الشاعر العراقي الكبير موفق محمد قال في قصيدته العراقية الأصيلة "لا حرية تحت نصب الحرية" مخاطباً شعبه المنكوب:
وما تحررت من وغد قُتلت به إلا وجاءك وغد سرسري وانجس
وهذا هو حال شعبنا ووطننا منذ ان تسلطت عليه البعثفاشية المقيتة في ذلك اليوم الشباطي الأسود وحتى يومنا هذا، حيث يتقلب بين نكبات وجرائم الأوغاد بكل مسمياتهم الدنيوية والدينية. إذ انه لم يكد ينتعش بفرحة الخلاص من البعثفاشية المقيتة ودكتاتورية حزبها المجرم، حتى صبَّ عليه خلفاء دكتاتورية البعث ومواصلو مسيرتها سيلاً من الويلات التي يمارسونها منذ ان وضعتهم سياسة الإحتلال الأمريكي لوطننا على قمة السلطة السياسية وحتى يومنا هذا. إلا ان الممارسات الإجرامية لم تتم هذه المرة باسم العروبة ووحد تها التي كانت عصابات البعث تخدع بها الجماهير، بل ان الخديعة تجلت في العراق الجديد في الشعارات الدينية التي بدأ تجار الدين من رواد الإسلام السياسي يطرحونها على الساحة السياسية العراقية حتى انقلبت هذه الشعارات إلى هويات للطائفية الدينية والقومية الشوفينية والإنحيازات المناطقية والإنتماءات العشائرية التي غيبت الهوية الوطنية العراقية تماماً عن اهلها. وكل ما نتج عن هذه الإنتماءت والهويات الثانوية تجلى بوضوح اكثر حينما اصبحت هذه الممارسات مصدراً للصوصية احزاب الإسلام السياسي الحاكمة وكل القوى التي تشاركها نهب خيرات الوطن وتجويع اهله والتلاعب بمستقبل اجياله. وحينما استعانت الأحزاب الحاكمة في وطننا اليوم برموز البعث لضمان استمرار هيمنتها على موارد الدولة الأساسية وبالتالي التوغل في سرقة هذه الموارد، فإنها عملت بنفس الوقت على ان تساهم قوى البعث المجرمة ورموزها في التأثير على العملية السياسية، حتى وإن تبلور من خلال هذا التأثير بروز بعض وجوه الجريمة البعثفاشية على الساحة السياسية العراقية وتبؤها حتى مراكز قيادية في ادارة الدولة احياناً. لقد عملت قوى البعث هذه، التي اختفت في جحور ظلامها بعد انهيار نظامها المقبور، على تعزيز مراكزها في مؤسسات الدولة المختلفة لتنطلق بعدئذ إلى الخطوة الأخرى التي شكلت من خلالها تجمعات ومنظمات اخذت تعمل بشكل علني ورسمي تحت مختلف المسميات التي عزتها إلى الديمقراطية التي ينص عليها الدستور العراقي، هذا الدستور الذي يسميه ثوار الشارع العراقي اليوم بالدستور الأعرج . وحينما تأكدت قوى البعث والجريمة من انفتاح الساحة السياسية العراقية امام محاولاتها في الولوج إلى قلب هذه الساحة، وحينما تأكدت ايضاً بان قوى الإسلام السياسي والقوى المشاركة لها في الحكم لا همَّ لها سوى جعل طرق اللصوصية ونهب خيرات الوطن سالكة لتنفيذ جرائمها ونشر فسادها المالي والإداري والأخلاقي على كل ربوع الوطن، عملت على الدخول مع هذه القوى الإسلاموية القومية الشوفينية في لعبة المحاصصات السياسية التي سهلت لقوى البعث ممارساتها ودخولها الإنتخابات التي اعتبرتها في مراحلها الأولى بانها غير شرعية وغير دستورية فقاطعتها وعملت على التقليل من شأنها. إلا ان قوى البعث ورموزه الشريرة التي اصبحت في قلب العملية السياسية، مع الحلفاء الجدد تجار الدين وحملة التعصب القومي الأعمى من العرب والكورد، عملت على تعزيز مواقعها في كل مفاصل الدولة التي ارادت من خلالها قلب العملية السياسية من خلال تغيير بوصلة مسيرتها. فكان الإرهاب والعمليات الإرهابية التي قامت بها، بعد ان التقت مع المنظمات الإرهابية الوافدة من خارج وطننا، سبيلها الجديد لتحقيق ما ظلت تخطط له. وكل ما تمخض عن ذلك من تورط عصابات البعث ورموزها داخل وخارج العملية السياسية بكل الجرائم التي قامت بها عصابات الإجرام والتي ارتكبتها بحق اهلنا وآلاف الضحايا التي التهمتها التفجيرات والكواتم، يشير بما لا يقبل الشك، بعد هذه الممارسات الكثيرة والطويلة، بأن قوى الجريمة المنتشرة في وطننا تشكل حلفاً اجرامياً بين البعث وعصابات الإرهاب التي تعددت منظماتها باسماء مختلفة لتنتهي بالعصابات التي سيطرت عليها جميعاً بعدئذ والتي اتخذت من تنظيم داعش الإرهابي عنواناً جديداً لها لم تستطع قوى البعث إلا الخنوع له وتنفيذ اوامره في كل المواقع التي تتواجد فيها عصاباته في اجهزة الدولة العراقية. ومن اكثر الأجهزة التي يعشعش فيها دواعش الدولة العراقية هو البرلمان العراقي الذي كشف فيه الدواعش عن انفسهم بمختلف الطرق والإمكانيات التي وفرتها الدولة العراقية لهم.
