خصلة شعر
------------
منذ دخولي المدرسة .. تغيّرت معي وحولي أمور كثيرة.. أمسى بإمكاني الآن ولو ببعض الصعوبة القراءة والكتابة.. وأخذت الطلاسم والخطوط والنقاط والدوائر المرسومة على الورق وواجهات الأبنية والمخازن تتحول إلى أصوات ومعاني وكلمات.. الكتب سميكة الأغلفة المرصوفة خلف رفوف زجاجية الواجهة في غرفة الضيوف تستهويني. أستلّها بحذر, أنفخ الغبار عن أغلفة سميكة وزخارف مذّهبّة.. أفتحها.. لا صور هناك.. أحرف كالحشرات سوداء تتشابك بكثافة على كُل الصفحات. كتب أخرى فيها صور وتخطيطات.. بمحض الصدفة عثرت على خصلة سوداء طويلة مطوّقة بشريط أحمر وسط كتاب في غرفة شقيقي الجامعي.. أخذت أراقب شعور الفتيات اللواتي يدخلن البيت وأتابع ملامح وجه أخي وتصرفه.. عرفتها.. هي طالبة من بنات الجيران كانت تعتاد ربط شعرها الأسود الطويل بأشرطة حمراء.. كان أخي يعطيها بعض كتبه وأقلامه ويتحدث معها بكلام غامض لم أكن أفهم منه شيئاً. الكتب كانت تدخل البيت كل يوم..كتب كثيرة تُجمع في كل مكان: في الشبابيك والطاولات والرفوف والزوايا... لم يتوقف دخول سيل الكتب حتى رأيت كومة منها تُجع وسط الدار وتوقد فيها ألسنة النيران, ثم يتخلص من الرماد بعجالة في فتحة المرحاض.. حدث ذلك يوم 8 شباط عام 1963 . فهمت بأن لتلك الكتب خطورة وأسرار.. كان الحرس القومي يفتشون عنها في كل البيوت... الذي يعثرون عليها في بيته, يقودونه وأهله إلى جهة مجهولة .. اختفى الكثير من فتيان وفتيات الحي بعد ذلك اليوم.. سمعنا بأنّهم عُذّبوا ببشاعة ثم قُتلوا.. سبب موتهم على مايبدو كان أسرار تلك الكتب..
لم أر الفتاة ذات الشرائط الحمر بعد ذلك قط.. غير أنّي رأيت مصادفة بعد أعوام من ذلك , شقيقي وهو ينعزل في غرفته, يفتح الكتاب الذي أعرفه, يتشمم خصلة الشعر الأسود , ثم يذرف الدموع بصمت .
كابو فاتكانو
----------
غيوم متدلية كثياب الغسيل المبلولة تقطر على الكراسي والمظلات المنثورة فوق رمل الشاطيء قطرات ثقيلة دافئة مفاجئة.. هناك أكثر من ماريا بثياب الإستحمام تتشمس فوق الرمل.. عامل المقصف الذي يبيع الجيلاتي والبيرة والعصير وقهوة الإسبرسو يخرج من الكشك لكي ينظر إلى السماء المبتلة المبتسمة.
تنطلق صرخة أمّ تبحث عن إبنتها (ماريا.. ماريا..) ترتفع العشرات من الرؤوس من فوق المناشف, تلقي نظرة إلى وجه المرأة ثم تعود متكاسلة إلى مكانها.. تستمر المرأة في البحث وهي تنقب بين أجسام الناس على الساحل.. (ماريا ماريا ماريا..)
تنظر الأمّ بهلع إلى السماء ثم إلى البحر.. ترى شيئاً أسودَ يشبه زعنفة سمكة القرش. تتشرب قسماتها بالرعب .. تهرول الى الجرف وتخوض في الماء. . تتلوع وهي تهتف بأعلى صوتها: (القرش القرش.. ماريا إبنتي إلتهمها سمك القرش).
يهب عدد كبير من الناس إلى حافة الماء يتطلعون إلى صفحة البحر الساكنة الزرقاء بحثاً عن أيّ أثر للفاجعة.. أشار أحدهم إلى بقعة أرجوانية غير واضحة تخضب الماء.
من خلف الجموع يسمع صوت رقيق لصبية: (مامّا.. مامّا.. أنا هنا.)
ماريا الصبية متوردة الوجه تقف متشابكة الأصابع بصحبة صبي بعمرها!
-------------------
كابو فاتكانو : إسم ساحل رملي جنوب ايطاليا.
مروحة هواء ورقية
--------------
نظرت (كايوكو) نظرات مشحونة بقلق ياباني وهي تقف عند نافذة الطابق السابع.. النهارات التي تتوقف فيها المصاعد الكهربائية عن العمل تجعل كايوكو لا تتوقف عن الحركة.. تحس وكأنّ ظهرها قد ارتبط بالعمود الفقري لدرجات سلم البناية.. صاعدة هابطة عدة مرات.. هذه هي المرة العاشرة التي تملأ فيها قدح الماء.. تشربه على عجالة ثم تذهب الى المرافق وتسحب السيفون.
