخرى للكاتب