فالبرلمان العراقي وكثير من مؤسسات الدولة المهمة اصبحت منذ ان وضع الإحتلال الأمريكي احزاب الإسلام السياسي على قمة السلطة، اصبحت تضم قوى البعث التي تأتمر باوامر داعش وتنفذ اجندتها، وهذا ما يعكس بالضبط تصرفات كل القوى التي وقفت ضد العملية السياسية بعد سقوط البعثفاشية والتي اصبحت في نهاية المطاف في خدمة داعش وارهابها وتخضع لها عسكرياً حتى وإن لم تتفق معها فكرياً، وقد اثبت ذلك تحرير مدينة تكريت من الدواعش الذين تركوا خلفهم تابعيهم من البعثيين الذين تم اخراجهم بسلام من تكريت بموجب صفقة دبرها اعوانهم في البرلمان العراقي الذي يعج بهم. وعلى هذا الأساس فإن الشعارات التي يطلقها المتظاهرون والمحتجون على الفساد واركانه في العراق والتي يشخصون فيها تواجد قوى داعش الإرهابية داخل مؤسسات الدولة المختلفة لها ما يبررها وهي لم تأت من الغيب، بل من تصرفات رموز البعث، حلفاء داعش، في هذه المؤسسات. ومن حق الشعب العراقي ان يتساءل " كيف سيتم التعامل مع دواعش الدولة العراقية بعد الخلاص من دواعش الدولة الإسلامية؟ " او كيف يمكننا ان نثق بوجود ارادة حقيقية للتغيير ورؤوس الفساد الرافضة للتغيير، إلا حسب اجندتها، تعشعش في جميع مرافق الدولة العراقية؟
ودواعش الدولة العراقية هم ليسوا فقط اولئك الذين يفجرون السيارات المفخخة اويستعملون الكواتم لتنفيذ عملياتهم الإرهابية او يقودون عصابات الخطف الذي يمارسون من خلاله الإبتزاز او الذين يهربون ويسرقون المليارات لمشاريعهم الوهمية التي تتبناها احزابهم الدينية وتقودها عصاباتهم الطائفية، او المتلاعبين بقوت الشعب وسارقي كل ما يمكن ان يوفر لهذا الشعب الجريح من عمل وخدمات يومية وامان وتعليم وصحة وكل ما تفرضه الحياة الإنسانية في القرن الحادي والعشرين. لا ليس هؤلاء فقط هم دواعش الدولة العراقية القابعين في كل مؤسساتها، بل هم ايضاً اولئك الذين يخرجون علينا بين الحين والحين مبسملين محوقلين محاولين إعطاء صورة دينية ورعة عن شخصياتهم الهزيلة التي عرف الشعب بشاعتها ومدى ولوغها في جرائم الفساد والكذب على الناس بوعود انتخابية زائفة وباطلة. هم اولئك المنتفعين من العملية السياسية الجارية في العراق من خلال اختفاءهم وراء الدين الذي يتاجرون به كل يوم بحيث اصبح الدين الإسلامي في حقبة تسلطهم هذه تجارة ينتفعون بها عبر قوانين او تعليمات او ارشادات يجعلونها في عداد الورع الديني وما هي في الواقع إلا وساءل ابتزاز او منافع شخصية دنيوية لا علاقة لها بالدين او كل ما يوحي بالإلتزام بالتعاليم الدينية الني يعرفها الشعب العراقي قبل ان يولد هؤلاء البؤساء. وهم كذلك اولئك الذين بدأوا الآن ،وبعد الإنتصارات التي تحققت في معركة تحرير نينوى على من كانوا يصفونهم بانهم جاءوا بالهدوء والعدالة والخدمات إلى هذه المناطق المحتلة التي نُكبت بدواعش الدولة الإسلامية الاوباش، بدأوا يهيجون سعير العداء الطائفي والقومي الشوفيني المتطرف بعد ان بانت في الأفق بوادر التلاحم الوطني الذي حققته القوى المشاركة في تحرير نينوى. إن مثل هؤلاء الذين باعوا الهوية الوطنية واصبح وجودهم ملتصقاً بالنعرات القومية الشوفينة المقيتة او بالإنقسامات الطائفية البدائية لا يمكنهم العيش بهوية واحدة ، بهوية العراق اولاً واخيراً، إذ ان هذه الهوية ستصبح وبالاً على وجودهم فيما إذا تم التمسك بها دون غيرها من الهويات الجانبية الأخرى.
إن مجموعات الدواعش هذه التي تعشعش في مؤسسات الدولة العراقية عبر احزاب كارتونية مقيتة تشكل الخطر الأكبر الذي يواجه وطننا وشعبنا بعد مرحلة تحرير نينوى وكل التراب العراقي من اقرانهم دواعش الدولة الإسلامية. وما على الشعب العراقي وقواه الوطنية المخلصة إلا ان يتعاملوا مع هؤلاء الدواعش في الداخل بما يستحقونه من العزل والإحتقار والحساب القضائي العادل.
مقالات اخرى للكاتب