الساعات في طوكيو تطلق عقاربها فتنطلق في الجادات تلدغ المارة.. أين نست قنينة العطر التي أهداها لها ذلك الشاب ياماشيتا المفلطح الوجه الذي كان يجبرها على البقاء في البيت ويحاسبها على أبسط نظرة طائشة تلقيها على وجه أي شاب عابر..تفتح تلك القنينة وتتنشق بعمق..( رائحة عفنة تتسرب إلى كيانها وكأنها تنبعث من غابة استوائية معتمة تتقافز فيها الثعالب وتطير فيها حيوانات الشمبانزي, أو تنبعث من جدران سراديب ومعتقلات رطبة مدفونة تحت الأرض).
تهتز البناية.. ترتعش كايوكو... لا بد أنّ القوة الكهربائية عادت فأخذت مصاعد البناية بالعمل.. خرجت كايوكو من البيت وأغلقت خلفها الباب. دخلت المصعد.. ضغطت عل الزر, فأخذ المصعد يهبط بسرعة فائقة إلى قعر البناية.. وصلت أخيراً إلى الشارع.. تمتمت وعلى محياها إبتسامة: ( لا بد أنّ حجزي.. قد ذكّرني بذلك الحب السخيف القديم)!.
سونامي
----------
لم تعد تلك النيران العملاقة التي شَبّت ألسنتها في أبنية كثيرة من المدينة تُرى.. خمدت وبقى دخانها الأسود والرصاصي والأزرق يتصاعد على شكل فتائل لإيام..
وبدل ريح الإعصار المُدّوية التي كانت تصفّر وتصرخ في الدروب.. لم يعد يسمع غير ذلك النحيب البشري الذي اختارته الطبيعة لكي يكون مروعّا بذلك الشكل !..
من بقى على قيد الحياة وأنا من بين الناجين, زحف بجروحه وكسوره لكي يصل الساحل.. أملنا ...
الوحيد أن نجلس قرب رداء السلطان الأزرق الجبار علّه يعيد لنا بعض ما أخذ.. حتى ولو بقايا جثث موتانا وهشيم عظامهم ونتف من ارديتهم.
البحر كان صامتا .. عميق الصمت.. يسمع النحيب والشكوى ولا يجيب.. والليل الحكيم يحرك دقائقه الحزينة الثقال فوق رؤوسنا علَّ البحر يلين قلبه فيستجيب.. غير أن البحر في خلوده العميق ينعس.. يغفو.. يطلق شخير نومته .. وعنا يغيب.
رجم
----
أخذوا برمي القطط والكلاب السائبة الى النهر, كانت بالعشرات وكانت تسبح وعيونها الدامعة تستجدي الرحمة والغفران تقترب ثم تبتعد عن الجرف . كانوا يقهقهون ويضربوها بالعصي والحجارة فكانت تعود الى النهر وتغرق بعد حين متأثرة بجراحها.
حبّة رمل:
-----------
حينما خُلقت, تساءلت؟ قيل لها أنت حبّة رمل.
فرحت حبة الرمل: (لا اشبه غيري أنا انثى و حبة رمل.. سيكون لي بلا شك.. دور عظيم).
ابتسمت اصابع الأقدار في الخفاء, ثم تحركت برشاقة لترفعها من مكانها المجهول وتضعها بين حبات الرمل الساخنة ..برفق.. بين اخواتها وسط... الصحراء....!
الثمرة:
--------
نظر القرد من موضعه فوق الشجرة الى شيء يلمع بين الأغصان فظنه ثمرة. قفز من مكانه عدة قفزات وحينما وصل ذلك الشيء الذي أثار انتباهه لم يعثر على أي ثمرة بل وجد فجوة باهرة الضوء. نظر القرد عبرالفجوة فرأى أمرأة مستلقية على ظهرها تأخذ حماما شمسياً. تأمل القرد المرأة العارية طويلاً ثم قفز مبتعدا عن الفجوة بلا مبالاة.. بعد مرور ساعة من الزمن سيطرت عليه رغبة عارمة للعودة الى تلك الفجوة والنظر الى المرأة من جديد. وحينما وصل الفجوة وفتش في كل الزوايا لم يعثر على شيء, كانت المرأة قد غادرت المكان. قفز القرد الى غصن قريب وانتزع بغضب ثمرة طرية من ثمار المانجو, قضم منها قطعة ولاكها بإنفعال واضح ودون تركيز. استغرب القرد للطعم الغريب الجديد المستحلب في فمه . كان عقله قد استعاد طعم ثمرة المخيلة.
جاذبية
--------
حينما كنت صغيراً .. والعالم ما يزال مجهولاً, يزخر بكل أنواع السحر والغموض والغرابة.. جاء إلى دارنا إبن خالتي صلاح الذي كان يكبرني بثلاثة أعوام وأسرّني أنّه اكتشف أخيراً الطريقة الصحيحة للطيران..قال : هناك قوة خاصة إسمها الجاذبية لو تحررت من أسر قبضتها للحظة فإنك ستطير.. كل محاولاتنا المرهقة باءت بالفشل طبعاً.. ولكنّي مع الزمن اكتشفت طريقتين سحريتين للتخلص من سطوة الجاذبية التي تغلّ الإنسان إلى الأرض هما: العشق .. والفن!